لازلت أذكر حديث الممثلة المعتزلة الشهيرة، قبل سنوات ليست بالبعيدة، وهي تتكلم عن “الشيكات” التي يمنحها الله للإنسان المؤمن. كانت تقولها وهي تحاكي بيدها حركة كتابة الشيك، نفس الحركة التي نطلب بها “الحساب” في المطاعم. كانت تلك المقابلة التلفزيونية تعبيرًا عن نوع غريب من الإيمان، ازدهر في بلادنا ولا يزال، يتناول مفهوم “التجارة مع الله” بمعناه الحرفي، في سياق مليء بالملايين والمليارات، لكنها ليست مليارات الجنيهات، بل مليارات “الحسنات”، رصيد لا يتوقف المؤمن عن ملئه لينفعه في الدنيا والآخرة.
ولا بأس في أن يحاول الإنسان تلبية متطلبات إيمانه بما يعتقد أنه سينفعه في الحياة وبعد الموت، ولكن لأن لغة الملايين والمليارات –حتى إن كانت ملايين الحسنات– ليست لغة روحية، بل أقرب إلى لغة عالم المال والأرباح والبورصة، ولأن البحر يحب الزيادة، فسرعان ما أصبح “جمع الحسنات” هدفًا في حد ذاته، ولأن “لكل طماع نصاب”، فقد راجت تجارة من نوع غريب، تضع الأثمان وتخترع الأسعار “على كيفها”؛ فهذا الدعاء لو رددته 20 مرة تحصل على مليون حسنة، وهذا الجزء إن ختمته ثلاث مرات تحصد 10 ملايين حسنة، أما تلك السورة فلو رددتها قبل النوم وبعد الاستيقاظ، تنمحي نصف ذنوبك وإن كانت كموج البحر، وهكذا.
وبالطبع فإنك لا تجد بأسًا في ذلك، فالمسألة مجانية لا تكلفك شيئًا اللهم إلا بعض الوقت، لكنها بالطبع تنفع “المتخصصين” الذين يدلونك على أقصر الطرق لجمع الحسنات وشحن رصيدك الإيماني. إن شهرتهم تزداد وصفحاتهم تكبر وحساباتهم – في البنك وعلى السوشيال ميديا – تزدهر وتنتعش.
أما أنت الذي تفترض أنك -باتباع إرشاداتهم- تشتري أراض وتبني بيوتًا في عالم لم يزره أحد، وتملأ حسابًا بنكيًا ليس باستطاعتك الولوج إليه، فإنك لا تبني صرحًا من خيال فحسب، بل تتخلى بالتدريج عن الإيمان الواقعي، إيمان الخير الذي يمكن أن تلمس تأثيرك بنفسه في العالم الحقيقي، ولا غرابة، فما الذي يضطرك أن “تتعب نفسك” وتنظف شارعك أو تزور قريبك البعيد أو تساعد مظلومًا أو تحاول أن تحمي ضعيفًا، بينما يمكنك، بدلًا من تلك الصعوبات، أن تجمع مليون حسنة بترديد دعاء قصير قبل النوم أو بعد الأكل، أو أن تطوف وأنت في مكانك على صفحات فيسبوك لتملأها بـ”الكومنتات” الدينية، وجمع الـ”لايكات” لكلمة الله والرسول، فضلًا عن الاشتراك في تطبيقات تنشر الأدعية والآيات بدلا منك، لتنمو “ثروتك” وأنت نائم.
غير أن تأثير “شراء الحسنات” لا يتوقف عند تحويل الخير الإنساني إلى مجرد تمتمات إيمانية، بل يدفع إلى الكسل العقلي الذي لا يستفيد منه سوى الشر، فهنا تتحول الأفعال الشريرة أيضًا إلى “رصيد” تحت اسم حركي هو “الستر”، رصيد ينفق منه الإنسان حتى ينفد فتقع الفضيحة ويقع العقاب. وإذا بهذا المفهوم العجيب يتحول إلى حقيقة يؤمن بها ملايين الناس كأنها قاعدة علمية، وتكون عبارة “رصيد ستره نفد” هي الأكثر ترديدًا بين المعلقين على جريمة متحرش المعادي، ينطق بها لسان حتى السيدة العظيمة التي واجهته وكشفته، إن من الخطأ والخطر أن يظن كل إنسان أنه ولد وبحيازته “رصيد” من الجرائم عليه أن ينفقه بحرص ثم يتوقف قبل أن ينفد ذلك الرصيد، وإن كان هناك ما يجب أن نتعلمه من جريمة متحرش المعادي، فهو أن نضع في كل شارع وبناية كاميرا مراقبة، هذا هو ما كشف المتحرش وليس رصيد ستره المزعوم، وهذا هو ما قضى على كثير من جرائم الشارع وقصص السفاحين في الغرب بدءا من نهاية الثمانينيات، وهي شعوب لم تسمع عن كلمة ستر.