من المؤكّد أن التقاضي الاستراتيجي الحقوقي لا يمكنه أن يحلّ محلّ التنظيم السياسي والحملات السياسية. ففي أفضل الأحوال، يمكن للتقاضي الاستراتيجي أن يكمّل استراتيجيات أخرى من أجل التغيير. لكن مع تزايد تعرض الحقوق الأساسية للتهديد، فلابد أن يبقى التقاضي جزءًا لا يتجزأ من الردّ على أي انتهاكات أو خروقات على المحك العام لقطاع عريض من المواطنين، حيث يبقى القضاء هو الملاذ ضد تعسف الإدارة أو جنوح السلطة وتعسفها ضد حقوق أو حريات يغلب عليها طابع الجماعية، حيث تبقى المحاكم في عالم تزداد السلطوية فيه بشكل مطرد من المساحات القليلة التي يمكن تحدي السلطة فيها، والجهر بالمعارضة، وتحقيق المحاسبة المستقلة، أو بالمعنى الأكثر شمولية إرغام الحكومة على تغيير نوعي في السياسات.
ولما كان إعمال الحقوق ونفاذها يعتمد اعتماداً شديداً على السياسات الحكومية، ومع ذلك فإن مراجعة السياسات الحكومية في هذا المجال، شأنه في ذلك شأن أي مجال آخر، لضمان اتساقها مع المبادئ الدستورية والالتزامات المتعهد بها بموجب قانون حقوق الإنسان الدولي وبالتالي فهي تُعد مهمة من مهام القضاء. وفي حين أن دور القضاء في مراجعة السياسة الحكومية قد يتباين من بلد إلى بلد آخر، فإن مراجعة السياسة الحكومية ليست رسم السياسة العامة. ولذلك فإن القضاء لا يتخطى دوره الدستوري عندما يصدر أحكاماً بشأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل إن ذلك يُعد من قبيل التطبيق الدستوري السليم من الناحية الدستورية أو القانونية النظيرة البحتة، هذا بخلاف مدى أهميته من الناحية الواقعية في تحقيق الرقابة القضائية على أعمال الحكومات ومدى احترامها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وتلك الحقوق أجد أنها لابد وأن توصف بالحقوق المعيشية لاشتمالها على كل مترادفات الحياة للمواطنين من صحة وتعليم وغذاء ومسكن، وما يتفرع من كل تلك الحقوق بشكل إجمالي.
ويمكن للتقاضي الاستراتيجي أن يضيف بعض الضغوط السياسية على الدول للتركيز على بعض المشكلات المتعلقة بإنفاذ الحقوق لمواطنيها، فالتقاضي الاستراتيجي يثير القضايا الحقيقية للمعاناة الإنسانية المرتبطة بالكوارث والآثار السلبية للتغيرات السلبية في مجال إنفاذ حقوق المواطنين، كما أنه يلفت انتباه الحكومات إلى وجود مثالب في طريقة إدارتها، ومن خلاله يتيح للقضاء فرصته للرقابة على تلك الأعمال الجانحة عن حقوق الأفراد، كما أن الأحكام الصادرة في مجال التقاضي الاستراتيجي لا تشكل فقط أحكاماً واجبة النفاذ في أقضية بعينها، ومن ثم وجب إنفاذ ما تضمنته الأحكام من حقوق أو تغيير سياسات، بل أيضا يٌعد مؤشراً للحكومات على مدى تجاوبها مع الرقابة القضائية ومبدأ سيادة القانون، وبشكل آخر توجيه النصح للحكومات حتى تسعى دوما لتحقيق صالح وحقوق المواطنين، والالتزام بالمعايير الحقوقية في رعايتها لمصالحهم، وخصوصاً أن هذا النوع من التقاضي يٌطلق عليه في المدونات الفقهية التقاضي الاستراتيجي بالتقاضي الفعال، والذي يتضمن اختيار ورفع قضية للمحكمة من أجل عمل تغييرات أوسع في المجتمع، وعادة ما يهدف من يستخدم التقاضي الاستراتيجي إلى استخدام القانون لترك علامة دائمة أكثر من مجرد ربح القضية في ذلك الوقت، وهذا يعني بأن حالات التقاضي الاستراتيجي تعنى بما تتركه من أثر على المجتمعات الأكبر وعلى الحكومات كما تعنى بالنتيجة النهائية بالقضايا نفسها.
و هناك العديد من التجارب القضائية سواء على المستوى العالمي أو على مستوى القضاء المصري، ففي لبنان تم باستخدام آلية التقاضي الاستراتيجي إسقاط قرار وزير الداخلية الذي كان يسعى إلى تقيد الحق في تأسيس الجمعيات الأهلية في بلد يمتلك أحد أفضل قوانين الجمعيات على الساحة العربية، وفي الهند شكك نشطاء حقوقيون في منطق الحكومة وراء الحاجة لخفض الإنفاق على الرعاية الاجتماعية لطائفة ’الداليت‘ والأقلية العرقية ’الأديفازي‘، في نفس الوقت الوقت الذي تدعو فيه إلى خفض معدل الضريبة على الشركات بنسبة 5%. وقد تم توضيح أن طريقة تطبيق مبادئ حقوق الإنسان الأساسية –مثل التحقيق التدريجي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وضمانات عدم التمييز، وواجبات الدول تجاه التعاون الدولي– بشكل ملموس في السياسة الضريبية.
