منذ فبراير الماضي وهن حبيسات مسافة الآمان. مسافة يحسبنها بدقة تتحول إلى حاجز يقف بينهن وبين أحبائهن من أهل وأبناء. نساء ممرضات وطبيبات انضممن منذ اللحظة الأولى لفرق مكافحة وباء كورونا. عملن لأشهر بلا يوم إجازة واحد. اعتصرهن حزن مع كل خيبة أصابت أمهات وآباء فقدوا أحد أبنائهم. وفرحن بجدّة عادت إلى الحياة بعدما كان الفيروس أوصلها إلى حافة الموت.
تحت شعار “النساء ودورهن القيادي: تحقيق مستقبل متساوٍ في عالم يسوده جائحة كوفيد-19” يحتفي العالم باليوم العالمي للمرأة. يحيي الجهود الهائلة التي تبذلها النساء والفتيات حول العالم في تشكيل مستقبل يتمتع العالم فيه بالمساواة، على نحو أكبر وعملهن على التصدي للجائحة والتعافي منها.
طبيبة بدرجة مقاتلة
عام كامل قضته الطبيبة سوسن عبد الموجود أخصائي الكلى، في عملها بأحد مستشفيات العزل بمنطقة العجمي. عام حمل أوقات عصيبة، واختبرت خلاله مشاعر كثيرة ما بين تعب وقوة، ويأس وأمل، ورغبة بنزع السترة البيضاء والهروب، وإصرار على البقاء في الخطوط الأمامية. تقول: “بحكم تخصصي كنت أباشر عملي من داخل العناية المركزة نظرًا لإصابات الكلى الكثيرة، فكان لابد من إجراء عمليات الغسيل لهم ومتابعة أحوال مرضاي عن قرب”.
أوقات حزينة متفرقة عاشتها الطبيبة بعد كل حالة وفاة كان صاحبها يعاني تأخرًا في حالته. هذا فضلاً عن الأطباء الذين كانوا يسقطون أمام أعينها. “فقدنا أطباء ماهرين في مواجهة هذا الفيروس”؛ تقول “سوسن”.
الخوف من نقل العدوى كان يسيطر عليها. حافظت على المسافة الآمنة، فحرمت حضن والدتها بعد الغياب فترة طويلة عن المنزل. وبدلاً من الراحة كانت تواصل العمل لوقاية أهلها من ملابسها. تقول: “أضع ملابسي في الغسالة فور وصولي للبيت، أقوم بتعقيم كل الشنط، بالإضافة إلى عزل نفسي لمدة 3 أيام في غرفة بمفردي خوفًا على والدتي”.
ما تزال الطبيبة سوسن تواصل عملها الذي لم ينته. وعلى الرغم من التعب المتواصل لا تزال تحافظ على اكتساب الطاقتها الإيجابية من المرضى. “منساش دعاء المرضى وأنا بعالجهم وفرحتهم وأنا ببشرهم بسلبية المسحة وعن تحديد موعد الخروج”. حتى إنها تنوى على الاستمرار والصمود في حالة استمرار الفيروس لموجة ثالثة.
مفتشة تمريض الصعيد
قرابة الـ 5 أشهر قضتها مس رضا التوني كما تحب أن تلقب. وتعمل مشرفة تمريض بمستشفى إسنا المركزي في محافظة الأقصر. تقول: “حضرت للمستشفى وجهزتها للعزل وظللت بها حتى آخر حالة خرجت من العزل”. بعد ذلك بدأت مرحلة جديدة بالإشراف على التمريض في مستشفيات 15 مايو وأبو خليفة بالإسماعيلية والهرم. زودت أطقمها بتدريبات، وكذلك عاونتهم في العمل على راحة المرضى وتلبية طلباتهم.
مهمة مس رضا الكبرى التي تولتها بعد حضورها إلى محافظة الأقصر عقب عملها بالقاهرة بتكليف من رئيسها، لم تكن محددة المدة، لكنها طالت. تقول: “حضرت إلى الأقصر في 7 مارس الماضي، مع فريق مكلف من رئيس أمانة المراكز الطبية، لإخلائها من المرضى وتوفير المستلزمات، وكذلك تدريب التمريض المتواجد بالمستشفى”. وتضيف: “أخبرت وأنا بالأقصر باستمرار تواجدي بها، ولم يكن أمامي سوى قبول الأمر نظرًا للظروف الطارئة”.
