أعاد الحكم على الشيخ محمد عبدالله نصر بالسجن لمدة عامين في اتهامه بازدراء الأديان، إلى الأذهان ضحايا قوانين الحسبة، حيث الخلاف الفكري محله القضاء، ومن ثم النفي أو الزج في غياهب السجون.
كانت محكمة النقض قضت بتأييد حكم صدر عن محكمة جنح مستأنف شبرا الخيمة بالحبس سنتين بدلاً من 5 سنوات، لـ”نصر”، الذي لم يكن أول ضحايا قضايا “ازدراء الأديان”. بل سبقته في القائمة شخصيات تنوعت ما بين مبدعين وفنانين وأدباء، لتصل إلى معلمة في فصل، أو مجرد مواطن يخاطب جمهور السوشيال ميديا. وربما خصم سياسي.
متهم بازدراء الأديان.. كيف بدأ كل هذا؟
كانت خطبة الرئيس الراحل أنور السادات مطلع الثمانينيات أمام مجلس الشعب (النواب حاليًا) تعليقًا على أزمة الفتنة الطائفية في منطقة الزاوية الحمراء بالعاصمة المصرية القاهرة بمثابة الإذن لإطلاق يد القانون، فيما يخص مصطلح “ازدراء الأديان”.
قال الرئيس -حينها- عن الأزمة التي راح ضحيتها عشرات المسيحيين: “حادث بسيط في الزاوية الحمرا، خناقة زي أي خناقة بين الجيران، غسيل في بلكونة مواطن نزلت منه مياه على غسيل في بلكونة المواطن اللي تحتيه، والظاهر إنها مياه مش ولا بد”. ليستدرك: “فيه ناس بينفخوا في النار وبيستخدموا الولاد الشبان الصغيرين وقود للنار دي أنا بحذرهم جميعًا وبقولهم إن الديمقراطية ليها أنياب وتقدر تحافظ على نفسها”.
هذه الأنياب التي أشار إليها السادات -وقتها- عبرت عنها الحكومة في نهاية العام نفسه بتقديم مقترح تمت الموافقة عليه لمعاقبة الأفكار المتطرفة والإسادة للأديان. وربما لم يكن يتصور السادات أن قانون وضعه في سياق وأد الفتنة وإنهاء التطرف، قد يكون السبب في الزج بعشرات المفكرين والمواطنين في السجون. بعد أن باتت لنصوص هذا القانون استخدامات أخرى.
على الهامش.. تبت محكمة جنح قصر النيل في قضية الفنانة رانيا يوسف بسبب تصريحات “المؤخرة والحجاب” خلال جلسة 21 مارس، وهي الدعوى التي أقامها المحامي أشرف فرحات المسئول عن حملة “تطهير المجتمع”، والذي طالب فيها بمحاكمتها بتهمة ازدراء الدين الإسلامي والفعل الفاضح.
المادة “اللغم” في قانون ازدراء الأديان
تنص المادة 98 في فقرتها (و) من قانون العقوبات على أن “يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تجاوز خمس سنوات أو بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تجاوز ألف جنيه كل من استغل الدين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي”.
يعلق عمرو عبدالرحمن رئيس وحدة الأبحاث بالمبادرة المصرية للحقوق والحريات الشخصية على هذا. فيقول إنه خلال ما يقرب من أربعين عامًا على إدراج هذه الفقرة بالمادة -سالفة الذكر- تغير كثير من السياقات الاجتماعية والسياسية. إلا أن كل محاولات تعديل القانون، تعرضت للإجهاض. ذلك رغم تناقضه مع مواد الدستور. فضلاً عن غموض هذه الفقرة ومطاطية نصوصها.
مرت قضايا ازدراء الأديان بمرحلتين؛ إحداهما في التسعينيات حين كان الإسلاميون يروجون لخطابهم الشعبوي. عبر رفع دعاوى قضائية تهدف إلى الحجر على الإبداع في الكتب والسينمات، ذلك في ظل مساندة الدولة.
بينما بدأت المرحلة الثانية في أعقاب ثورة يناير. حين تزايدت وتيرة المحاكمات القضائية بتهمة ازدراء الأديان، بشكل يميل إلى النمط الأبوي المحافظ، وضبط الممارسات الاجتماعية. ذلك حد محاكمة المواطنين على آرائهم عبر مواقع التواصل.
