الطريق إلى تنظيم داعش بدأ من عين شمس.
طفل هادئ، نحيل الجسد، ضعيف البنية، يركل الكرة وسط زملائه، ويرفرف بيديه على طريقة محمد أبو تريكة عند إحرازه الأهداف.
قضى طفولته وحيدا، منزويا على ذاته، لا يفسح المجال لمصادقة أشخاص عديدين، يمارس هوايته المفضلة، ويقضي فروضه في إحدى الزوايا الكائنة بحي عين شمس.
مصطفى عبدالرحمن، ولد في أسرة بسيطة، أب يعمل موظفا حكوميا، وأم تركت الحياة قبل أن يتم 15 عاما، وشقيق لم يتجاوز الـ12 ربيعا.
إحساس اليتم توغل داخله، قضى سنوات بعد وفاة والدته وحيدا بلا أصدقاء ينهي يومه الدراسي، ليهرول إلى المنزل ويجلس في غرفته أمام جهاز الكمبيوتر حتى يأتي اليوم الآخر بتفاصيل لا تختلف.
كان مصطفى مولعا بالألعاب الاستراتيجية، وجد فيها ضالته، قضى ساعات في تكوين صداقات في العالم الافتراضي وشن الحروب والهجمات على الأعداء ويضع الخطط والاستراتيجيات اللازمة لهزيمة كل من يقف في طريق تكوين إمبراطوريته الخاصة.
من الحي الشعبي إلى مناطق القتال
كيف تحول ذلك الطفل المنزوي إلى غول يقتل ويرفع السلاح في وجه خصومه؟ وكيف وجد السبيل لأن يكون أحد جنود داعش ويرتحل من الحي الشعبي إلى مناطق القتال بسوريا في رحلة تطلبت المرور على ثلاث دول ليصل إلى هدفه؟
في أعقاب ثورة 30 يونيو، وحالة الاستقطاب الكبيرة التي شهدتها الدولة المصرية، كان مصطفى عبدالرحمن شاب يبحث عن ذاته، وسط عالم مليئ بالحروب والقتل والدمار.
تعج شاشات التلفاز بمشاهد الحرب في سوريا وروايات بشعة عن ما يفعل نظام بشار الأسد بالمعارضين والثوار.
خلال تلك الفترة تعلق قلب مصطفى بالدين، عرف طريقه إلى زاوية ليقضي فيها فروضه، وبعد انتهاء الصلاة ينتظر حضور بعض الدروس، الإصابة التي أبتلي بها في الركبة منعته من الانضمام لفريق كرة قدم، فكان وقته موزعا ما بين الصلاة وممارسة الألعاب الإلكترونية والذهاب مرة في الأسبوع إلى جامعته حيث يدرس بكلية الزراعة.
“فجأة تحول مصطفى إلى شخص ملتزم دينيا، كنا نداوم على الصلاة في أحد المساجد إلا أنه دون سابق إنذار قرر هجرته، وارتدى جلباب أبيض قصير وترك لحيته، عرفت منه أن أحد من وصفهم بـ”الأخوة” يشرف على تربيته دينيا وكانت بداية الخيط أن يطلق اللحية ويرتدي الجلباب القصير ويداوم على حضور الدروس الدينية» هنا يتحدث عمرو صديق طفولته.
لم يكن يظن أحد أن الشاب العاشق لأبو تريكة والنادي الأهلي وألعاب الكمبيوتر، سيتحول بين ليلة وضحاها إلى شيخ. فهو لم يكن سوى طفل هادئ انطوائي، تعلو وجهه الابتسامة لكل من يمر به.
يقول عمرو: «كنت أظن في البداية أن الأمر سيأخذ وقته ومن ثم يعود لطبيعته، إلا أنه في أحد الايام أخبرني أنه سيذهب إلى أحد الشيوخ في حي النعام القريب من عين شمس للتحصل على شهادة في الشريعة الإسلامية.. سألته ماذا تعني بشهادة في الشريعة أليس الازهر هو السبيل للحصول على شهادات من هذا النوع.. حاول أن يلمح لي أن الأزهر ليس كما كنا نظن».