وقد أكدت هذه الهيئات الموثوقة أن المعايير الحالية في مجال حقوق الإنسان تلزم الحكومات بتأمين الموارد الكافية لتحقيق حقوق الإنسان بطريقة منصفة من خلال مؤسسات عامة شفافة وخاضعة للمساءلة.
و على الصعيد المصري هناك العديد من التجارب الناجحة، وذات الأثر على مستوى سياسات بعينها، فهناك مجموعة القضايا الخاصة بإلغاء عقود بيع شركات القطاع العام “الخصخصة” في أوائل هذا القرن وأواخر القرن الماضي، أصدرت فيها محكمة القضاء الإداري، وتبعها تأكيد المحكمة الإدارية العليا أحكاماً بوقف تنفيذ وإلغاء عقود البيع، وهناك العديد من الأحكام أصدرتها محكمة القضاء الإداري بالإسكندرية تلزم الدولة بمد مظلة التأمين الصحي، أو إلزام وزارة الصحة بتحمل نفقة علاجية كاملة.
وفي هذا العصر الذي يشهد تناميا للعولمة الاقتصادية وتفاقما لعدم المساواة داخل الدول وفي ما بينها، لا بدّ أن تتوحد الجماعات الشعبية والمنظمات غير الحكومية والأكاديميون من أجل إدراك الصلات القائمة بين الصراعات المتواصلة المحلية الطابع، وإعمال حقوق الإنسان بحيث يتمتع بها الجميع في الممارسة العملية. وتبعًا للإدراك بأن أنماط الفقر والحرمان والحالات المرتبطة بهما تُعد انتهاكاً للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبأنها ليست مجرد حظ عاثر أو أحداث خارج سيطرة الإنسان، ولا يخفى الدور الذي من الممكن أن يلعبه القضاء في إرساء أسس ومفاهيم لا تقف عند حدود وقف قرارات إدارية وسياسات معينة تحجب الضوء عن تسيير مفاهيم ومعايير حقوقية، وتخفف العديد من الأعباء عن كاهل المواطنين وهي بسبيلها في النظر في ما يشكل مفهوما للتقاضي الاستراتيجي المعني بتحقيق الأثر الجمعي، والبعيد نظرياً عن مجرد فكرة التمكين القانوني أو تحقيق الترضية القضائية للمتقاضين في القضايا العادية، وللتمثيل عن قرب ففي مصر قد أصدرت هيئة الإسعاف المصرية قراراً يشمل على زيادة في أسعار الخدمة للطارئة لهيئة الإسعاف بشكل مبالغ فيه وتم اختصام هذا القرار بموجب دعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري بالقاهرة طعنا على هذا القرار بما يمثله من تعدي صارخ على مفهوم الحق في الصحة والتزام الدولة بأقل الحدود الدنيا بشأنه في رعاية مواطنيها، ولم تزل هذه الدعوى قيد التداول.
وهذا النوع من التقاضي يتطلب طرازاً مغايراً من المحامين، تكون لديه القدرة والدراية عن موضوع القضية ومدى تعلقها بحقوق المواطنين، ومدى ارتباطها بالمنهج الحقوقي الدولي، كما أنه يجب أن تكون لديه القدرة على إقناع الهيئة القضائية التي تنظر قضيته بأهميته الموضوع وجدواه، ودوره التأثيري في تعميق الفكرة الحقوقية، ومدى التزام الدولة بتحقيقها، سواء كان ذلك في الشكل المكتوب للقضية أو في الشكل الشفهي أثناء تداول القضية، ولا يغيب عن البال أن نلفت النظر إلى أهمية الدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام في دعم هذا النوع من التقاضي، سواء على الجانب التوعوي والتنويري، أو الجانب النقدي لتصرفات الحكومات حال إهدارها لحقوق المواطنين، هذا بخلاف الدور المفترض أن يكون للإعلام في تسليط الضوء على أهمية القضية ومدى احتياج المواطنين للخدمة المهملة، وكذلك تنبيه المواطنين لأهمية اللجوء للتقاضي.
وسيبقى التقاضي الاستراتيجي بمثابة طوق نجاة للمواطنين من عسف السلطات في عدم تنفيذ التزاماتها الحقوقية أو الدستورية ومدى احترام حقوق المواطنين، ودعامة رئيسية لدولة القانون، ويبقى وسيلة أساسية للمواطنين للدفاع عن حقوقهم واحتياجاتهم في ظل تغول نظم السوق وتعديه على العديد من الحقوق الرئيسية.