لم تكن تعلم التوني أنها أصبحت أحد أعمدة المستشفى التي يرتكز عليها الفريق الطبي. فبعد تحويل المستشفى واستقباله الحالات المصابة بكورونا، بدأت مهمة رضا في التوسع وتركت عملها بالقاهرة. “أصبحت مسؤولة عن 20 ممرضًا، ثم تم تزويد المستشفى بعدد آخر، وأصبحت مسؤولة في المجموعة الأولى عن 74 ممرضًا وممرضة، وفي المجموعة الثانية 60، وظلت المجموعات ما بين الزيادة والنقصان حتى إلغاء العزل”.
يتم تبديل الطاقم الطبي من تمريض وأطباء بشكل دوري كل 14 يومًا. ذلك بعد إجراء التحاليل والتأكد من عدم تعرضهم للإصابة. ثلاث مجموعات مرت ولا تزال رضا مكانها لا تأخذ قرار العودة لأسرتها بالمنيا. “لا أفكر في العودة خوفًا على شعور الممرضين أو العمال بأني غير متواجده لأمر سئ أو يظنوا بإني تعبت، فينهار ثباتهم، ولكن طوال رؤيتهم لي هم يشعرون بأن الوضع جيد”.
اعتاد الجميع على رؤية ابتسامة مس رضا. وهي ابتسامة لا تفارقها حتى في أصعب الأوقات. ابتسامة حملت معها المسؤولية، وجعلتها ملاذًا آمنًا للمحيطين بها. “حين نراكِ تبتسمين نشعر بالأمان”؛ هكذا يقول لها مرضاها.
تصف مس رضا أول أيام العزل بـ”الصعبة”. ذلك لارتفاع معدل الحالات الذي كان يصل للمستشفى في بداية الموجة الأولى. وهو الأمر الذي كان شاقًا عليها وعلى أطقم التمريض، لكنها نجحت في اجتياز ذلك الاختبار، وأصبحت داعم نفسي للمحيطين بها، فباتت ضمن فريق النساء المحاربات في زمن الجائحة. “نحن في مهمة قومية للدولة، وليس مهمة عمل، نتعامل بروح المقاتل كل واحد في قسمه”.
مسؤولة تحاليل BCR
بين المعمل والأعمال الإدارية ظلت الدكتورة فاطمة أخصائي التحاليل الطبية، ضمن فرق النساء المحاربات اللاتي واجهن فترة كورونا الطويلة. فهي مسؤولة عن سحب عينات تحليل الـPCR للمرضى والفريق الطبي.
انتقلت فاطمة من عملها بمعهد ناصر إلى إحدى مستشفيات العزل لتكون مسؤولة عن سحب عينات الـPCR ومتابعة المعمل والإداريات. عادت لعملها الذي تفضله وسط أجهزة المعمل والمختبرات. لكنها لا تزال ملتزمة بوصيتها لوالدتها “أن تحافظ على نفسها”.
عن بداية تكليفها، تقول: “تواجدت ضمن الفريق لتأهيل المستشفيات لمنظومة التأمين الصحي في ديسمبر الماضي ومكثت بالأقصر حتى 21 فبراير ثم قمت بالعودة لمنزلي أسبوعًا واحدًا قبل أن أعود مرة أخرى في 28 فبراير، ويتم تكليفي وانتقل إلى مستشفى العزل”.
دون رؤية والدتها وأشقائها، في 14 مارس الماضي انتقلت فاطمة إلى مستشفى العزل، واستقرت به دون تحديد موعد للعودة. ذلك في ظل الإجراءات الاحترازية المفروضة على العاملين بستشفيات العزل. “لم أتردد بعد تكليفي فأنا معتادة على تحمل المسؤولية من عمر الـ 18 عامًا، ومسؤوليتي الآن هي واجب وطني دون الالتفات أنها بأي محافظة”؛ تقول فاطمة المنحدرة من قرية شبرا شهاب التابعة لمحافظة القليوبية.
أكثر من 808 عينة تحليل PCR سحبتها فاطمة بنفسها منذ توليها تلك المسؤولية بين السلبي والإيجابي. “بفرح جدًا، وأطير من على الأرض من الفرحة لو طلعت نتيجة بسحبها سلبية.. هذا معناه أن شخصًا نجا من الجائحة”.
