طالما مثّل الحق في الدواء أهم ملامح الأمن الصحي، الذي يحل بدوره في المرتبة الثانية بمثلث ماسلو للاحتياجات الإنسانية الأساسية، بينما تعاملت معه الأنظمة الرأسمالية كسلعة تخضع لحسابات الربح والخسارة، وفرصة لتراكم الثروة.
وبينما يظل ملف الدواء واحدا من الملفات التي تتقاطع مع خطوط الأمن القومي، وصناعة سبقت فيها مصر أغلب الدول المجاورة، فإنها تتذيل حاليا القوائم، وأصبحت في وضع لا يتسق مع البدايات القوية، وحجم السوق لديها.
قصة الدواء.. تاريخ
بدأت صناعة الأدوية في مصر مع معمل أدوية حجازي الذي أنشأ عام 1933 على الطريقة التقليدية النمطية، ولكن يعود الفضل في إنشاء صناعة يدوية وطنية بالمفهوم الحديث إلى بنك مصر. عندما دشن شركة مصر للمستحضرات الطبية 1939عام أعقبها بشركة ممفيس وتنمية الصناعات الكيماوية “سيد”.
وعند قيام ثورة يوليو كانت صناعة الدواء الوطنية تغطي 10% من حاجات البلاد. وفي عام 1956 تشكلت لجنة أنشـأت الهيئة العليا للأدوية عام 1957 لدراسة إنتاج خامات الأدوية.
بحسب الباحث محمد سالم “كانت مهمة توفير الدواء بأسعار عادلة هي إحدى السمات الأساسية لتصور الدولة في الحقبة الناصرية حول العدالة الاجتماعية وتحقيق الاكتفاء الذاتي من خلال التصنيع الملقى على عاتق القطاع العام عبر إنشاء شركة النصر لتصنيع الكيماويات، وكغيره من السلع والمؤن الاستراتيجية خضع الدواء في مصر للتسعير الجبري”.
وفي عام 1960 تقرر قصر استيراد الأدوية على الهيئة العامة للأدوية، ومع تأميم صناعة الدواء عام 1961 وإنشاء المؤسسة المصرية العامة عام 1962. ثم تم إنشاء شركات القاهرة، والإسكندرية، والنيل والعربية، فكان الإنتاج المحلي يغطي 28.9%من الاحتياجات المحلية في عام 1961.
وتمثل الفترة من 1962 إلى 1975 أهم مراحل تطوير قطاع صناعة الدواء حيث تم رفع شعار “عدم استيراد ما يمكن تصنيعه”. وقفزت التغطية المحلية للانتاج الوطني بنسبة 82% عام 1970، 84% عام 1975.
في كتاب “صناعة الدواء في مصر” تذكر فاطمة مصطفى أن الانفتاح الاقتصادي كان سببًا في تراجع الصناعة الوطنية، في ظل غياب الضوابط المنظمة لعمليات الاستيراد. كذلك انسحاب الدولة شيئًا فشيئًا من الصناعة، أو حتى إدارة شؤونها، كما لجأت بعض الشركات وخاصة ذات رأس المال المشترك إلى إلغاء بعض المستحضرات الطبية معدومة الربح. وزادت نسبة الأدوية ذات المكونات المستوردة.
الإنفاق على الدواء من جيوب المصريين
واليوم، وصل المصريون لنسبة إنفاق على الصحة من ميزانيتهم الخاصة وصلت إلى 72%. بينما يمثل الدواء نصفها، وهي من النسب الأعلى عالميًا، ودليل فشل النظام الصحي في مصر وفقًا لمقاييس البنك الدولي. إذ تتراوح النسب العالمية للإنفاق الشخصي ما بين 10 إلى 15%.
وتشير بعض الدراسات الاقتصادية إلى أن مجمل إنفاق المصريين على الصحة يوازي ميزانية وزارة الصحة في بلد تتراوح نسب الفقر فيه ما بين 29 إلى 34%.
فإلى أي مدى يتمتع الفقراء بالحق في الدواء؟
“لا يمكــن أن تبرر أي دولــة إخفاقها في عدم تحقيق التزاماتها في الحق بالصحة بســبب الافتقار إلى الموارد. ويجب على الدول أن تكفل هذا الحق إلى أقصى حدود تسمح به مواردها المتاحة حتى وإن كانت شحيحة”.
