طالما شغل البحث وراء صورة المرأة في السينما المصرية، كل من المشتغلين بالقضايا النسوية، والمهتمين بالحركة السينمائية. وفيما كن “هن” من مؤسسي الصناعة، إلا أن اهتمام الصناعة بقضاياهن كان محض تساؤلات.
وبالرغم من أن التاريخ السينمائي المصري، يظهر كمشهد قوامه رجالي، إلا أن ضربة البداية كانت من نصيب النساء. فاللمفارقة أول فيلم مصري، قامت بإنتاجه وإخراجه وبطولته امرأة، هي الفنانة الشاملة عزيزة أمير، ويدعى “ليلى”.
يورد عبدالمنعم سعد في كتابه “موجز تاريخ السينما المصرية” أنه يمكن اعتبار عام 1927 هو التاريخ الفعلي لنشأة السينما المصرية. بالمعنى المتعارف عليه ويؤكد دور المرأة في إنشاء شركات إنتاج سينمائية، حيث كانت في مقدمة هؤلاء عزيزة أمير. التي أنشأت “ستوديو هليوبوليس” عام 1927. كذلك أنتجت لفيلم “ليلي” أول فيلم مصري روائي طويل.
كما لحقت بأمير السيدة بهيجة حافظ، كممثلة، مخرجة، كاتبة، مونتيرة، ومؤلفة موسيقية. كذلك دشنت شركة “فنار فيلم” وأنتجت فيلم “زهرة السوق” عام 1947، الذي كتبت قصته. كذلك وضعت ألحان أغنياته وموسيقاه التصويرية.
الشخصيات النسائية المؤثرة توالت سواء على مستوى الإنتاج، أو التشخيص، وإن شح التمثيل النسائي على مستوى الإخراج. كما كان من أبرز هؤلاء المنتجة آسيا داغر، مديحة يسري، وغيرهن.
ولكن الملاحظ أن البدايات القوية للمرأة على مستوى الإنتاج أو التمثيل، لم تنعكس على مستوى المضمون. فالهموم النسائية لم تكن الشاغل الأول للفن حينها، حيث كانت الدراما تميل للقيم المحافظة، والعلاقة التقليدية مع المحبوب.
اقرأ أيضًا.. الفرق بين “النسوية الإسلامية” و”فنكوش” عادل إمام
سينما المرأة
مصطلح “سينما المرأة” خضع للعديد من الآراء المتناقضة، ولم يتم الاتفاق حوله بشكل قاطع. على سبيل المثال المخرجة اللبنانية ديما الجندي ترى أنه لا وجود لسينما المرأة. بل هناك سينما وفن وحرية التعبير والتأليف. تشمل المرأة والرجل على حدّ السواء.
وعلى مستوى الرأي المؤيد لأهمية مفهوم “سينما المرأة”، قال المخرج التونسي فريد بوغدير إن المرأة حاضرة في السينما التونسية والعربية. بجميع أنواع الصور، قوية وضعيفة وعاشقة منتقمة وطموحة. كذلك اختيار المرأة كموضوع في الأفلام هو أداة لمعالجة قضايا المجتمع.
وبغض النظر عن القبول، والرفض، يظل الحضور القوي للمرأة في السينما، أمر يستوجب طرحه كقضية وموضوع. كذلك جزء من الصناعة نفسها.
في السياق نفسه كشف حراك “مي توو” أو “أنا أيضًا” الذي بدأ في هوليوود عن المسكوت عنه في صناعة السينما. من انتهاكات تتعرض لها النساء، وحوادث عنف، وتحرش.
وحول هذا تقول المخرجة هالة جلال: “إن كان الناس يقفون في صف المتحرش ضد النساء في الشارع. فما بالنا بالعاملات في صناعة السينما، وتحديدًا الممثلات. اللاتي يراهن كثيرون نساء يعرضن أنفسهن. ورغم أن المخرجة تلقى نوعًا من التقدير في مجتمعنا باعتبارها صانعة العمل وإنسان له تفكيره. فإن ذلك لا يحول دون تعرضها للعنف الجنسي، وبشكل شخصي لقد تعرضت من قبل للتحرش اللفظي في موقع التصوير”.
وبين هذا وذاك ظلت صورة المرأة الحالمة، المطيعة لإرادة الرجل هي المسيطرة على المشهد لوقت طويل. بينما يجري وصم المرأة المتمردة على السلطة الأبوية، أو المطالبة بحقوقها.
اقرأ أيضًا.. قراءة في غضب النساء: النسوية بين الطريق الواحد والخيارات المتنوعة
“حضرة الأفوكاتو مديحة والأستاذة فاطمة”
في فيلم حضرة الأفوكاتو مديحة (مديحه يسري) شقيقة محمد أفندي “يوسف وهبي”، تعلمت في البندر مع أبناء الباشا. حتى تخرجت محامية، ويظهر الفيلم البطلة المتمردة على أصولها الريفية نتيجة تعليمها العالي. كذلك أثر على طريقة ملبسها ومأكلها ومشربها.
