كل مشروع تنمية يجب أن تكون ورائه رؤية وانحياز اقتصادي واجتماعي، هذا هو ما يميز مشروع محمد علي وكذلك مشروع الرئيس جمال عبدالناصر. أما السادات وتوابعه فمشروعهم قائم على التبعية والخضوع لشروط رأس المال العالمي وتقسيم العمل الدولي ومعتمد علي الخارج في الاستيراد والقروض. لكن الفترة منذ 2014 وحتى الآن تتميز بملمح مختلف رغم وجوده طوال العقود السابقة منذ منتصف السبعينيات.
فإن حجم القطاع العقاري أخذ يتضخم وأصبح صانع السياسة الاقتصادية يرى المقاولات والعقار قاطرة للتنمية وهو ما رفع معدل الفقر من 26% عام 2015 إلى 32% عام 2017/2018 إضافة إلى تضخم المديونية المحلية والخارجية وتزايد عجز ميزان المدفوعات والموازنة العامة للدولة. بما يعطي مليون دليل على فشل التنمية العقارية كركيزة للمشروع التنموي القائم على الحفر علي الناشف والردم.
التنمية لها دعامات وأساسها البشر والمشاركة الشعبية في صنع وتنفيذ الخطة والرقابة عليها. كذلك أثبتت كل التجارب المحلية والدولية أنه لا تنمية بدون القطاعات السلعية وعلى رأسها القطاع الزراعي والقطاع الصناعي.
اقرأ أيضًا.. حوار| إلهامي الميرغني: “التخبيط عنوان الاقتصاد المصري”.. والقطاعات تعيش في جذر معزولة
القطاع الزراعي
يوجد عداء للزراعة المصرية والفلاح المصري والاعتماد علي الخارج في توفير غالبية الاحتياجات التي كانت تنتج في مصر. ويتم ذلك بتحطيم وسحق نمط الإنتاج الفلاحي الصغير رغم ارتفاع نسبة سكان الريف إلى المدن في نتائج آخر تعداد للسكان في 2017 والذي أوضح أن 57% من السكان يعيشون في الريف. كما جرمت الدولة البناء على الأراضي الزراعية وحصلت المليارات في التصالح بينما هي أكبر متعدي على الأراضي الزراعية.
منذ شهور تضج صفحات التواصل الاجتماعي بمذابح الأشجار التي تقودها الأجهزة التنفيذية للدولة والتي قلصت المساحات الخضراء وقطعت أشجارًا يزيد تاريخ زراعتها على 150 سنة لتساهم الدولة ذات التوجه العقاري في زيادة الاحترار وتحويل المدن المصرية إلى جحيم لكي تدفع الصفوة للهجرة للعاصمة الإدارية الجديدة حيث الماء والخضرة وجنات النخيل والأعناب والبحيرة الصناعية في قلب الصحراء والنهر العظيم وأكبر مسجد وأوسع كنيسة وأعلى برج في أفريقيا. هذه هي التنمية التي تنفق 3.6 مليار دولار على قطار كهربائي معلق لخدمة سكان حزام الصفوة المبشرين بالجنة.
اقرأ أيضًا.. “الخروج من المأزق”.. روشتة تعافي الاقتصاد المصري بعد أزمة كورونا
رغم حظر أعمال البناء اتخذت الحكومة خطوات لتبوير أراضي مراكز بحثية زراعية وتحويلها لأرض مباني. فحكومة المقاولين والمطورين العقاريين لا تعرف الزراعة والمزارعين لكنها تعرف الهدم والإزالة والتبوير وخلال آخر شهرين تم اتخاذ قرارات بتحويل عدد من المزارع البحثية إلى مشروعات إسكان ومنها:
- مزرعة كلية الزراعة جامعة المنوفية في قرية الراهب وهي المزرعة الرئيسية للكلية والمقامة علي مساحة 55 فدانًا تقرر نزع ملكيتها وإقامة مشروع إسكان اجتماعي عليها. تبوير الأرض الزراعية لمصلحة من؟! وهل يمكن تعليم طلاب الزراعة نظريًا بدون مزرعة تعليمية للطلبة؟! هل البناء والخرسانة أهم من الزراعة. لقد اتخذ مجلس الكلية قرارًا بأن الاستمرار في نزع ملكية أرض الكلية بالراهب يدفعهم لتقديم استقالة جماعية لأنه لا يمكن تدريس زراعة نظري بدون مزرعة نموذجية للكلية؟!
- محطة كفر حمام للبحوث الزراعية بالشرقية وهى مقامة علي مساحة 36 فدانًا.
- بهتيم للبحوث الزراعية بشبرا الخيمة وهى مقامة علي مساحة 360 فدانًا.
- محطة بحوث الدواجن بالإسكندرية وهي مقامة على مساحة 12 فدانًا.
ويستمر مسلسل التخريب والتدمير للأراضي الزراعية الخصبة وتبويرها لتتحول إلى أراضي بناء ولتذهب الزراعة والفلاحين إلى الله يشكون مقاولي الحفر والردم وبلدوزرات الدولة التي كانت تحمي الأرض الزراعية وأصبحت معاول للهدم.
