في مثل تلك الأيام قبل 80 عامًا، تمكن الصحفيون المصريون من انتزاع حقهم في تأسيس كيان نقابي يدافع عن المهنة، ويسعى إلى ضمان حقوق أبناء صاحبة الجلالة في وقت كانت الصحافة المصرية رأس حربة في معركة الحرية والاستقلال ضد المحتل البريطاني.
ففي 31 مارس من عام 1941 صدر المرسوم الملكي بإنشاء نقابة الصحفيين المصرية، ومنذ ذلك التاريخ، وعلى مدار 8 عقود خاضت النقابة عشرات المعارك واجهت فيها محاولات الأنظمة المتعاقبة فرض الحصار على الصحافة، ودفع المئات من أبنائها أثمانا غالية من حرياتهم وأقواتهم لرفضهم كل مساعي التدجين وفرض سياسة الصوت الواحد.
انطلقت أولى دعوات تأسيس نقابة للصحفيين المصريين من جريدة «الأهرام» عام 1891، ثم تكررت الدعوة من صفحات جريدة «المؤيد» لصاحبها الشيخ علي يوسف أحد وراد الصحافة المصرية عام 1909 وتبعتها دعوات تبنتها صحف أخري.
في عام 1912، قرر عدد من أصحاب الصحف إنشاء نقابة للصحفيين المصريين، وانتخبت جمعيتها العمومية كل من مسيو كانيفيه صاحب جريدة «لاريفورم» بالإسكندرية نقيبا، وفارس نمر وأحمد لطفي السيد وكيلين، وأجهضت تلك المحاولة إثر اندلاع الحرب العالمية الأولي بعد أن فرضت بريطانيا الحماية على مصر وأُعلنت الأحكام العرفية في البلاد.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أسس خمسة من الصحفيين وهم داود بركات وإسكندر سلامة ومحمد حافظ عوض وجورج طنوس رابطة تهدف إلى إنشاء نقابة للصحافة، وعقب دستور 1923 التقى الأستاذ أمين الرافعي صاحب ورئيس تحرير جريدة الأخبار ومعه كل من أحمد حافظ عوض محرر جريدة المحروسة وليون كاسترو مؤسس مجلة «ليبيرتيه» برئيس الوزراء سعد باشا زغلول وطالبوه بإصدار قانون لإنشاء نقابة للصحفيين، وكان ليون كاسترو الصحفي اليهودي صديقا لرئيس الورزاء ومستشاره الصحفي في هذا الوقت.
إثر هذا اللقاء اجتمع عدد من أصحاب الصحف ومحرريها وبدأوا في إعداد مشروع قانون للنقابة، وأعلنوا تأسيسها عام 1924، إلا أن استقالة وزارة سعد زغلول عقب اغتيال السير لى ستاك سردار الجيش الإنجليزي أفشلت تلك المحاولة.
توالت محاولات تأسيس نقابة للصحفيين، ولم يحظ أيا منها باعتراف رسمي، حتى صدر مرسوم باعتماد نظام جمعية الصحافة في 20 أبريل سنة 1936 في عهد وزارة علي ماهر باشا، ولم يقدر لهذا المرسوم أن يدخل حيز التطبيق لأن البرلمان لم يعتمد المشروع المقدم.
بعد هذا التاريخ بنحو 3 سنوات، تحديدا في 27 نوفمبر 1939 تقدم رئيس الوزراء علي ماهر باشا إلى مجلس النواب بمشروع قانون لإنشاء نقابة للصحفيين، كان الدكتور محمود عزمي رائد الحريات العامة وأحد الآباء المؤسسين لهذه المهنة قد صاغ المشروع وعرضه على رئيس الوزراء باعتباره مستشاره الصحفي. ولنحو عام ونصف ظل مشروع قانون تأسيس نقابة للصحفيين قيد المناقشة في البرلمان إلى أن صوت البرلمان بالموافقة على القانون رقم 10 لسنة 1941، وصدر المرسوم الملكي بتأسيس النقابة في 31 مارس من ذات العام.