30 قضية ازدراء أديان حتى العام 2016
ولا أدل على ذلك من الأرقام التي وثقتها المبادرة المصرية للحقوق والحريات الشخصية في هذا الصدد. إذ تشير إلى 28 قضية حتى نهاية 2013. ارتفعت وتيرتها إلى نحو 30 قضية بحلول العام 2016.
المشترك في المرحلتين يتمثل في فتحهما الأبواب أمام راغبي الشهرة. وهذا يظهر مع كم الدعاوى المرفوعة أمام المحاكم من قبل محامين وصفوا بأنهم ساعين لتداول أسمائهم في الصحف ووسائل الإعلام.
يصف عمرو عبدالرحمن مادة ازدراء الأديان بـ”اللغم”. ذلك لأنها غير معرّفة -على حد قوله- وتخضع في تفسيرها للسلطة التقديرية لشخص القاضي، واعتقاداته. فالمتهم بها يواجه تهمة امتنع واضعيها أنفسهم عن تفسيرها. وفي ذلك مخالفة لحق المتهم في محاكمة عادلة، تحتكم إلى نصوص واضحة ومحددة.
يتطابق رأي عبدالرحمن حول السلطة التقديرية للقضاء مع حيثيات الحكم على محمد عبدالله نصر، إذ تقول “رأت المحكمة إثبات التمسك والتشرف بأحكام الإسلام وحدوده، وإن كانت لا تطبق في بلادنا، إلا أن جمع القضاة يقرونها ويقدرونها”
وفي موضع آخر يقول القاضي “يصف المتهم أن هناك كارثة اكتشفها، بأنه لا يوجد بتر ليد السارق في القرآن، وأن القطع ليس المقصود به البتر، وبهذا الكلام والفعل من المتهم يفتح الباب للتطاول على أركان الإسلام وحدوده والتشكيك في تلك الحدود، ويفسر كل على حسب هواه”.
ازدراء الأديان وهوى السلطة
كانت دعوى التفريق بين الدكتور نصر حامد أبوزيد، وزوجته الدكتورة ابتهال يونس، بسبب كتاباته وأبحاثه التي رأى فيها البعض تجاوزًا في حق الاسلام، بمثابة فصل جديد في إجراءات التقاضي ضد المتهمين بازدراء الأديان، رغم كونها دعوى تخص قوانين الحسبة. إذ تقرر بعدها منع إقامة دعاوى مباشرة. وهو أمر دفع المحامي نبيه الوحش إلى تقديم بلاغ للنائب العام بدلاً من إقامة دعوى مباشرة أمام القضاء. وكذلك تم في حالة عبدالله نصر. حينما أقام المحامي سمير صبري دعوتين اتهم فيهما الشيخ بازدراء الأديان. وقد استند إلى حديثه عبر القنوات الفضائية وإنكار أحاديث صحيحة وردت في صحيح الإمام البخاري. وقبلت النيابة الدعوتين، ومن ثم حولت القضية إلى المحكمة.
في نظر الروائي المعروف إبراهيم الورداني تكمن العقدة بقضايا ازدراء الأديان فيما يطلق عليه اصطلاحًا “هوى السلطة”. فالسلطة هنا -وفق إجراء منع إقامة الدعاوى المباشرة- لها دور في سير القضية. وبيدها إغلاق بابها أثناء التحقيقات أمام النيابة العامة، فتكف يد التطرف عن حرية الإبداع والتعبير، وبالمثل حرية الاعتقاد.
المياه الجوفية للمجتمع مغلفة بالتشدد
يقول الورداني أيضًا إن الحكم في مثل هذه القضايا يتم تحت سمع وبصر الدولة. ويضيف: “لا يمكن الادعاء بمحاربة الإخوان والتطرف عبر مجموعة من القوانين تجرم كافة حقوق حرية الفكر والإبداع”. وهو يرى في المادة 98 “سوطًا” تستخدمه الدولة في مواجهة منتقديها باستغلال غموض نصه. بينما يتساءل: “كيف لدولة كبيرة بحجم مصر أن تدار عبر قوانين سيئة السمعة”.
“المياه الجوفية للمجتمع مغلفة بقيم التشدد”؛ كما يقول الشاعر إبراهيم داوود. الذي يؤكد أن الخطاب الرجعي يلقى قبولاً شعبيًا كبيرًا. مضيفًا أنه لا أجدى من إشاعة مناخ حرية الإبداع والعدالة الاجتماعية، في سبيل تقبل الآخر. بينما يشدد على أن الديمقراطية هي الحل لنزع فتيل مثل هذه المعارك.