المجلس القومي لحقوق الإنسان
وفق القانون رقم 151 لسنة 2019 ولائحته التنفيذية التي صدرت بالقرار رقم 777 لسنة 2020. نشأت كل من الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية، وهيئة الدواء المصرية.
وبهذا دخل الدواء مرحلة جديدة حيث استقلت الهيئتان بموجب القانون عن وزارة الصحة فيما يخص الإشراف الصيدلي والرقابة والتسجيل. إلى جانب بند شراء الأدوية واعتبر رئيسها على درجة وزير، تابع لمجلس الوزراء مباشرة.
الباحث في حق الصحة أحمد عزب أشاد بالتنظيم الجديد لقطاع الدواء، وفصله عن وزارة الصحة، نظرا لضخامة حجم القطاع. كذلك مشكلاته. كما أن الإنجاز الأهم يتمثل في خلق هيئة موحدة للقيام بعمليات الشراء.
عضو مجلس نقابة الصيادلة أحمد أبو دومة وصف الأمر بالقول: “كان دم الدواء المصري متفرق بين القبائل. إلى أن تم إعلان إنشاء الهيئات المستقلة، ننتظر انعكاس الأمر على الأسواق”.
وتتمثل اختصاصات هيئة الشراء في القيام بعمليات شراء جماعية للأدوية لكافة المنشآت الصحية الحكومية والخاصة. ما يساهم في مزيد من الحوكمة، نظرًا لمحدودية الجهة المسؤولة، وما ترتب عليه من انخفاض حاد في أسعار الأدوية وفقًا للباحث عزب.
في حين أشار عزب إلى تقصير القانون في تحديد الجهات الرقابية على تلك الهيئات، وعدم ورود أي تقارير تخص نشاط تلك الجهات. كذلك ارتفاع الرسم المفروض على تلك الأدوية، ومساواة القطاع العام بالخاص، ليصل إلى 7% ونسبة 3.5% على اللقاحات. بينما اختصت الأوبئة بالإعفاء من تلك الرسوم.
كورونا الكاشفة وتداخل بين العام والخاص
“لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية. التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي. تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية”.
مادة 18 من الدستور المصري
وبحسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء، بلغت نسبة الإنفاق على الصحة من الناتج المحلي الإجمالي في مصر 1.4% عام 2011. وتعد تلك النسبة منخفضة لكثير من الدول العربية مثل البحرين والسعودية وتونس والأردن. بينما بلغت في إسرائيل 4.6%. كما أنها نسبة تتعارض مع مواد الدستور.
كشفت أزمة وباء كورونا عن عوار شاب النظام الصحي، وقطاع الدواء بشكل خاص. وغياب الشفافية عن بيانات وزارة الصحة، بحسب الباحث أحمد عزب. عبر البيانات المتضاربة عن كميات اللقاح ومنحه بمقابل مادي بما يتنافى مع الأعراف والقوانين المعمول بها خلال فترة الوباء.
ورغم تنظيم القانون الجديد مسألة الأدوية تحت جهة هيئة الشراء الموحدة. أعلنت الدولة استعانتها بشركة “برايم سبيد” الخاصة لشراء ملايين الجرعات من اللقاح الروسي، في تناقض ملفت مع مواد القانون الجديد.
و”برايم سبيد” هي نتاج اتحاد شركة ميديكال سبيد مع رجل الأعمال تامر وجيه. وسبق لها أن خاضت مشروع “درايف ثرو” عن “كورونا” بالتعاقد مع وزارة التعليم. كذلك استيراد الكواشف نفسها.
وهو ما اعتبر تناقض آخر مع إعلان وزارة الصحة أن الأمر حصرًا على معاملها المركزية في بداية الوباء. وتردد حينها أن دخول القطاع الخاص كان سببًا في ارتفاع أسعار الاختبار إلى الضعف. الذي كان مقرر إتاحته دون مقابل بالأساس.
مساواة العام بالخاص في رسم الدواء
“لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة له ولأسرته، ويشمل المأكل والملبس والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية”.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
نقص الأدوية وهوى الشركات
في تقرير سابق لعزب ذكر أن مصر بها 14 ألف صنف دواء. مسجل منها 11 ألف لها “أكواد” في شركات التوزيع. بينما المتوفر فعليًّا في الصيدليات نحو 7 آلاف صنف فقط. ما يعني أن نصف عدد الأصناف المسجلة غير متوفرة، وأن هناك 4 آلاف صنف لم تنتج من الأصل رغم تسجيلها. نتيجة لتسابق الشركات على حجز الأكواد، في إطار التنافس بينها، دون اعتبار لتأثير ذلك على توفير المنتج فعليًّا في السوق.
