أصاب حادث جنوح السفينة البنمية في قناة السويس، العالم بصدمة، نظرًا لأهميتها الاستراتيجية كونها تُؤمّن عبور ما يصل إلى 12% من إجمالي التجارة العالمية، بواقع 18 ألف سفينة سنويًا. وتستوعب القناة نسبة 100% من تجارة الحاويات المارة بين آسيا وأوروبا، ما يهدد بتكبد التجارة العالمية خسائر فادحة في حال إغلاق واحدًا من أكثر طرق التجارة ازدحامًا حول العالم.
إصابة التجارة العالمية
الضجة التي صاحبت حادث جنوح السفينة في الممر الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر وتوفر أقصر رابط بحري بين آسيا وأوروبا، تبرهن على أنّ ثمة كارثة اقتصادية في حال استمر إغلاق الممر المائي الأهم في العالم، خاصة على صعيد النفط الذي ترتفع أسعاره تدريجيا مع استمرار الأزمة. وتفيد المعلومات الواردة من هيئات التتبع الملاحية بأن هناك أكثر من 160 سفينة عالقة أمام قناة السويس من بينها 24 ناقلة نفط، وسفن تشحن سلعًا استهلاكية.
ويمر عبر القناة البالغة طولها 193 كيلو مترًا 1.1 مليار طن من البضائع سنويا، ما يعد شريان حياة بين أوروبا وآسيا، ما يعني انسداده توجيه ضربة كبيرة للإمدادات التجارية، خاصة المنتجات المصنعة في الصين، مثل السلع الرأسمالية والصناعية والاستهلاكية والغذائية. وتشير البيانات إلى أن أوروبا تستقبل سنويا ما بين 14 إلى 15 مليون حاوية ممتلئة بالبضائع، يأتي 75% منها من الصين.
زلزال نفطي
ونقلت وكالات أنباء ووسائل إعلام دولية عن شركات شحن أن حادثة السفينة في قناة السويس أخّرت تسليم منتجات نفطية بقيمة نحو 10 مليارات دولار، وهو ما يفسر الزيادة المستمرة لأسعار الذهب الأسود في الأسواق العالمية.
ويقول محللون إن 10 ناقلات نفط تحمل 13 مليون برميل من الخام، وهو ما يعني أن حوالي 14% من الطلب اليومي، قد تتأثر بالتأخير. هذا في وقت زادت فيه أسعار الشحن لناقلات المنتجات النفطية إلى المثلين تقريبا.
وتشير بيانات الشحن إلى أنّ تعطيل السفينة تعطل نقل بضائع بنحو 9.6 مليار دولار يوميًا، ما يعني قرابة 400 مليون دولار في الساعة، بواقع 5.1 مليار دولار باتجاه الغرب و4.5 مليار دولار تجاه الشرق. هذا التعطل يرتفع سعر شحن الحاوية الواحدة من الصين إلى أوروبا إلى 8 آلاف دولار، أي 4 أضعاف سعر الشحن العام الماضي.
منافع وتخوف
لذلك تنقل تقارير غربية عن شركات شحن أنّ أسعار النقل البحري قفزت بشكل كبير بسبب ازدحام سفن الشحن أمام قناة السويس. بيد أن اختيار التحول عن الممر المصري لن يكون خيارًا سريع التنفيذ وإن بقي واحدا من خيارات المستقبل.
لا شك أن أزمة السفينة الجانحة تشق تاريخ قناة السويس نصفين، ما قبل الحادث ليس كما بعده، على الأقل على المدى البديل، عندما يفكر العالم بشكل جدي في إيجاد بديل للممر المصري. بيد أن هذه الأزمة وضعت أمام العالم رسالة بمدى أهمية القناة، ما يمكن أن تستغله مصر بشكل اقتصادي في الترويج لممرها أو حتى تعديل أسعار العبور لاحقًا، ما يعني في جميع الأحوال أنّ ثمة منافع وهواجس جراء واقعة الجنوح الحالية.
وبهذا المعنى يمكن القول إن ما قبل 24 مارس الجاري (تاريخ جنوح السفينة) ليس كما بعده. سواء من ناحية استفادة مصر من الحادث للبرهنة على موقعها الاستراتيجي الفريد أو نتائجه العسكرية في خضم ما يدور حول تفكيرفي بدائل.
مصدر العملة الصعبة
وتشكل إيرادات قناة السويس أهم مصادر النقد الأجنبي لمصر بجانب السياحة وصادرات الغاز، وذلك بمتوسط دخل يومي يبلغ حوالي 15 مليون دولار. وتشير البيانات الرسمية الصادرة عن الهيئة والبنك المركزي إلى أن القناة حققت إيرادات خلال العام المالي 2019/ 2020، بلغت نحو 5.6 مليار دولار.
