نقطة البدء في إعادة التفكير في العقد الاجتماعي في مصر هي لحظة يناير 2011؛ لنفهم وفق -هذا المنظور- لماذا جرت يناير والمقدمات التي أدت إليها. وما طبيعة العقد الاجتماعي الذي طرحته، وإن لم تتحقق ملامحه. وما تأثيرات عقد ما بعدها على الأوضاع في مصر. وما الذي يمكن أن تؤول إليه؟
العقد الاجتماعي هو إطار العلاقات بين الدولة والمجتمع. حيث يعترف المواطنون بحق الدولة في الحكم، مع التزامات معينة تقع على عاتق الدولة في المقابل. يوفر تحليل العقد الاجتماعي والتفاعل المتغير للفئات الاجتماعية مع الدولة منظورًا للقوى التي أدت إلى اضطراب توازن العقود الاجتماعية السائدة. بما يفسح المجال أمام ظهور الآخرين.
اقرأ أيضًا: منتدى مصر للجمهورية الثانية
بعبارة أخرى يبين العقد الاجتماعي الجزء الغاطس من أي نظام سياسي من جهة الفئات الاجتماعية التي تسانده نتيجة إعادة تخصيص الموارد لصالحها، وبما يخلق الشرعية التي تحتاج إلى قاعدة اجتماعية واسعة. ذلك بما يكفي لتكون مستدامة، لتحقيق الشرعية يحتاج الحكام إلى التحالف مع طبقات اجتماعية مختلفة؛ فالدولة متأصلة في مجموعة ملموسة من الروابط الاجتماعية، التي تربطها بالمجتمع وتوفر قنوات مؤسسية لـ “التفاوض” على الأهداف والسياسات.
عقود ثلاثة لأزمان ثلاثة
مرت مصر في تاريخها الحديث بعقود اجتماعية ثلاثة استغرق كلا منها ثلاثة عقود تقريبًا: العقد الاجتماعي إبان الفترة الليبرالية (1923-1952) قام على مقاومة المحتل والديمقراطية الممتزجة برأسمالية الإقطاع، واستمر 30 سنة فقط. لأنه ارتكز علي تناقضات عدة، ولم يحقق أهدافه: استقلال منقوص، وديمقراطية يتحكم فيها الملك والإنجليز والإقطاع، وعدم توزيع عادل لموارد البلد الغنية أو ما أطلق عليه وقتها مجتمع الواحد في المائة: واحد في المائة من السكان يحوزون 90٪ من الثروة. لذا فإن تدخل الجيش في 52 كان تحصيل حاصل. لأن السلطة من سنوات كانت ملقاة على قارعة الطريق تبحث عمن يلتقطها.
في الخمسينيات والستينيات وفرت التنمية التي تقودها الدولة، بما في ذلك التنمية الصناعية التي تقوم بها، فرص عمل للكثيرين، مع توفير الدولة للصحة والتعليم والوظائف ومجموعة من الإعانات الاستهلاكية. ارتبط العقد وقتها بنموذج التنمية الذي تقوده الدولة، حيث تنتج الدولة السلع والخدمات وتديرها وتوزعها على سكانها.
قام هذا العقد -الذي استمر حتي آواخر السبعينيات باعتبار فترة السادات كانت تمهيدًا لما تلاها- علي مقايضة تاريخية بسيطة، وهي: الرعاية الاجتماعية من الدولة والكرامة القومية مقابل عدم مساءلتها عما تفعل. وقد توفر للدولة إبان الفترة الناصرية ما يكفي من الموارد للحفاظ علي هذه المقايضة. إلا أن هزيمة 67 ألقت بظلالها على هذه الصيغة، فكان بيان مارس 68 محاولة لاستيعاب تناقضاتها برزت بجلاء في فترة السادات 1970-1981.
وهكذا تم تأمين شرعية الدولة من خلال نهج شعبي تم فيه تزويد الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا بخدمات عامة عالية الجودة، وإعانات للمستهلكين، وتوظيف في إطار السرد الأكبر للنزاهة والشعور بالقومية، الذي يتوق إليه الناس. انعكست هذه الشرعية في ولاء المواطن في شكل قبوله لغياب المشاركة السياسية.