خلال مناقشة قانون النقابة في البرلمان، أُثيرت أزمة حادة، حيث حاولت الحكومة أن تضع في القانون نصا يحظر على النقابة الاشتغال بالسياسة كغيرها من النقابات المهنية، إلا أن النائب يوسف الجندي المعروف برئيس «جمهورية زفتى» أبدى معارضته الشديدة لهذا النص، وقال في كلمته تحت القبة: «كيف يحظر على نقابة الصحفيين الاشتغال بالسياسة؟.. إن تنظيم مهنة الصحافة وتكوين نقابة للصحفيين يستلزم الاشتغال بالسياسة، فإذا سنَّت الحكومة قانونًا من شأنه الحد من حرية الصحف مما يستدعي أن تناقشه هيئة النقابة فسيتم منعها من مناقشته بحجة اشتغالها بالأعمال السياسية مع أن طبيعة تنظيم المهنة تقتضي من النقابة الكلام في السياسة، كما أن العمل على رفع شأن الصحافة وإعلاء كلمتها يستدعي حتمًا تعرض النقابة للشؤون السياسية».
حُسمت المعركة لصالح هذا الرأي واقتنع النواب بوجهة نظر الجندي، وخرج أول قانون للنقابة دون النص على حظر اشتغالها بالسياسة، ورغم ذلك حافظت النقابة وعبر مجالس إدارتها المتعاقبة على عدم الخلط بين العمل السياسي الحزبي الذي حرمّته على نفسها، والعمل السياسي الوطني الذي تمارسه بإبداء رأيها في القضايا الوطنية العابرة للتحزب والإيديولوجيا.
ظل هذا النص موجودا في قانون النقابة رغم التعديلات التي طرأت عليه، وانتقل إلى القانون الحالي للنقابة رقم 76 لسنة 1971، الذي نصت مادته رقم 47 على أن «مجلس نقابة الصحفيين يختص بوضع خطة العمل السياسى فى النقابة ومتابعة تنفيذها».
بعد إقرار القانون تم تعيين أول مجلس لنقابة الصحفيين ليضم 12 عضوا، – نصفهم يمثل أصحاب الصحف والنصف الآخر المحررين-، ضم المجلس من أصحاب الصحف جبرائيل بشارة تكلا باشا وفارس نمر باشا وعبدالقادر حمزة باشا ومحمد التابعى باشا وإدجار جلاد باشا ومحمود أبو الفتح باشا الذي اختاره المجلس نقيبا، ومن المحررين خليل ثابت بك وإبراهيم عبدالقادر المازنى وفكرى أباظة ومحمد خالد وحافظ محمود ومصطفى أمين.
كانت المهمة الأولى لهذا المجلس المعين هى الإعداد لأول جمعية عمومية للصحفيين، وانعقدت الجمعية بعد ظهر يوم الجمعة الخامس من ديسمبر 1941 بمحكمة مصر في باب الخلق لاختيار أول مجلس منتخب، حضر الاجتماع الأول 110 من أصل 120 عضو سددوا الاشتراك السنوى وقيمته جنيه واحد.
كان أول خمسة أعضاء تقدموا للنقابة كمؤسسين هم حافظ محمود ومحمد لطفى غيث ومحمد أحمد الحناوى ومصطفى أمين وصالح البهنساوى. وحضر الجمعية الأولى رموز المهنة إلى جانب نجوم الفكر والسياسة، منهم أحمد حسن الزيات وعبدالعزيز الإسلامبولى وفيليب حنين وجلال الدين الحمامصى ونبوية موسى ومصطفى أمين وأحمد قاسم جودة وتوفيق حنا الشمالى وسلامة موسى وعباس محمود العقاد وحسين أبوالفتح وكامل الشناوى ومحمود العزب موسى وفاطمة اليوسف ويوسف جوهر وفاطمة نعمت رشاد وكريم ثابت وأبوالخير نجيب وشكرى زيدان وانطوان الجميل وغيرهم.
