ربما لم تتصور الطبيبة الثلاثينية د.ص، أن استضافتها أحد الأصدقاء داخل منزلها، قد يعرضها للضرب المبرح على يد الجيران، وإنهاء حياتها عبر التخلص منها بإلقائها من الدور السادس.
صباح اليوم، تلقت الأجهزة الأمنية بلاغا بالعثور على جثة أسفل أحد العقارات بـ”كامل ملابسها”، فيما انتقل ضباط شرطة مركز السلام إلى مكان البلاغ، بالفحص تبين أنها سيدة تدعى د.ص تبلغ 34 عاما، تعاني من كسور متفرقة بجميع أنحاء جسدها، وتم نقل جثتها إلى المشرحة بقرار من النيابة العامة لبيان سبب الوفاة.
“كنا فاكرينها بتغفلنا.. وطلعنا نمسكهم متلبسين”
أشارت تحريات المباحث الأولية إلى أنه “أثناء تواجد المجني عليها في شقتها برفقة صديقها، قام المتهمون بكسر باب المنزل، والتعدي عليها بالضرب المبرح، واتهموها بممارسة الرذيلة، ما تسبب في سقوطها من شرفة شقتها بالدور السادس، فلفظت أنفاسها الأخيرة في الحال. ولم تكشف التحقيقات عن مصير الصديق الذي تواجد بالشقة.
كما كشفت المعاينة أن صاحب العقار وزوجته وأحد السكان وراء الواقعة، وفي أولى اعترافات المتهمين بادروا بالقول “كنا فاكرينها بتغفلنا.. وطلعنا نمسكهم متلبسين”، مبررين الأمر بشكهم في إقامتها علاقة محرمة مع صديقها، نظرا لوجودها معه بمفردها.
جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد
ضربت هذه الجريمة عرض الحائط بالدساتير والشريعة الإسلامية، كونها تجاوزت النص الدستوري المتعلق بحرمة المنازل، إذ تنص المادة 58 من الدستور على أن “للمنازل حرمة، وفيما عدا حالات الخطر، أو الاستغاثة، لا يجوز دخولها ولا تفتيشها ولا مراقبتها أو التنصت عليها إلا بأمر قضائى مسبب، يحدد المكان والتوقيت والغرض منه، وذلك كله فى الأحوال المبينة فى القانون، وبالكيفية التى ينص عليها، ويجب تنبيه من فى المنازل عند دخولها أو تفتيشها، وإطلاعهم على الأمر الصادر فى هذا الشأن”.
كما تنص المادة رقم 59 من الدستور على أن”الحياة الآمنة حق لكل إنسان، وتلتزم الدولة بتوفير الأمن والطمأنينة لمواطنيها ولكل مقيم على أرضها”.
ودينيا أيضا، لا تعد قضية الزنا من قضايا الشبهات، أو الأخذ بالقرائن، فهي من قضايا الجزم التي يحق للزوج وحده رفعها، ولها شروط محكمة، يصعب تحقيقها، حسبما توضح المحامي مها أبو بكر.
أما فيما يخص الادعاء بممارسة الرذيلة واقتحام حرمة المنازل على هذا الأساس، فهو أمر يتطلب أثبات أن المدعى عليها تتقاضى أجرا على ذلك، وبشهادة من دفع لها، وفي كل الحالات يتم ذلك تحت إشراف الجهات الأمنية.
أما التوصيف القانوني للواقعة بشكلها الحالي، وفقا لأبو بكر، هو تهديد للأمن وترهيب للمواطنين في مساكنهم، والتعدي بالضرب، كما أن تفاصيل الواقعة تتضمن شبهة اتهام بالقتل العمد مع سبق الإصرار، والترصد إذ إن الجناة راقبوا الضحية، واقتحموا مسكنها عمدا، إلى جانب انعقاد النية بالقتل، حيث لا يدور الشك حول أن السقوط من الدور السادس سوف يودي بحياتها.
“احنا مش رجالة” والوصاية المجتمعية
تفتح جريمة قتل طبيبة السلام جراح وتيرة العنف المتصاعد ضد المرأة، وما شابها من انتهاك لحرمة الحياة الخاصة، بدعوى الشرف، وتجديد النقاش المفتوح حول قانون “قيم الأسرة المصرية”.
يشير صاحب العقار المتهم في جريمة مقتل الطبيبة، أن “البواب” أخبره بوجود شخص غريب برفقة الضحية، مبديا شكه في وجود علاقة بينهما نظرا لإقامتها بمفردها، معلقا “احنا مش رجالة” مما تسبب في غليان الدم بعروقه واضطره إلى الصعود لشقتها وتحطيم باب المنزل عليها والاعتداء عليهما.
اعتبرت الباحثة في شئون المرأة إلهام عيداروس أن التعدي على خصوصية المرأة والمستقلات منهن خصوصا، يأتي في إطار العنف ضدها، ورغبة لانهائية في فرض الوصاية عليها بدأ من الجيران، والبواب، وحتى العاملين بالجهات الأمنية.
وأضافت عيداروس أن التحقق المهني، والتفوق التعليمي لم يشفع للضحية، ولم يحميها من عنف المجتمع تجاهها، إلى حد إنهاء حياتها، لافتة في الوقت نفسه إلى البعد الطبقي للأمر، فموارد المرأة المالية، وووضعها الطبقي، ربما يمكنها من اختيار منطقة سكنية، تتمتع فيها بقدر من الحماية النسبية تجاه مخاطر العنف والتمييز، نتيجة طبيعتها الاجتماعية التقدمية، ونوعية السكان فيها.
واعتبرت عيداروس أن جريمة قتل الطبيبة، هي نتاج سنوات طويلة من العنف المجتمعي تجاه المرأة بدعم من السياسات العامة من الدولة.