تغير مصطفى بشكل كبير، فتحول من شاب عادي وغارق في العادية إلى شيخ يرتدي الجلباب الأبيض ويرفض مشاركة أبناء الحي في لعب كرة القدم، وسط حالة الاستقطاب ظن البعض أنها مرحلة وستنتهي قريبا، سيعود إلى حياته الطبيعية لن يتوغل في الأمر أكثر من أداء الفروض وحضور بعض الدروس.
رحلة التحول
كان القدر يخبئ لـمصطفى مصيرا مختلفا، شد الرحال إلى محافظة الإسكندرية، هناك قضى 15 يوما للحصول على دورة شرعية لدى أحد الشيوخ رافضا الإفصاح عن اسمه، عاد من هناك وقد اختلف كل شيء فيه، لم تعد الابتسامة تعلو وجهه، نظراته باتت أكثر حدة، رافضا الاختلاط مع أبناء الحي وأصدقاء الطفولة، ترك الجامعة ولم يعد يذهب إليها إلا لماما.
يقول عمرو: “عندما عاد من الإسكندرية تغير كل شيء فيه، لهجته وسلوكه ونظرته لما يحدث حولنا، حدثني كثيرا عن كوننا آثمين لأننا نرى ما يغضب الله دون أن نحرك ساكنا، حاولت تهدئته لكن بدا واضحا أن الوقت فات على رجوعه إلى رشده”.
بات تغيب مصطفى عن المنزل شيئا معتادا، يحمل حقيبته ويرتحل يقضي ثلاثة أسابيع دون أن يعلم أحد عنه شيئا ومن ثم يعود ويخبر والده أنه كان في خلوة مع أحد الأخوة.
شعر والده بتحول كبير في شخصية ابنه. وكانت أبعد ما يكون عن مخيلته هو أن يتحول نجله الوديع إلى قاتل.
مصريون في قبضة التنظيم
نجح “داعش” في استقطاب أعداد كبيرة من الشباب المصري الساخط على الأوضاع السياسية بعد 30 يونيو. ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة عن أعداد المصريين المنضمين لداعش، لكن عددا من الجهاديين السابقين قدروا أعدادهم بـ3 آلاف في العام 2014 فقط.
اعتمد التنظيم الإرهابي على تنامي خطاب الانتقام بين الأوساط الشبابية للرد على فض اعتصام الإسلاميين بميداني رابعة العدوية والنهضة بالفوة في صيف 2013، في استقطاب أعضاء بالجماعات الإسلامية وغيرهم ممن يرون في الجهاد جنة لا بد الظفر بها.
في هذا التوقيت، بدأت وسائل الإعلام المختلفة تتناول قصص عدد من الشباب الذيه هجروا حياة الترف متوجهين إلى الصحراء لمواجهة الجيش السوري، منهم إسلام يكن خريج مدارس الليسيه الذي تحول بين ليلة وضحاه إلى أحد كوادر داعش وظهر في أكثر من مقطع فيديو يحمل السلاح ويتوعد المخالفين بالموت.
يشترك معه الشاب محمود الغندور الذي كان يتم إعداده ليكون حكما للدوري المصري الممتاز، وفجأة تحول مستقبله من المستطيل الأخضر إلى ساحات القتال. هناك أمثلة كثيرة لشباب تحولت دفة الحياة بهم من الحياة العادية إلى حياة صاخبة مليئة بالقتل وسفك الدماء وتهديد حياة الآخرين.
كان مصطفى أحدهم، شخص عادي، في مقتبل العمر، لم يحدد مستقبله بعد، إلا أن النداهة سحبته إلى طريق ليس له رجوع.