انقعدت الجمعية العمومية واختارت أول مجلس منتخب لنقابة الصحفيين المصريين، وضم عن أصحاب الصحف كلا من محمد عبدالقادر حمزة ومحمد خالد وجبرائيل تقلا وأحمد قاسم جودة ومصطفى القشاشى ومحمود أبوالفتح الذى اختاره المجلس نقيبا فيما بعد، وعن المحررين إبراهيم عبدالقادر المازنى وجلال الدين الحمامصى وفكرى أباظة ومصطفى أمين وأنطوان الجميل وحافظ محمود الذى انتخب كأول سكرتير عام للنقابة.
منذ صدور المرسوم الملكي بإنشاء النقابة فى 31 مارس عام 1941 وحتى عقد أول جمعية عمومية فى ديسمبر من العام نفسه لم يكن للنقابة مقر، وكانت جلسات المجلس المعين تنعقد فى مقرات صحف «الأهرام» و«البلاغ» و«المصري».
وعقب انتخاب أول مجلس للنقابة تبرع الأستاذ محمود أبوالفتح بشقة في عمارة الإيموبيليا لتصبح أول مقر لنقابة الصحفيين، وبعد انعقاد أول اجتماع للجمعية العمومية العادية عام 1942 في هذه الشقة، استشعر الصحفيون أنهم بحاجة إلى مقر أوسع لعقد الاجتماعات، فعقد الاجتماع اللاحق في قاعة نقابة المحامين الكبرى، وخلال الاجتماع انتبه مجلس النقابة إلى وجود قطعة أرض مجاورة لنقابة المحامين تخلو من الإنشاءات اللهم بضعة خيام لعلاج جرحى الجيش الإنجليزي المصابين في الحرب العالمية الثانية.
فى اليوم التالى لانعقاد الجمعية العمومية تقدم محمود أبو الفتح نقيب الصحفيين بطلب إلى الحكومة لتخصيص هذه القطعة ليقام عليها مبنى النقابة، ردت الحكومة على الطلب بأن القوات البريطانية تضع يدها على قطعة الأرض، وعرضت عليه قطعة أخرى يشغلها سوق الخضر والفاكهة بشارع رمسيس (الموقع الحالى لنقابتى المهندسين والتجاريين) بشرط أن تتولى النقابة إزالة آثار السوق على نفقتها الخاصة، لكن المجلس رفض العرض وفضل الانتظار حتى تضع الحرب أوزارها ثم يسعى مرة أخرى للحصول على قطعة الأرض المجاورة لنقابة المحامين.
فى عام 1944 صادر فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية حينها مبنى من طابق واحد بشارع قصر النيل لصالح النقابة بعد أن كان ناديا لـ «القمار»، حتى صدر قرار من مصطفى النحاس رئيس الوزراء بتخصيص قطعة الأرض المجاورة للمحامين ليقام عليها مبنى نقابة الصحفيين، إلا أن فكرى أباظة نقيب الصحفيين حينها لم يتمكن من تنفيذ قرار التخصيص.
في تلك الأثناء، وجه حافظ محمود وكيل النقابة أثناء سفر النقيب فكري أباظة للخارج، إنذارا إلى القيادة البريطانية بالقاهرة بالجلاء عن هذه الأرض، وأرسل خطابا إلى رئيس وزراء بريطانيا، وتم الاستجابة له، وتسلمت النقابة قطعة الارض، وبعدها نظم مصطفى القشاشى سكرتير عام النقابة اجتماعا لمجلس النقابة مع محمود فهمى النقراشى رئيس الوزراء لبحث إقامة المبنى.