العقد الاجتماعي غير الاجتماعي
يشير مصطلح “غير اجتماعي” هنا (والتعبير للدكتورة أميرة الحداد -أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة) إلى حقيقة أن عددًا متزايدًا من المجموعات المجتمعية تم استبعادها من التفاوض أو الاستفادة من العقد، ما أدى في النهاية إلى الاضطرابات في 2010-2011.
أدت أزمتا النفط في الثمانينيات، والنمو السكاني، وتدهور أداء نموذج التنمية الذي تقوده الدولة، والضغط الغربي المتزايد، إلى موجة من سياسات التحرير أدت إلى صدع في العقد الاجتماعي.
استند هذا العقد -في فترة مبارك 1981-2011- إلى مرتكزات ثلاثة: رأسمالية المحاسيب، والانفتاح على شبكات الامتياز الدولية وخاصة في الخليج، مع قمع محسوب ومجال عام متحكم فيه ومسيطر عليه.
بدأت فئات اجتماعية متسعة من المصريين -خاصة في العقد الأول من الألفية الجديدة- تدرك أن هذا العقد مجرد صفقة بين الحكومات الاستبدادية ورجال الأعمال المحظوظين الذين يستفيدون من الحماية والوصول إلى العقود الحكومية وقروض البنوك مع قمع للفئات الاجتماعية المضارة. حيث يتم تقييدها من خلال الوعود الفارغة المتزايدة للبرامج الاجتماعية والقمع البوليسي.
في مراجعة هامة للبنك الدولي حملت عنوان: “انفجارات الغضب الشعبي-اقتصاديات الربيع العربي وتوابعه“، بعد أن كان يبشر من قبلها بنجاح كلا من مصر مبارك وتونس بن علي في تحقيق معدلات نمو مرتفعه ستتنزل بالضرورة تلقائيًا على الفئات الأضعف، ترى المؤسسة الدولية العريقة أن “تميزت العقود الاجتماعية التي أُنشئت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA) بعد الاستقلال “بطابع تدخلي وإعادة توزيع مميز”، يتميز بتفضيل تخطيط الدولة على نتائج السوق الحرة، وظهور نظام مركزي. إلى جانب البيروقراطية / الإدارة الهرمية، وتفضيل إعادة التوزيع، مع اعتبار الدولة مسؤولة عن توفير الرعاية الاجتماعية والخدمات الاجتماعية. بما في ذلك إلى حد كبير التوظيف. في مقابل قبول المواطن للسيطرة من الدولة والافتقار النسبي للمشاركة السياسية والمساءلة، فقد أوجدت الدولة فرص عمل ضخمة في القطاع العام، ووفرت التعليم والرعاية الصحية بالمجان، وقدمت دعمًا سخيًا للغذاء والمياه والطاقة”.
ويضيف البنك الدولي في تقريره الصادر 2018 والذي يحمل ضمنيًا اعتذارًا عن رؤيته السابقة: “باستخدام الوسائل القمعية، تمكنت حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من توفير درجة عالية إلى حد ما من الاستقرار والأمن. ولكن في مواجهة انخفاض أسعار النفط، والدين العام المتزايد، والنمو السكاني السريع، كافحت السلطات في المنطقة لتلبية توقعات المواطنين والتمسك بنهايتها من هذا العقد الاجتماعي لإعادة التوزيع”.
في الفترة التي سبقت الربيع العربي، اضطرت الحكومات إلى خفض الأجور في القطاع العام، وفرضت تجميدًا لتوظيف الوظائف الحكومية. ما ترك نسبة متزايدة من السكان المتعلمين عاطلين عن العمل. وتم إدخال الزيادات في دعم النفط والطاقة، التي تهدف إلى استرضاء الطبقة الوسطى الأكثر تضررًا بشكل مباشر من خفض الأجور العامة، على حساب الفقراء، الذين شهدوا تقلص دعمهم الغذائي.
وبالتالي، يمكن تفسير الانتفاضات في العديد من البلدان العربية في عامي 2011 و2012 على أنها تعبير عن استياء عميق من العقود الاجتماعية التي لم توفر مشاركة سياسية ولا مزايا اجتماعية.