احتفلت فاطمة بعيد ميلادها الـ 38 في صرح المستشفى، بعيدًا عن أهلها، في مفاجئة أعدها زملاؤها وأسرتها الصغيرة بالمستشفى. ولحرصها على إكمال حلقة الفريق الطبي، قررت فاطمة استمرارها بالعمل لفترات أخرى. تقول: “بالمستشفى تسلسل ونظام فبعد انتهاء المدة الأولى 14 يوم للأطباء قدم جدد إلى المستشفى فكان من الواجب علي الاستمرار حتى لا يختل جزء من النظام”.
تصمت الدكتورة فاطمة لبرهة من الوقت، ثم تعود إلى مواصلة الحديث: “نظرًا لعملي طوال اليوم اعتبر وقت كتابة البيانات قسط من الراحة بالنسبة لي”. يبدأ عمل فاطمة من 8 صباحًا ويتواصل على مدار اليوم.
الجندي المجهول
ضمت المعركة، جنود مهمشين، لا تكتمل الصورة دونهم، فعلي الرغم من تحملهم الجزء الأكبر من الخطر. إلا أنهم صامدون، يمارسون عملهم في هدوء وبساطة.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة، تأتي النساء في طليعة المعركة ضد فيروس كوفيد-19، كعاملات في الخطوط الأمامية وفي القطاع الصحي. ومع ذلك يتقاضين رواتب أقل بنسبة 11% على مستوى العالم من نظرائهم الذكور.
لرغبتها في مساعدة أهلها، قررت نرمين عادل التقدم لوظيفة عامل نظافة. بعد تخييرها بين وظيفتها الحالية أو عامل أمن. لكنها لم تدرك أنها بعد 5 أشهر من العمل، ستكون جزءًا هامًا بالطاقم الطبي المسؤول عن مستشفى العزل بإسنا المركزي.
تقول ابنة قرية الشيخ فضيل بمدينة إسنا: “بعد علمنا بتحويل المبنى إلى مستشفى للعزل، قامت الشركة المسؤولة عننا بطرح الأمر علينا للاختيار ما بين العمل لمدة 14 يوم متواصل أو التوقف، وكنت من ضمن المتقدمين من دون تفكير”.
أصغر عاملة بالمستشفى
نرمين صاحبة الـ 17 عامًا وهي أصغر عاملة بالمستشفى أرادت أن تساهم مثل الأطباء والتمريض. نالت التثبيت بين 35 عاملاً آخر، وأصبحت مسؤولة عن نظافة قسم الطوارئ والاستقبال.
واصلت نرمين عملها لمدة 60 يومًا ممتالية خلال الموجة الأولى للفيروس. تقول: “ارتبطت بالمكان وبالدعوات التي أتلقاها من المرضى حين أقوم بمساعدتهم. صحيح كنا قلقين في البداية ولكن الوضع في المستشفى مطمئن الآن”.
وتعمل نرمين لمدة 12 ساعة يوميًا، من 12 ظهرًا وحتى 12 مساءً. وهي تتولى مسؤولية نظافة وتعقيم الأرضيات والأسطح والستائر والحوائط. مع تغير الشراشف وتعقيم الحمامات في حالة حضور مريض للغرفة.
بعدما ينتهي يوم العمل، تعود نرمين إلى غرفتها لتواصل مسؤوليتها الآخرى: “أنا في الصف الثالث الثانوي أزهري حاليًا، ولذلك عندما أعود إلى غرفتي أقوم باستذكار الدروس عن طريق الإنترنت”.
لا تخاف نرمين من العدوى فهي “تضع ثقتها بالله”. بالإضافة إلى اتخاذها كافة الاحتياطات الوقائية، والتي تحرص المستشفى على توفيرها لحماية الجميع. نظرًا لأن العامل هو حلقة الوصل بين كل ما يتواجد بالمبنى، على حد قول نرمين.
ولاعتبارها حلقة الوصل بين كل ما يتواجد بالمبنى، تحرص نرمين على تلافي انتقال العدوى لها: “كل حاجة وليها لبس، أقوم باستبدال الواقيات أكثر من 5 مرات في اليوم على حسب الحالات، نظرا لتواجدي بقسم الطوارئ باستمرار”.
“بحمد ربنا إنه كتبلي أن أكون متواجدة لأساعد وأكسب دعوات المرضى”؛ تقول نرمين عن عملها وكيف بات صفحة ستسجل في تاريخ حياتها. باعتبارها ضمن النساء اللاتي وقفن في وجه الجائحة.