وتنحل عقدة الفيلم بعودة الأفوكاتو إلى مسقط رأسها بعد هروبها من القرية على أمل تحقيق أحلامها في المدينة. كذلك الزواج من ابن عمها الذي سبق وأن رفضت الاقتران به.
ويظهر الفيلم الوضع كما لو أن التعليم والطموح إلى جانب المطالبة بقيم التحرر والمساواة والنسوية سببًا في إفساد المرأة. إلى حد مواجهة أخيها لها بعبارته الشهيرة “عليك لعنة الفلاح”.
وبشكل أو آخر كانت “التيمة” الرافضة للقيم التحررية للمرأة، لب الموضوع في “الأستاذة فاطمة” إنتاج 1952 بطولة فاتن حمامة وكمال الشناوي.
وفيه حاولت “فاطمة” منافسة البطل الرجل كمال الشناوي في دخول مهنة المحاماة والنجاح وتحقيق الذات فيها. بينما تخلل الفيلم مشاهد تسخر من طوح البطلة، ومحاولات مساواتها بالرجل على المستوى المهني.
واختتم الفيلم رؤيته باعتزال فاطمة العمل، وزواجها من البطل بعد أن أتمت مهمتها في الذود عنه، وإنقاذه من القضية التي تورط فيها. ما بدا في مضمونه تكريس لقيم التبعية، والسيطرة من قبل الرجل.
صعود الستينيات
تمسكت العديد من الأفلام بتلك الخلطة الرجعية، حتى جاءت الستينيات، وما صاحبها من حركات التحرر الوطني. وصعود للقيم الاشتراكية، التي كان من المنتظر أن تكون المرأة جزء منها.
فظهرت أفلام لعبت فيها المرأة دورًا فاعلًا مثل فيلم “مراتي مدير عام”، والتي لعبت فيه شادية دور رئيسة زوجها في العمل. إلى جانب مجموعة من الرجال الرجعيين في الأساس.
ولكن عبر معالجة كوميدية طريفة تعرض الفيلم لحقوق النساء، مؤكدًا العلاقة التشاركية بين الرجل والمرأة، في العمل والكفاح.
المؤرخ والناقد السينمائي محمود قاسم لفت في كتابه “المرأة في السينما المصرية” إلى دور الأعمال المأخوذة عن الكاتب إحسان عبدالقدوس. كذلك اعتبرها أدوات تحول ملحوظ في المجتمع مثل دور التلميذة علية “ماجدة” في فيلم “أين عمري”. التي لا تلبث أن تكتشف ما يحدث حولها فترفض تسلط زوجها الثري العجوز، وتطلب الطلاق.
قاسم لفت إلى رواية “الباب المفتوح” للدكتورة لطيفة الزيات، الذي يدور حول الجامعية التي تتحول لتساند أبطال المقاومة ضد الاستعمار. وهو دور قريب من شخصية المدرسة في فيلم “لا وقت للحب” إخراج أبو سيف، والذي يكشف بدوره عن الدور النضالي للمرأة.
“سيدة الشاشة العربية”
بدت سيدة الشاشة العربية من الوجوه المهمومة بالقضايا النسوية، يشهد على ذلك بطولتها وإنتاجها لعدد من الأفلام التي ناقشت حقوق المرأة. في أفام مثل الحرام، أفواه وأرانب، ودعاء الكروان الذي ناقش لأول مرة جرائم الشرف.
ويعتبر فيلم “أريد حلًا” أول حوار وجدل سينمائي يخص قانون الأحوال الشخصية، الذي كتبت قصته الكاتبة الصحفية حسن شاه. كذلك أخرجه الراحل سعيد مرزوق، كما يعد من أهم 100 فيلم مصري.
الفيلم يبرز ثغرات القانون، والظروف القهرية التي تعيشها المرأة في ظله. بينما لعبت الراحلة أمينة رزق مشهدًا وحيدًا، لكنه أثر في ملايين النساء.
فهي الزوجة التي تخلى عنها زوجها بعد 30 عامًا من دعمه، ومساعدته في التقدم بحياته. بينما لا يضمن لها القانون أي حقوق بعد الطلاق.
ومن التأثيرات المهمة للفيلم على مستوى واضعي السياسات. أن الرئيس أنور السادات تحدث في أحد المؤتمرات عن رغبته في إصدار قرار بتغيير قانون الأحوال الشخصية.
ويعتبر “أريد حلاً” أول فيلم يناقش فكرة الخلع، من خلال المشهد الذي دار بين فاتن حمامة ووزير العدل. عندما اشتكت للوزير، وقالت له إن الرسول جاءت له زوجة ثابت بن قيس، وقالت لا أعترض عليه في خلق أو ديـن، وإنما لا أطيقه بغضًا. فأمر الرسول بتطليقها.