بعث النقراشى بعد أيام من الاجتماع برسالة لمجلس النقابة قال فيها: «يسعدنى أن أبلغكم أن مساهمة الحكومة مستمرة حتى يتم بناء مبنى النقابة ويُفرش بأحدث المفروشات حتى يصبح منارة إشعاع تطل منها مصر بحضارتها العريقة على الدنيا كلها.. وأريدكم أن تعرفوا أننى قررت أنه عندما يحضر وفد أجنبى إلى مصر أن أعزمه فى نقابة الصحفيين لأنها مرآة صادقة للمجتمع المصرى».
عُهد إلى المهندس المعماري الدكتور سيد كريم بأن يُعد تصميما نموذجيا للنقابة ووضع النقيب محمود أبو الفتح حجر الأساس أول يونيو 1947 وتم افتتاحه رسميا برئاسة النقيب فكرى أباظة فى 31 مارس 1949 وبلغت تكاليفه 39801.701 جنيه، ساهمت فيه الحكومة بمبلغ 35 ألف جنيه دفعتها للنقابة على خمسة أقساط وغطت النقابة بقية التكاليف من إيراداتها الخاصة.
بعد نحو 10 سنوات من تأسيس النقابة خاض مجلسها معركة ضد حكومة الوفد التي تقدم أحد نوابها في البرلمان وهو استيفان باسيلي بمشروع قانون لتغليظ العقوبات على جرائم النشر، وذلك بعد أن شنت الصحف حملات ضد الحكومة، وانحاز عدد من نواب البرلمان إلى الصحافة وحريتها ووقف النائب عزيز فهمى تحت قبة البرلمان صارخا «كيف تكون حكومة الوفد التى تنادى بالحريات معولا لهدم الحريات؟».
دعا مجلس نقابة الصحفيين إلى جمعية عمومية للاحتجاج على هذه التعديلات، وصدر قرار من النقابة باحتجاب الصحف لمدة يوم للإعلان عن رفضها لمشروع القانون، وأمام غضبة الصحفيين والرأي العام المصري الذي كان يدافع عن الصحافة وحريتها في هذه الفترة اضطر باسيلى وحكومته إلى سحب المشروع، وعندما سُئل عن أسباب السحب، قال: «العذراء جاتنى فى المنام وقالت لى اسحبه».
تاريخ صاحبة الجلالة دون فصولا من المعارك الفاصلة التي تعد مصدر فخر لكل من ينتمي إلى نقابة الحريات، كان أبرزها تلك التي خاضها الأستاذ أحمد بهاء الدين نقيب الصحفيين عام 1968 في مواجهة نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وذلك عندما دعا مجلس النقابة لاجتماع طارئ لمناقشة مظاهرات الطلاب والعمال التى خرجت للاحتجاج على محاكمات قادة سلاح الطيران، عقب هزيمة يونيو 1967.
واتفق مجلس النقابة فى هذا الاجتماع على إصدار بيان يساند مظاهرات الطلبة والعمال باعتبارها «تعبيرًا عن إرادة شعبية عامة تطالب بالتغيير على ضوء الحقائق التى كشفت عنها النكسة»، وطالب مجلس النقابة بـ«حساب كل المسئولين، وتعميم الحساب ليشمل كل القطاعات والمؤسسات في البلاد، وتوسيع قاعدة الديمقراطية، والإسراع في إصدار القوانين المنظِّمة للحريات العامة، وإجراء انتخابات اللجان النقابية ومجالس النقابات التي تجمدت وحرمت من حقها من انتخاب قياداتها، وتحقيق العدالة في توزيع الأعباء المترتبة على الاستعداد لإزالة العدوان، بحيث تتحمل كل الفئات نصيبها بما يتناسب مع قدراتها ويتحمل الأغنياء النصيب الأكبر وليس العكس».
