في “الأوديسا” ملحمة “هوميروس” الرائعة يضل “وديسيوس” البطل العائد منتصرًا من معركة “طروادة” الطويلة والعظيمة، والتي تمكن فيها اليونانيون من إحراز النصر بفضل دهاء أوديسيوس العظيم. (كان صاحب فكرة الحصان العملاق المصنوع من الخشب، ويختفي بداخله الجنود، فيفتح له قادة طروادة أبوابها ظنا منهم بأن اليونانيين قد أصابهم اليأس ورحلوا بغير عودة، وفي الليل يفتح الجنود المختبئون في داخل هيكل الحصان الخشبي العملاق أبواب المدينة لمقاتلي اليونان ويجهزون على المدينة).
اقرأ أيضًا.. أحلام الفلاسفة (1) تعثر البدايات وروعتها
يضل أوديسيوس طريقه في العودة ويخوض معامرات ليس محلها هنا، ولكن بينما الحال على هذا النحو، كانت زوجته تتعرض لتهديدات وإغراءات من قبل الأمراء الشبان من المدن اليونانية، رغبة في الزواج منها، طمعًا في الملك، ولكنها وعدتهم جميعًا بأنها ستجيبهم، وترد على طلبهم بالخبر اليقين عند الانتهاء من غزل رداء كانت تصنعه لولدها، بينما كانت “بنيلوبي” زوجة أوديسيوس المخلصة تفك في الليل ماحاكته يداها في النهار، في تكرار لحدث استمر على مدار فترة غياب زوجها الطويلة، معللة نفسها بأمل العودة.
لكن وعندما يعود الزوج ويتمكن من التخلص من خطابها جميعًا بعدما عاثوا فسادًا، تواجه بنيلوبي زوجها الماكر بدهاء مماثل، فعلى الزوج أن يثبت لزوجته أنه هو أوديسيوس العظيم، وطالبته بأن يصف سرير الزوجية الذي صنعه بيديه ولم يره غيرهما.
إن التكرار الذي كانت تقوم به كل يوم في حياكة الرداء وفكه مرة أخرى، أكسبها خبرة ودهاء من نوع ما، لم يكن في كل مرة تقوم بهذا الفعل ترى أنها تكرره، إنه فعل جديد ف كل مرة، لم يكن نفس الرداء، ولم يكن نفس الغزل، وفي اختبارها لزوجها، كانت تتأكد من كونه مازال يذكرها، ومازال يذكر حياتهما معا.
اقرأ أيضًا.. أحلام الفلاسفة (2) الذئاب المنفردة
فهناك دائمًا بين البشر ما هو متفق عليه، مفردات لغوية تواطأ عليها المجتمع، قواعد سلوكية اتفقوا على احترامها، عادات وتقاليد ورثوها تحفظ كيان هذا التنظيم بأفراده وبمجموعه، قيما مشتركة.. إلخ. بينما ظهر السوفسطايون لينقضوا على كل هذا في لحظة تاريخية ملأها الشك، ولم تكن لحظة انحطاط أو تدهور، بل لحظة تأمل كاذبة ونفعية، فالإنسان (الفرد) غير قادر على التحكم في مصيره، وليست لديه القدرة على حل ألغاز القدر الخفية، وحياته القصيرة لا تكفي لأن يصل لحكمة من نوع ما، مهما كانت هذه الحكمة.
لا شيئ يبدو على ما هو عليه، لا نستطيع أن نصل إلى معرفة من نوع ما، يعجز العقل عن التيقن من خبر، أو التوصل إلى رؤية، أما الحواس فهي خادعة بالضرورة، ومناط تميزنا البشري (وهو اختراع اللغة) زائف ومربك، وتدفعنا إلى الشك بمقدار ما تدفعنا إلى اليقين، فاللغة على حد قول “ميشيل فوكو” ربما لا تقول فعلًا ما تقوله، فهناك احتمال ألا يكون المعنى المقصود هو ما نفهمه، أو توصلنا إليه بشكل مباشر، إنه معنى ناقص بالضرورة، وربما هناك معنى آخر، وبهذا المعنى (المخيف) يعلن “السوفسطائيون” ضياع المعنى، ويؤكدون أن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى معرفة من نوعا ما، وبينما يسعى الفرد إلى التمحور حول الزمن في ماضيه، وحاضره، ومستقبله، يرفض السوفسطائي، ويعلن “لا توجد سوى هذه اللحظة” ولا يوجد عقل جمعي، فالفرد هو مقياس كل شيء، ما هو موجود، وما هو غير موجود، على المستوى المعرفي، مثلما هو على المستوى الأخلاقي، الفرد هو وحده مقياس كل شيء، يحدد الصواب والخطأـ مثلما يحدد الحقيقة والزيف، الصادق والكاذب.