“لو مكنتش ماتت مكنش حد هيتعاقب” أكدت الباحثة أن واقعة التعدي على الطبيبة ليست الأولى من نوعها، فالحياة اليومية للنساء المستقلات زاخرة بحوادث العنف وانتهاك الحياة الخاصة، من قبل الجيران، والبواب، وجميعها تمر من دون حساب.
وأشارت عيداروس إلى موقف الدولة المتواطئ في التعدي على حقوق المرأة، من جهة استقلاليتها، وممارسة العنف ضدها، ودللت على ذلك بتعليمات وزارة السياحة والأداب بمنع تأجير الغرف بالفنادق للنساء، أو التدخل الأمني عبر اجبار فتيات بالغات بالعودة، إلى منزل العائلة.
ومن قبل سلمت مباحث شرم الشيخ هدير حلمي البالغة، 23 عاما، والتي عرفت إعلاميًا بفتاة الإسكندرية المختفية، إلى والدها، الذي سبق وأن حرر محضرا يفيد بتغيبها.
وحينها قالت الفتاة للمباحث إنها جاءت لشرم الشيخ نتيجة خلافات أسرية وللبحث عن العمل وحياة جديدة والاعتماد على نفسها، ورفضها للزواج.
وتابعت الباحثة “عادة ماتتضمن الشرائح المجتمعية أفراد من ذوي النوازع الفكرية المحافظة، بل والمتطرفة، ولكنها لا ترقى إلى القيام بأعمال عنيفة، نتيجة المنظومة القانونية التي تساوي بين المواطنين، وتحمي حياتهم الخاصة.
اقرأ أيضا:
نجمات مواقع التواصل الاجتماعي.. ملاحقة قانونية في مواجهة هدم القيم الأسرية
نسخة 2020 الأخلاقية المتشددة.. “قيم الأسرة” تطارد نساء مصر
العنف ضد المرأة وقيم عبدالله رشدي
في حين ترى المحامية مها أبو بكر أن واقعة مقتل الطبيبة تكشف عن خطاب مجتمعي لايعترف باستقلال المرأة، وحريتها في اختيار نوعية حياتها، وأن ما يحدث جزء من العنف الممارس ضدها.
بينما رأت أبوبكر أن الأزمة لا تنبع من القوانين، مرجعة الأمر إلى تغلغل القيم الرجعية بين أفراد المجتمع، والتي يحفزها بعض الخطابات الدينية المحرضة على المرأة، وضربت مثالا على ذلك بالداعية الأزهري عبدالله رشدي.
لرشدي رصيد في الهجوم على السيدات، فيعمد طوال الوقت في خطابه إلى ازدراء المرأة وعملها، وتحمليها مسؤولية انتشار وقائع التحرش، واصفا إياها بـ”السيارة المفتوحة”.
واعتبرت أبوبكر أن خطاب رشدي يلقى قبولا شعبيا نسبيا، نتيجة نظرة المجتمع للمرأة كمفعول به، لا تملك الإرادة، مجرد تابع يمكن فرض وصايته عليها ولو بالقوة.
وشددت مها على ضرورة تدخل الدولة عبر ترسيخ قيم العدالة، والإنصاف، وإعادة بناء الإنسان المصري، عبر الحوار المجتمعي، وتجديد الخطاب الديني بما تقتضيه متطلبات العصر.
“قيم الأسرة” وشرعنة العنف
وفقاً لنتائج مسح التكلفة الاقتصادية للعنف الاجتماعي ضد المرأة التي أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في الفئة العمرية 18-64، بمصر عام 2015 فإن 34% من النساء اللاتي سبق لهن الزواج تعرضن لعنف بدني أو جنسي من قبل الأزواج، بجانب تعرض نحو 90%، من السيدات للختان، وزواج أكثر من ربع النساء المصريات 27.4%، قبل بلوغهن 18 سنة، و أن نحو 7% من النساء المصريات تعرضن للتحرش في المواصلات العامة، بجانب تعرض نحو 10% منهن للتحرش في الشارع، وذلك خلال الـ12 شهراً السابقة للمسح فقط.
التأصيل للعنف تجاه المرأة وانتهاك حقوقها وضع كرسته الدولة عبر قوانين غير منضبطة، بحسب المحامي الحقوقي مايكل رؤوف.
واعتبر رؤوف أن قوانين مثل “قيم الأسرة المصرية”، فتحت الباب أمام شرعنة العنف، وتقنينه، وبالتالي التسبب في تحريض المواطنين على التدخل في خصوصيات بعضهم البعض.
وتساءل رؤوف عن ماهية هذه القيم والمعيار التي اختيرت عليه، أو نموذج الأسرة التي يمكن أن تسن على أسسه مثل هذه القوانين، إلى جانب نوعية المنظومة الاجتماعية التي ينتظر أن ترسخ لها مثل هذه القوانين.
وأكد أن ارتفاع وتيرة العنف تجاه المرأة، وانتهاك حياتها الخاصة بدعوى خصوصا الفضيلة، والشرف، ممارسات يمكن وقفها عبر أجهزة الدولة بالأساس، وعبر منظومة القوانين.
في الإطار نفسه، انتقد رؤوف الأداء البرلماني خلال دورتيه الأخيرتين، والسياسات التشريعية التي تفتقد على حد قوله إلى أبسط مبادئ التشريع، والمجافية لحقوق الإنسان.
كما أن الدولة تخلت عن دورها في إرساء قيم المساواة بين المواطنين كما نصت مواد الدستور، واستبدلتها بقوانين رجعية مطاطة تسمح بانتهاك خصوصية الأفراد، يختم رؤوف.