وقع أعضاء المجلس، ومنهم كامل زهيري ومحمود المراغي وعلي حمدي الجمال، على البيان، وقبل إصداره تلقى الأستاذ أحمد بهاء الدين، مكالمة من وزير الإرشاد القومي محمد فايق، يطلب منه عدم إذاعة بيان النقابة، فرد النقيب: آسف يا سيادة الوزير، القرار ليس قراري وحدي لكنه قرار مجلس النقابة.
انهالت الاتصالات على مكتب نقيب الصحفيين ومن بينها اتصال من علي صبري الأمين العام للاتحاد الاشتراكي قال له فيه: «بصفتي أمين الاتحاد الاشتراكي أرجو عدم إصدار البيان»، فجاء رد النقيب حاسما: الاتحاد الاشتراكي قد يكون مالكا للمؤسسات الصحفية، لكنه لا يملك نقابة الصحفيين.
بيان نقابة الصحفيين الذي حَمل ولو بشكل غير مباشر عبد الناصر ورجاله مسئولية الهزيمة، وصل إلى رئاسة الجمهورية، فاعتبره عبد الناصر «طعنة وجهتها له نقابة الصحفيين»، واقترح عليه البعض اعتقال بهاء الدين وعدد من أعضاء المجلس، لكنه رفض وقال: «لأ.. ده أحمد بهاء الدين وأنا عارف مخه كده.. محدش يكلمه».
بعد نحو عقد اشتبكت الجماعة الصحفية مع الرئيس الراحل أنور السادات بعد إعلانه عن زيارته لدولة الاحتلال الإسرئيلي بقرار منفرد، رد الرئيس «المؤمن» على نشاط ما سّماه «حزب حديقة الصحفيين» بطرح عدد من القوانين لتقييد الحريات الصحفية والعدوان على نقابة الصحفيين، وقرر تحويل النقابة إلى نادٍ، وخاض مجلس النقابة حينها معركة شرسة دفاعاً عن كيانهم النقابي، وقاد النقيب كامل زهيرى هذه المعركة، حتى أجبر السادات على التراجع.
وبعد التوقيع على اتفاقية «كامب ديفيد»، أصدرت الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين في مارس من عام 1980 قرراها بحظر التطبيع النقابي مع الكيان الصهيونى حتى يتم تحرير جميع الأراضى العربية المحتلة وعودة حقوق الشعب الفلسطينى، حاول السادات الضغط على النقابة، وصدر قرار بفصل الصحفيين المعارضين لسياساته من النقابة بعد فصلهم من مؤسساتهم، فرفع النقيب كامل زهيرى في وجهه شعاره الشهير «العضوية كالجنسية».
وفي عام 1995 اشتعلت معركة جديدة في مواجهة نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، إثر تمرير مجلس الشعب القانون رقم 93 الخاص بتنظيم الصحافة، والذى اشتهر بقانون اغتيال حرية الصحافة وحماية الفساد، والذي صدق عليه مبارك فى ذات ليلة تمريره، فانعقدت الجمعية العمومية غير العادية للصحفيين فى العاشر من يونيو 1995 وظلت فى حالة انعقاد مستمر لمواجهة القانون الذى وضع قيودا غير مسبوقة على الحريات الصحفية، والذى قال عنه الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كلمته للجمعية العمومية: «وأشهد آسفا أن وقائع إعداد هذا القانون كانت أقرب إلى أجواء ارتكاب جريمة منها إلى أجواء تشريع عقاب، وأنه يعكس أزمة سلطة شاخت فى مواقعها».
شهدت النقابة أكبر حركة احتجاجات على مدى تاريخها، غطى الصحفيون جدران نقابتهم بالرايات السوداء، وتوالت مبادرات الغضب فاحتجبت الصحف الحزبية، وقررت بعض الصحف تنظيم حركات اعتصام بكامل محرريها بحديقة النقابة.