وفي فيلم “أفواه وأرانب” ترفض البطلة تزويجها قسرًا، وتحاول أن تبدأ من جديد، فتشارك الرجال قيم العمل. إلى جانب النقاش الدائر حول تبعات الزيادة الإنجابية.
“المرأة تسحب البساط من تحت أقدام الرجل رويدًا. فهي تصعد بسرعة، كاتبة ومخرجة وممثلة، وهو ما يدفع الرجال للغيرة على مكانتهم الاجتماعية. فكرّسوا فكرة المرأة كجسد. يصدرونها لشاشات السينما، ولا يستطيعون تحمّل سباق حقيقي بينهم وبين النساء. لا زال أمامنا أشواط حتى نستطيع التغلب على تلك الحرب الخفية الأزلية بين الرجال والنساء”.
المخرج والفنان سعد أردش
استمرت المساحة النسوية النسبية التي فرضها الظرف التاريخي لفترة الستينيات والسبعينيات خلال الثمانينيات. إلا أنها بدأت في الانكماش. كما انحصرت في مناقشات تخص هموم الطبقة المتوسطة والعليا فيما ندر الحديث عن المرأة العاملة مثل فيلم “أحلام هند وكاميليا”.
ومع ذلك شهدت الثمانينيات والتسعينيات عودة النساء كمخرجات وكانت إيناس الدغيدي وأفلامها النسوية ومنها “عفوًا أيها القانون” بداية الانفتاح. إلا أن تلك العودة لاترتبط بالضرورة بالتوسع في مناقشة قضاياهن. فليس كل النساء مولعات بالحديث عن ما يخصهن!!
صورة مشوهة
في دراستها تحت عنوان “صورة المرأة في التسعينيات” اعتبرت الباحثة إحسان عبدالمجيد أن السينما شوهت صورة المرأة المصرية. كذلك قدمتها بصورة سلبية، ولم تركز على مشكلاتها الحقيقية. وبالتالي جاءت الصورة بعيدة عن الواقع إلى حد كبير.
إحسان أضافت أن السينما أغفلت خلال نفس الفترة قضايا المرأة الفلاحة. وركزت على المرأة العصرية دون التعرض للأبعاد الحقيقية لشخصيتها من الناحية الإنسانية. فضلًا عن أن سينما التسعينات لم تقدم اقتراحات إيجابية لحماية المرأة من كافة أشكال التعدي عليها وعلى حقوقها.
كما لفتت الباحثة إلى أن السينما خلال عقد التسعينيات جعلت للرجل نصيب الأسد في الأدوار الرئيسية. كذلك استحوذ على الجانب الأكبر من اهتمام الجمهور، لتظل المرأة في خلفية الأحداث.
الدراسة نشرها مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية، رصدت ظهور الصورة السلبية للمرأة في سينما التسعينيات 25 مرة مقابل 15 مرة إيجابية. منها فيلم “اغتيال مدرسة” الذي يجسد صورة المرأة التي تدافع عن حقوق أبنائها. وفيلم “إلا أمي” الذي يجسد دور المرأة التي تتصدى لمواجهة المشكلات المترتبة على وفاة الزوج. كذلك فيلم “الجراج” الذي صور المرأة التي تحاول حل المشكلات والأزمات التي تتعرض لها هي وأبناؤها.
تيمور وشفيقة العودة إلى الخلف
يميز البعض فترة الألفينيات بفيلم “تيمور وشفيقة” الذي يمثل تراجعًا في مكتسبات المرأة، والرجوع بالزمن إلى الخلف. بعد أن حاول صانعوه، تمرير رسالة مفادها بـ”الست ملهاش إلا بيتها”.
وتصف مدونة ويكي الجندر الفيلم بـ”المعادي للنساء”، بسبب محتواه التمييزي والذكوري ضدهن. إذ يعلي من نجاح الرجل، ويصور نجاح المرأة المادي والاقتصادي في المقابل على أنه حاجز ضد سعادتها. كما يبرر الفيلم المفهوم البطريركي الذي يدعو المرأة أن تتنازل و”تضحي” من أجل الرجل.
وعلى مستوى الصناعة لعبت المرأة خلال فترة الألفينيات دورًا ثانويًا في السينما كحبيبة الرجل، أو التابعة له في جميع القرارات. وبما لا يخالف قواعد السلطة الأبوية، إلا في حالات نادرة.
وخلال السنوات الأخيرة عادت سينما المرأة، لأخذ بعض من مكانتهن المنشودة، وإن كان على استحياء. فقادت أفلام مثل احكي ياشهرذاد، و يوم للستات، حظر تجول، محاولات العودة النسوية إلى الواجهة.
ولعبت النساء خلف الكاميرا مثل كاملة أبو ذكري، هالة خليل، وساندرا نشأت، وغيرهن، دورًا مهمًا في عودة “هن” إلى الساحة. كذلك ساعدن في فرض قضاياهن من جديد، رغم ما يعانون من تمييز بحكم موقعهن الأضعف.