لكن الخطورة الحقيقية في الأرقام السابقة أنها تشمل نقصًا دوريًا في عدد من الأدوية الأساسية. وتعرف منظمة الصحة العالمية تلك العقارات بأنها التي تغطي أولويات الرعايـة الصحيـة للشـعوب. يتم اختيارها علـى أسـاس مستويات انتشار الأمراض وضمـان الكفـاءة.
وفيما يتعلق بالسياسات الخاصة بالأدوية الأساسية، أشارت الباحثة هبة ونيس في كتاب السياسة العامة والعدالة الاجتماعية إلى غياب المعلومات المؤكدة حـول مـدى وعـي القائمين على خدمات الرعايـة الصحيـة بأهميـة القائمـة الأساسية، أو مـا إذا كانـت محتوياتها متوفـرة في جميع المنشآت الصحيـة. إذ يتم شراء الأدوية من خلال الدولة عبر المناقصات، ووفقًا للسعر الأقل.
أما عزب فيرجع أزمة نقص الأدوية إلى غياب الميكنة عن قطاع الأدوية حتى في حلته الجديدة. كذلك لا ربط بين الصيدليات والهيئات، ولا قاعدة بيانات تشير إلى مكامن الخلل وأسبابها. كما أكد أن الأمر في حاجة إلى إرادة وليس لمزيد من القوانين.
كما وصف عزب فإن الأمر بأكمله متروك لهوى الشركات وسلطانهم، ولا يوجد ما يجبرهم على إنتاج نواقص الأدوية. أو حتى الإنفاق على الأبحاث، وفي ظل غياب المعلومات. كذلك السعي الخالص للربح من الممكن أن تتوقف الشركات عن إنتاج دواء ما، فتتسبب في نقصه بالسوق.
في المقابل، اعتبر عضو مجلس نقابة الصيادلة الدكتور أحمد أبو دومة أن عملية نقص الدواء متحركة، ولا ترقى لأن تكون ظاهرة عامة، ففي رأيه أن الأمر يرجع إلى الممارسات غير الرشيدة في استخدام الدواء من قبل المريض، إلى جانب تمسك بعض الأطباء بأسماء تجارية بعينها، لأسباب تسويقية غالبا.
وفي هذا الصدد تشير الدراسات إلى أن مصر من الدول التي تمارس الاستهلاك غير الرشيد نتيجة لجوء المرضى للعلاج الذاتي في ظل ارتفاع التكلفة الصحية. كذلك الإفراط في كتابة الوصفات الطبية من قبل الأطباء.
التسعير.. الدواء خدمة أم سلعة؟
في 2008 دعمت الجمعية الألمانية للتعاون الدولي الحكومة الهندية في وضع نظام تمويلي يسمح للعائلات الفقيرة للرعاية الصحية. بمقدار 30 ألف روبية سنويًا للفرد. وفي حالة تجاوز تكلفة الرعاية والدواء تتحملها الأسر الفقيرة. كذلك وفرت الحكومة الهندية كروت ذكية للمسجلين داخل هذا النظام. يستفيد منه 5 ملايين مواطن هندي منهم 2% فقط من تجاوزوا الحد الأقصى للدعم المالي.
الباحث محمد سالم
خلال الخمس سنوات الأخيرة تضاعفت أسعار الدواء مرتين. وبشكل أصبح يمثل عبئًا على ميزانية المواطن العادي. في ظل تضاؤل المشاركة الحكومية في صناعة الدواء، والتي وصلت إلى نسبة 5%، من أصل 90% إبان الحقبة الناصرية.
بحسب الباحث أحمد عزب، مرت سياسة تسعير الدواء بمرحلتين، الأولى، وفيها يتم احتساب التكلفة الأساسية بالاضافة إلى هامش الربح، وكان الأمر خاضع للتفاوض مع الشركات، وهو النظام الذي حاربت لأجل الغائه كبرى الشركات العالمية، طمعًا في جني مزيد من الأرباح، والمعمول به حتى العام 2010.
في المرحلة الثانية صدر قرار وزاري باعتماد نظام تسعير الدواء من خلال المرجعية الخارجية. أي حساب الدواء وفقًا لسعر البيع لنفس المستحضر في 12 دولة أخرى مجتمعة في قائمة استرشادية. بغض النظر عن فرق العملة والدخل فتتحول الخدمة إلى سلعة تخضع للعرض والطلب، على حد قول عزب.