وفيما يعلن داوود وقوفه مع حرية الفكر أيًا كان كنهه، حتى وإن جاء بالمخالفة لرأي الأغلبية، ما دام لا يحرض على العنف أو الكراهية، ولا يشهر السلاح في وجه معارضيه. ينتقد خطابات ازدراء الأديان. فيقول: “احترام معتقدات البشر ورغباتهم أمر إنساني بالأساس، لكن لا يجب مجابهته بالسجن. فالفكر يواجه بالفكر، بعيدًا عن اللجوء للوسائل القانونية”.
“حاسس إني بحلم بكابوس مرعب مش متخيل إني ادخل السجن علشان فسرت أية من القرآن في التليفزيون المصري المملوك للدولة وكان مكتوب على تتر البرنامج الشيخ محمد عبدالله نصر من علماء الأزهر الشريف”
باب الاجتهاد الذي لن يغلق
ترى أستاذة الفلسفة الإسلامية والعقيدة بجامعة الأزهر، الدكتورة آمنة نصير، أن الفكر لا يجابه إلا بالفكر، وأن الحكم بحبس نصر لم يكن حلاً. خاصة أنه ابن المؤسسة الدينية، ويملك الأرضية المناسبة من العلوم الإسلامية التي تتيح له محاولة الاجتهاد. بينما تحذر من اللجوء إلى الوسائل القانونية حتى لا يغلق باب الاجتهاد، في ظل تصاعد الخوف والرهبة من الأحكام القضائية.
وتضيف وهي أول امرأة يتم تعيينها في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالأزهر، أن رد الشيخ محمد عبدالله نصر يكون لأساتذته من أهل الاختصاص. ذلك لمناقشته في وجهة نظره. وفي هذا خطوة أجدى، من وجهة نظرها، في طريق إثراء العلوم الدينية. وأيضًا من منطلق أن باب الاجتهاد مفتوح دائمًا، لم ولن يغلق حتى يوم القيامة. لأن الإسلام آخر الديانات، والإنسانية كل يوم في شأن. ما يتطلب مجاراة العصر بما يناسب مصلحة المسلمين.
ازدراء الأديان سيف مسلط على الأقلية
لم تتوقف المطالبات بشرح مادة ازدراء الأديان أو تعديلها. ذلك بإضافة جملة تحدد حالات وجوبها مثل: في حال الإخلال بالسلم الأهلي، أو إحداث الشغب. كما كان الهدف منها بالأساس. لكن هذه المطالبات جميعها لم يلق أي صدى لدى المسؤولين، وفق ما يوضح عبدالرحمن.
وفق عبدالرحمن، فإن غموض المادة 98 يساهم في صعوبة مراجعة القاضي في الحكم. إذ ليس هناك أرضية ثابتة يمكن الاحتكام إليها. وفي مجتمع أغلبه من المسلمين يتم استغلال المادة على نحو طائفي. بما يسمح بالتمايز الديني لفئة على حساب أخرى. وفي هذا تأجيج للتعصب واضطهاد الأقلية، على حد قوله.
في وقت سابق، استخدمت المادة في محاكمة مواطنين مسيحيين، من بينهم هاني جو. وكذلك مدرسة الأقصر التي تم توجيه الاتهام إليها بناءً على بلاغ من أولياء أمور مجموعة من أطفال المدرسة. وليس ببعيد عن هذا الحكم الذي صدر في العام 2016 بحق أربعة أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 15 و17 سنة، لخمس سنوات مع النفاذ. ذلك بعد تجسيدهم مقطع فيديو لحادث ذبح الأقباط المصريين في ليبيا. وأيضًا حالة الكوميديان محمد أشرف الذي قام بتصوير فيديو يقلد فيه مقدمي البرامج بإذاعة القرآن الكريم.
الأرقام بدورها تدعم الرأي نفسه. حيث يشير تقرير المبادرة المصرية أيضًا إلى أنه من بين 63 حالة لمواطنين واجهوا أحكامًا قضائية أو عرفيه بتهمة اﻹساءة للدين اﻹسلامي، لم تسجل إلا حالة واحدة لازدراء الدين المسيحي.