ما الذي تعنيه مقولات من هذا النوع، ببساطة ووضوح لا يمكن للإنسان أن يتوصل إلى معرفة ما، لا يستطيع أن يتفق (إثنان) على فكرة، أو أن يتوصلا بالتالي إلى معنى ما، تمام مثل عجزهما عن التوصل إلى قيمة ما، فيغرق المجتمع في غياهب الظلمة، والاضمحلال، فلا معرفة، ولا علم، ولا قواعد أخلاقية ضمنية، أو متفق عليها، فالفرد مصدر الحكم على ما هو حق وما هو باطل، ما هو خير وما هو شر، ما هو جميل وما هو قبيح.
يرى سقراط أنه ربما لا نستطيع أن نتوصل لمعرفة بهذا العالم الذي يتغير باستمرار، على حد زعم “هيراقليطس”، والعقل لا يمتلك القدرة على اكتشاف جوهر العالم، وفي هذه اللحظة كان الحديث عن العالم، يختلط فيه العلم بالخرافة، والخرافة بالمنطق، وجميعهم يغلف بغلاف ديني مقدس، وعندما أتى السوفسطائيون، أزاحوا كل هذا في لحظة تاريخية، ليقف العقل حائرا لا يلوي على شيء.
أي الأشياء هي المبدأ الأصل؟ كيف لنا أن نمسك بزمام الأشياء في ظل الصيرورة ؟ أين يقف الإنسان من هذه الفوضى العارمة؟ كيف يدرك العالم؟ا هي أداة إدراك العالم.. العقل.. الحس؟
اقرأ أيضًا.. أحلام الفلاسفة (3) في معنى أن تفكر
ولقد كانت الوسيلة (والغاية) التي تمكن بها السوفسطائيون من هز كافة المعتقدات اليونانية هي اللغة، فعن طريق اللغة تمكنوا من إسقاط كافة الأنظمة. وفي هذه اللحظة التاريخية ذاتها، تمكن فلاسفة ثلاثة من إعادة بناء الفكر، وفق منظومة يبدوا ممكنا عبرها التواصل مع العالم، والبقاء فيه: سقراط- أفلاطون- أرسطو. حيث كان ثلاثتهم مشروعًا واحدًا وصل قمته عند الأخير.
إن اللحظة التي أدرك فيها الفلاسفة اليونان مفهوم التغير “الصيرورة” تعد لحظة فارقة، إذ ظل هذا التعارض الميتافيزيقي قائمًا على هذا النحو “الثابت / المتغير” (بارمنيدس / هيراقليطس)، وهذا التعارض بدوره أدى إلى صعود مفهوم “الماهية” في بداية الأمر، وفي صورته البسيطة على يد سقراط، عبر المفاهيم الأخلاقية: مثل الشجاعة، الفضيلة.. إلخ.
وعبر الرغبة في التعرف على الذات، والوصول إلى ماهية الإنسان، وأسلوب اتسم بالسخرية اللاذعة، تمكن سقراط من هزيمة خصومه، واستطاع أن يصل إلى المعنى، رغم فداحة الثمن الذي دفعه في سبيل ذلك، وفي مواجهة غوغائية (سوفسطائية) في داخل مجلس العامة، اتخذ جميعهم قرارًا بإعدامه بطريقة تنم عن شماتة وكراهية (الإعدام عبر إجباره على أن يشتجرع السم بيده وبإرادته)، ولكن ورغم موته ظلت كلماته وأفكاره في أذهان تلامذته، وتمكن أرسطو من وضع ميتافيزيقا “الماهية” في صياغتها النهائية، طارحًا مزيد من الثنائيات المتعارضة: (المادة / الصورة)، (القوة / الفعل)، (الجزئي / الكلي) وكلها تنويعات على التعارض الرئيسي (الثابت / المتغير )، وعبر منهج معرفي عقلي واضح وهو “المنطق الصوري”.
في هذه الفوضى، في غياب المعنى، يظهر النحات البسيط، ذو الوجه الغليظ، والسمت الساذج، ليتمهل قليلا ويستعيد روح الفلسفة، فالفلسفة ليست ما توصل إليه أحدهم من رؤى وأفكار (رغم أهميتها)، بل تدور بالأحرى حول (السؤال)، فإذا كانت الرحلة دائما ما تكون أهم من نقطة الوصول، فالسؤال هو الأهم من كل الإجابات، وربما يوصلنا التساؤل المناسب إلى أفق معرفية جديدة، أكثر رحابة، وأشد تماسكا عن ذي قبل، توقف “سقراط” ليسترجع الطريق حول ما يريده (الإنسان)، أوقف الفوضى المعرفية، والأخلاقية، واستعاد (المعنى)، بوصفه فعلا إنسانيا، فربما لا يحتوي العالم على معنى ما، ولكننا قادرون على صنعه، قادرون على منح العالم (معنى). على الإنسان أن يتوقف قليلا، ويكف عن محاولة تفسير/معرفة العالم، ليستعد في البدء (ذاته)، ويتعرف عليها، (اعرف نفسك!) وهذه كانت مقولته الأساسية.