وإثر غضبة أصحاب الجلالة تسلم أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس، ملف الأزمة وبدأ اتصالاته بعدد من كبار الصحفيين والنقابيين للبحث عن صيغة للخروج من الورطة، واستقبل مبارك وفدا من كبار الصحفيين حضره إبراهيم نافع نقيب الصحفيين حينها، وأعضاء المجلس وكل النقباء والنقابيين السابقين وفى مقدمتهم كامل زهيرى وحافظ محمود، وانتهى الأمر بإسقاط القانون.
في عام 2004 وخلال افتتاح المؤتمر الرابع للصحفيين نقل النقيب جلال عارف عن الرئيس حسني مبارك وعده إلى الجماعة الصحفية بإلغاء الحبس في قضايا النشر، وعلى مدار عامين حاولت السلطة التملص من هذا الوعد، وفي عام 2006 نجح مجلس النقابة في عقد جمعية عمومية لتنفيذ هذا الوعد وتقدم المجلس بمشروع لتعديل قانون العقوبات يقضي باستبدال الحبس بالغرامة في قضايا النشر، ألا أن نواب الحزب الوطني بالبرلمان بقيادة أمين تنظيم الحزب أقحموا على التعديلات مادة تقضي بحبس الصحفيين عند الخوض في الذمة المالية للمسئولين.
وأعلنت النقابة رفضها للتعديل، وانطلقت من مقر النقابة مسيرة قادها النقيب جلال عارف وشارك فيها من على مقعد متحرك الأستاذ كامل زهيري النقيب الأسبق والكاتب الصحفي صلاح الدين حافظ والعديد من كبار الصحفيين، وأعلنت 26 جريدة الاحتجاب عن الصدور، تضامنا مع موقف النقابة.
وبعث النقيب جلال عارف برسالة إلى الرئيس مبارك يذكره بوعده بإلغاء الحبس في قضايا النشر ويطالبه بالتدخل، ودخل سكرتير عام النقابة يحيى قلاش ومعه عدد من أعضاء المجلس في اعتصام مفتوح وانضم إليهم أعضاء من الجمعية العمومية. وانتهى الأمر بإعلان الدكتور مفيد شهاب وزير الدولة للشؤون البرلمانية تراجع الحكومة عن التعديل، بناء على توجيهات الرئيس.
وخلال السنوات الأخيرة من عمر نظام مبارك، تحول سلم نقابة الصحفيين إلى قبلة لأصحاب الحاجات والحقوق، ومع الوقت صارت النقابة وسلمها رمزا من رموز رفض الاستبداد، وانطلقت منها المظاهرات المنددة بتزوير الانتخابات والداعمة لغضبة القضاة والمناهضة لمشروع «توريث الحكم» إلى جمال مبارك.
ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011 فتحت النقابة أبوابها لأبناء الوطن الذين خرجوا لإسقاط الاستبداد والتهميش والفساد والتزوير، وسقط خلال الثورة وما تلاها من أحداث شهداء من أبناء «صاحبة الجلالة»، وتكرر الأمر خلال الموجة الثانية للثورة في 30 يونيو 2013.
وفي عام 2016، وإثر اقتحام قوات الأمن مقر النقابة بدعوة القبض على الزميلين عمرو بدر ومحمود السقا، بدأت حلقة جديدة من حلقات الصراع، انتفض فيها الصحفيون والتفوا حول مجلس نقاباتهم بقيادة النقيب يحيى قلاش، وأعلنوا رفضهم محاولات السلطة تأميم الكيان النقابي، وظلت جيوب المقاومة حاضرة معلنة عن رفضها إلحاق الكيان النقابي العريق بباق المؤسسات التي جرى تأميمها.
ورغم هذا التاريخ الحافل لنقابة الصحفيين في الدفاع عن حرية الصحافة واستقلالها وضمان حقوق وكرامة أبنائها، ألا أن البعض يصر على تحويلها إلى جميعة استهلاكية تقدم خدمات وسلع مخفضة بالقسط، ليحيد بها عن أهدافها الأساسية التي أُنشئت من أجلها.