عقد ما بعد يناير
يلاحظ أن الفترة القصيرة 2011-2014 التي شهدت محاولة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي ليكون أكثر شمولاً وتمثيلاً لفئات اجتماعية أوسع، تم تجاوزها سريعًا، بإعادة إنتاج العقد الاجتماعي غير الاجتماعي، والذي استند إلى فئات ثلاث: المكون الأساسي لأجهزة الدولة، ونخبة مختارة من رجال أعمال سابقين وجدد، والمانحون الخليجيون بشبكات امتيازاتهم الدولية.
ارتكزت المقايضة التاريخية في 2013 على الحماية بالمعني الهوبزي؛ أي الأمن/الحفاظ على الدولة مقابل التنازل عن الحرية التي نادت بها يناير؛ بما يعنيه من استعادة هيمنة الدولة على مجمل المجال العام، تمهيدًا لمصادرته بعد ذلك. لكن الأهم من وجهة نظري أنه تمت استعادة سلطة الدولة متحررة من: 1- أي اعتبارات سياسية نتيجة تصحير السياسة، و2- أية اعتبارات اجتماعية تراعي الفئات الأكثر ضعفًا التي تصاعدت معاناتها مع تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي بمراحله المتعددة.
اقرأ أيضًا: ثورة يناير بين فشل السلطة وسلطة الفشل
ويلاحظ في هذا الصدد بدء وتصاعد مقاومة المصريين لهذا العقد الاجتماعي في شكل سلبي -تعودوا عليه تاريخيًا- كما في عدم الإقبال على الاستحقاقات الانتخابية، أو أشكال ظاهرة كما برزت ابتداءً من المظاهرات المحدودة سبتمبر 2019، والتي تكررت في العام التالي، بما جعل الدولة تناور في الاستجابة دون تغيير حقيقي في جوهر وطبيعة العقد الاجتماعي غير الاجتماعي.
هناك نقطة جديرة بالإشارة هنا، هي أن استطلاعات الرأي المختلفة تدل علي تراجع خطاب الاستقرار والحرب على الإرهاب الذي أدي في مراحله الأولى لتجانس المجتمع وإخضاعه لسلطة الدولة، وتراجع هذا الخطاب لصالح أولوية الأوضاع الاقتصادية التي تضغط على المواطن. بعبارة أخرى؛ خطاب التفزيع والتخويف قد استنفد غرضه لصالح أولويات باتت هي الأهم عند المصريين الآن.
الخلاصة: أصبح موقف العقد الاجتماعي “غير الاجتماعي” في مصر الآن راسخًا بعمق مع احتمالات محدودة للتحول عنه، وتم بناء شبكات الامتياز السابقة، وإن كان لصالح فئات جديدة أقل عددًا ومغلقة على ذاتها. خاصة أن مشاريع البنية الاساسية العملاقة تخلق وظائف مؤقتة وليس عمالة منتجة تستند إلى النمو الاقتصادي القائم على التحول الهيكلي، وسرعان ما تتأثر هذه العمالة المؤقتة وغير الرسمية بأقل التطورات. كما جرى في ظل فترة كورونا، ويعمق من ذلك تراجع أسعار النفط إقليميًا، وتأثيرات كورونا دوليًا.
إن تآكل الأيديولوجيا بتراجع خطاب محاربة الإرهاب وعدم الاستقرار، مع غلبة التقدير السياسي دون بناء قواعد واضحة، وتحرر من الطبقات الاجتماعية مع قلة في الموارد الخارجية المتاحة، ما من شأنه أن يخلق دولة مفترسة -بتعبيرات العلوم الاجتماعية- لأن حفاظ الدولة على امتيازات فئات محدودة، يعني إفادة طرف واحد والذي لا يمكن أن يحدث دون مصادرة موارد طرف آخر في نفس الوقت.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا
هشام جعفر صحفي وباحث متخصص في شؤون حل النزاعات وقضايا المرأة والحركات الإسلامية، تخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في عام 1985، وحصل على الماجستير في العلوم السياسية. اشتغل بعدها بالصحافة، والعمل البحثي الأهلي لاحقًا. وقد ترأس تحرير القسم العربي بموقع “إسلام أون لاين” منذ تأسيسه وحتى إغلاقه.