وما يتم في هذه المراكز البحثية ومذابح الأشجار الممتدة في جميع أنحاء مصر. بحيث لا تكاد تخلو مدينة مصرية من معاول الهدم والقضاء على المساحات الخضراء. وعلي سبيل المثال في مدينة المنصورة فقط يتم تدمير ثلاث حدائق هي حديقة هابي لاند التاريخية وحديقة صباح الخير وحديقة عروس النيل وتحويلهم إلى أبراج سكنية ومولات تجارية. ألا يعد ذلك مخالفة من الحكومة وأجهزتها لقوانين حظر البناء على الأراضي الزراعية؟! أم إنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ؟!
اقرأ أيضًا.. الاقتصاد المصري الرابح الأساسي من المصالحة الخليجية
القطاع الصناعي
كما يحدث في الزراعة يحدث في الصناعة. فالمقاول والمطور العقاري لا يعرف أن المصنع له وظيفة إنتاجية وأنه ينتج سلع حيوية ويوفر قيمة مضافة ويوفر فرص عمل بل ينظر إليه كقطعة أرض تصلح للاستثمار العقاري فقط .
منذ بدأت مصر تبني سياسة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة وبيع المصانع بعد تخسيرها ودائمًا لا ينظرون لدور المصنع ضمن منظومة التصنيع في مصر وتكامل حلقاتها أفقيًا ورأسيًا بل يفكرون في سعر متر الأرض وكم يحقق من أرباح وكم يجني البعض من ورائه من عمولات.
عند بداية بيع الشركات عام 1994 كانت شركة المراجل البخارية ركيزة التصنيع الثقيل وأساس أي صناعة نووية لينظر إليها المقاولون ومطوري العقار باعتبارها أرض مساحتها 33 فدانًا و22 قيراطًا على النيل في منيل شيحة بالجيزة وتم بيع الشركة مقابل 17 مليون دولار (56.1 مليون جنيه حيث كان سعر الدولار 3.3 جنيه) بينما كانت قيمة الأرض فضاء بدون الماكينات وقتها حوالي 390 مليون جنيه، وتجاوزت الآن المليار جنيه.
وصدر حكم بعودة الشركة للدولة ولكن دولة المقاولين لم تنظر للمصنع وعودته بل نظرت لقيمة الأرض الآن وما يمكن أن يقام عليها من مشروعات عقارية.
أما أرض شركة الدلتا للأسمدة في طلخا فتقدر بنحو 150 فدان وبها بنية أساسية تتجاوز قيمتها 10 مليارات جنيه وفقًا لدراسات مهندسي الشركة بخلاف المصانع والمعدات التي تعمل وأكثر من 2700 عامل عمالة مباشرة وأكثر من 1500 عمالة غير مباشرة. وقدر وزير قطاع الأعمال هشام توفيق مساحة أراضي الشركة بحوالي 234 فدانًا (مصراوي – 1 يناير 2021).
لكن مقاولي الحفر والردم والسماسرة يرون أن الأرض تصلح لإقامة كمبوند ومدينة سكنية وأن قيمة الأرض تزيد عن 12 مليار جنيه. لذلك يتحمس محافظ الدقهلية للصفقة لأن نصيب المحافظة 15% من ثمن بيع الأرض أي حوالي 1.8 مليار جنيه، ولتذهب الأسمدة والفلاحين والعمال للجحيم المهم الأرض والعمولة.
نفس الوضع ينطبق علي شركة الحديد والصلب التي تملك 790 فدانًا في منطقة التبين إضافة إلى أراضي أخرى في أسوان والواحات البحرية. فالمقاول لا يرى مجمع مصانع ولا حلقة رئيسية في التصنيع ولا صناعة قائمة على تحويل خام الحديد إلى عديد من أنواع الصلب، لأن قيمة الأرض لدى مقاولي الحفر على الناشف أهم من أي صناعة وليرحم الله العمال.
هل يقف التخريب عند هذا الحد ؟!
أرض شركة مصر للغزل والحرير الصناعي في كفر الدوار تملك 2.6 مليون متر سيتم إزالتها ضمن محور المحمودية وتحويل الباقي لأراض مباني، شركة مصر للغزل والنسيج في كفر الدوار باعت 264 ألف متر وشركة مصر صباغي البيضا باعت 51 ألف متر بسعر 300 جنيه للمتر بينما السعر الحقيقي في المنطقة لا يقل عن 800 جنيه. كثير من هذه الأراضي بيعت بالأمر المباشر وقدم العمال والمواطنين عشرات الشكاوى والبلاغات للنائب العام حول إهدار المال العام ولم يحدث شئ.
كما تقدم محمد جاد عبدالرحيم عضو مجلس إدارة سابق بشركة “سيد للأدوية” ببلاغ للنائب العام بشأن بيع الشركة القابضة للأدوية لأرض شركة سيد بالهرم بقيمة 205 آلاف جنيه في حين أن سعرها الحقيقي يقدر بـ 635 مليون جنيه (جريدة المال – 4 مارس 2008).
عندما يصبح مقاولي الحفر والردم هما أصحاب السياسة الاقتصادية وعندما تصبح البلدوزرات وسيلة للتنمية وعندما تسحق الزراعة والصناعة لصالح التطوير العقاري وعندما تتحول مذابح الأشجار والحدائق العامة إلى محاور مرورية وكباري وطرق يبقى أنت أكيد أكيد في مصر.
وإذا لم يعود الارتكاز علي الزراعة والصناعة فلا مستقبل لمصر، وإذا لم يشارك البشر في وضع خطط التنمية وتوجهاتها وصنع السياسات العامة سترتفع معدلات الفقر وتتزايد الديون ويعم الخراب. فانتبهوا أيها السادة.