كما أضاف أنه مع ارتفاع أسعار الدولار واتخاذ قرار التعويم ارتفعت أسعار الأدوية بعد أن عادت الشركات للضغط. كما امتنعت عن إنتاج بعض الأودية، بدعوى ارتفاع أسعار المواد الخام. ما تسبب في نقص الأدوية بالأسواق، وبين هذا وذاك يئن المواطن نتيجة الأعباء الاقتصادية المتضاعفة على كافة المستويات.
كذلك يرى عضو مجلس النقابة أبو دومة أن ارتفاع سعر الدواء، أمر طبيعي في ظل ارتفاع الأسعار بشكا عام. والمواد الخام بشكل خاص. كذلك لفت إلى أن الجهات الحكومية تعامل الصيدليات كجهة تجارية. ما يتسبب في ارتفاع أسعار الخدمات، ومن ثم الدواء ككل.
كما تابع: “طالما طالبنا الجهات المسؤولة ضرائبيًا بتوحيد الضريبة المفروضة على علبة الدواء من المنبع في مرحلة التصنيع. دون استجابة، واستمرت الضرائب المتعددة المفروضة على البيع وخلافه ما أثقل كاهل الجمهور. كذلك الصيدليات، ويضعف من اقتصادياتها”.
بينما طالب أبو دومة بالإسراع في تطبيق قانون التأمين الصحي الشامل الذي أقره مجلس النواب، لتخفيف العبء عن المواطنين. وشمولهم بالرعاية الاجتماعية اللازمة، خاصة معدومي الدخل منهم.
مافيا الشركات “البراند”
“الفساد الناجم عن الأسعار الباهظة للأدوية ذات العلامات التجارية ليس سببه تكاليف البحث والتطوير، إنما بسبب مجموعات الضغط السياسي وسياسات التسويق والرغبة في جني الأرباح الزائدة”.
الطبيب الألماني بيتر جوتشه من كتاب الأدوية القاتلة والجريمة المنظمة
علـى الرغـم مـن أن نصيـب الفـرد مـن الإنفاق علـى الـدواء في مصـر يعد مـن الأقل على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إلا أن سوق الدواء المصرية يحظى بنمو مطرد، إذ ارتفعت المبيعات من 3 مليارات دولار عام 2010، إلى 24.4 عام 2014.
نفضت الدولة يدها عن قطاع الدواء، لتصل مساهمتها إلى ما يقارب 3%. تتغول الشركات في سلطتها على الأسواق، وتلعب دورًا لا يستهان به في ارتفاع الأسعار. كذلك مدى توافر العقارات، وإتاحتها لمحدودي الدخل لاسيما قليلة التكلفة.
يقول الباحث أحمد عزب إن الشركات الخاصة تستسهل الربح، فتسعى لاستيراد كافة المواد الدوائية. كما أنها لا تشارك في مجال الأبحاث، ما جعل مصر خارج المنافسة. كذلك جعل الأسعار تخضع لقيمة العملة، في ظل استيراد المواد الفعالة لأغلب الأدوية.
من ناحية أخرى، لفت النقابي أحمد أبو دومة إلى ضرورة عودة القطاع العام إلى سوق الدواء. خاصة تصنيع المواد الفعّالة، لضبط الأسعار وتطوير القطاع خاصة في جهة التصدير.
في الوقت نفسه، اعتبر أبو دومة أن الإجراءات الروتينية المعقدة عقبة تواجه الشركات في رحلتها لتسجيل الأصناف الجديدة، بينما يرى الباحث عزب أن الشركات الكبيرة تحجز الكثير من الأكواد لأدوية مماثلة، في حين أن استخدامها شائع وتسويقها مضمون كالمسكنات والمضادات الحيوية. بدلًا من التركيز على البحوث والتطوير في إنتاج الأدوية الجديدة المھمة والخطيرة التي لا تنتجها مصر، يحتاجها المرضى بشدة.
بحسب آخر تقارير منظمة الصحة العالمية عن تسعير الدواء فإن 90% من سكان البلدان النامية يشترون الدواء بأسعار تفوق قدراتهم المالية. وفي مصر يعتمد التصنيع الدوائي فقط على تعبئة وتغليف المكونات الصيدلانية الفعالة المستوردة من الخارج.