يقول عمر عن تلك الفترة: «فوجئت أن صديق عمري أصبح غريبا عني، لم يعد يودني او يحادثني هاتفيا بين حين وآخر، وبدأ يوجه الانتقادات للعبي كرة القدم أو جلوسي على المقهى، أصبح كل شيء محرما، كل ذلك لم يغير من رؤيتي له كصدق إلا أن شيئا ما أخبرني به شعرت بخوف شديد يتسرب إلى قلبي.. صديق العمر قرر الذهاب إلى سوريا لمقاتلة بشار الأسد».
اقرأ أيضا:
الذكرى العاشرة للثورة السورية.. “مأساة القرن” مستمرة
الطريق إلى سوريا عبر تركيا
أخبر مصطفى صديق عمره أنه ذاهب إلى سوريا، ودعاه لأن يرافقه في رحلته، ووضع الخطة بكافة تفاصيلها: سوف يذهب إلى الإسكندرية وهناك سوف يسلم نفسه لأحد الأخوة ليحضره للسفر إلى تركيا بالتحديد أسطنبول، هناك بعض الأخوة سيلتقونه ويوفرون له منزلا مؤمنا للمكوث فيه يوما أو بضعة أيام، ومن هناك سوف يتسلل إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم داعش، بتلك البساطة أصبح جندا من جنود الله في الأرض. على حد زعمه.
رفض عمرو الفكرة، وحاول أن يثني صديقه من الذهاب في تلك الرحلة، إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
يقول عمرو: «مصطفى ضعيف البنية لا أعتقد أنه قادر على حمل السلاح والمحاربة في صفوف تنظيم داعش، هذا إلى جانب أنه يعاني من إصابة في الركبة تمنعه من الركض، كيف سيكون جنديا، ولماذا سيضحي بكل شيء من أجل قضية دولية تعجز دول عن حسمها، كان تنظيم داعش أخذا في الصعود وصل إلى القمة وأحتل اجزاء كبيرة في سوريا وأصبح وجوده على مرئ ومسمع العالم وأعتقد أن هذا ما شجعه لأن يخوض غمار رحلة محفوفة بالمخاطر».
مضى مصطفى في طريقه، وحقق مبتغاه، وذهب إلى سوريا، عند وصوله إلى سوريا بالتحديد دير الزور التي كانت تحت السيطرة من قبل التنظيم والتنظيمات المناوئة له، أول ما قدم إليه عند وصوله وضعه في بقعة تسمى “المضيفة” وهي المكان الأول الذي يوضع فيه المنضمين الجدد إلى التنظيم لمراقبة تحركاتهم والتعرف أكثر إلى شخصياتهم وميولهم وفي الأصل محاولة معرفة إذا كان جاسوسا على التنظيم أم منتمي عن قناعة.
زواج داعشي
في أحد الأيام فوجئ عمرو باتصال هاتفي على تطبيق “تليجرام”. وعندما أجاب سمع صوتا يعرفه جيدا، هو صديق عمره مصطفى.
أخبره أنه وصل إلى سوريا رافضا الإفصاح عن موقعه بالضبط، مكتفيا بالإفصاح عن إسناد مهام بسيطة له داخل التنظيم، ومن ثم سيبدأ التدرب على حمل السلاح، ويستعد لأن يخوض أولى تجاربه في المواجهات المسلحة مع جيش النظام السوري.
غاب فترة ليست بالطويلة، وعاد مصطفى إلى مهاتفة صديقه من جديد، كانت المكالمة الثانية تحمل أخبارا سارة كانت تزوجه من إحدى الأخوات هناك، يقول «عمرو».
منذ نحو 3 سنوات لم يسمع عمرو شيئا عن صديقه، لم يعد يهاتفه عبر تليجرام وأغلق حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، وعندما ذهب إلى منزله ليسأل عنه شقيقه أو والده أخبراه أنه لم يتواصل معهم منذ أن ترك البيت بحقيبة ملابسه.
لم يبتعد مصطفى عبد الرحمن كثيرا عن الزراعة التي درسها في القاهرة، فوفقا لأحدث معلوماتنا عنه، يشرف الشاب على زراعة الأراضي التي تقع تحت سيطرة التنظيم، في ظل عدم قدرته على حمل السلاح.