ومع تضرر مصدر النقد الأجنبي الآخر المتمثل في السياحة، يبدو أن مصر قد تواجه شبه أزمة عملة صعبة، خاصة أنّ البلاد تستورد أغلب احتياجاتها الأساسية من الخارج بالعملة الأجنبية، ما يشير إلى احتمالية تفاقم الأسعار، في حال تأخر حل أزمة السفينة.
وعبر القناة ما يزيد عن 19 ألف سفينة في 2020، بإجمالي حمولة بلغت نحو 1.2 مليار طن، وذلك رغم تراجع التجارة العالمية جراء جائحة كورونا.
لماذا تنتظر السفن؟
السؤال التي تبادر إلى أذهان المتابعين لأزمة السفينة، هو لماذا ينتظر عدد كبير في بداية المدخل الجنوبي للقناة؟. هنا يقول مختصون إن عرض القناة البالغ حوالي 335 مترا، لا يتيح هامشًا أمام السفن للمناورة والالتفاف بعد دخولها القناة، ما يعني أن معظمها مجبر على الانتظار إلى حين حل الأزمة بتعويم السفينة العالقة، وإعادة فتح الممر أمام الملاحة.
وتقول شركات تتبع السفن إن حوالي 206 سفن عالقة حاليًا على مدخلي قناة السويس، الشمالي والجنوبي، وفي وسطها، بسبب جنوح السفينة العملاقة.
لماذا لم تحل قناة السويس الجديدة الأزمة؟
السؤال الآخر يدور حول دور قناة السويس الجديدة في حل الأزمة الحالية، الفريق أسامة ربيع رئيس الهيئة أجاب على هذا السؤال في مؤتمر صحفي اليوم السبت عندما قال إن مكان الحادثة لم يكن فى قناة السويس الجديدة ولكن فى المدخل الجنوبى على بعد 35 كيلو من السويس.
قناة السويس الجديدة التي جرى افتتاحها عام 2015، تتمثل مهمتها في الحد من أوقات انتظار السفن على جانبي القناة، إلا أن هذا الفرع الجديد الذي استغرق إنشائه عامًا واحدًا يبدأ شمال موقع حادث السفينة الجانحة، ما أدى إلى تعطل حركة الملاحة في القناة بشكل كامل.
المقامرة مع طريق رأس الرجاء الصالح
وفي حال استمرار الإغلاق فإن الحل البديل هو طريق رأس الرجاء الصالح، والذي يعني زيادة المسار بمقدار 9.65 ألف كيلومتر، ويستغرق أسبوعًا إضافيًا، ووقودًا للسفن أيضًا، وهو ما يزيد من تكلفة نقل البضائع بشكل خيالي، رغم أنه يوفر رسوم عبور القناة التي تبلغ 500 ألف دولار في كل مرة.
ومع ذلك، نقلت وكالة “رويترز” عن مجموعة شحن الحاويات “سي.إم.أيه سي.جيه.إم” قولها اليوم السبت إنها قررت تحويل مسار بعض السفن لتدور حول رأس الرجاء الصالح بسبب تعليق حركة المرور في قناة السويس.
وقالت الشركة، التي مقرها فرنسا، إنه سيتم مبدئيًا تحويل مسار سفينتين. وأضافت أنها تدرس أيضًا طرقا بحرية أو سكك حديدية أو جوية بديلة للبضائع التي لم يتم تحميلها بعد.
البديل الروسي
استغلت روسيا الأزمة الحالية وبدأت الترويج لممر بحري بديل، وهو الطرح الذي عرضته في السابق ويتمثل في الممر البحري الشمالي. ويروج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ وقت طويل لهذا الطريق الملاحي على طول الساحل القطبي الروسي باعتباره منافسًا لقناة السويس.
وفي أحدث عروض الترويج لهذا الممر، عرضت شركة روساتوم الحكومية الروسية للطاقة الذرية ثلاثة أسباب “لاعتبار الممر البحري الشمالي بديلا حيويا لممر السويس”. وتقول روسيا إن الممر البحري الشمالي الذي يسمح للسفن بالوصول إلى الموانئ الآسيوية يقل بـ15 يومًا مقارنة بممر قناة السويس.
قناة بنما
المتخصصون في الشحن يرجحون أن يكون الحل هو المرور عبر قناة بنما. وطرحوا أفكارًا في هذا الاتجاه لتجربة سفينة نقل تغادر بحمولة من شنغهاي في الصين. وفي غضون 13 يومًا تكون قد وصلت إلى قناة بنما وبعد 10 أيام تصبح في روتردام.
قناة السويس على خريطة العالم
قناة السويس التي تعد أقصر طريق مائي بين الشرق والغرب، والتنقل من قارة أوروبا إلى الأراضي المطلة على المحيط الهندي وغرب المحيط الهادئ، تمتلك أهمية جغرافية كونها تربط بين المحيط الأطلسي والبحر المتوسط.
وضعت قناة السويس مصر في بؤرة خريطة العالم. نظرًا لأهميتها في الشرق الأوسط، وحققت نهضة اقتصادية لمصر من خلال زيادة أهمية الموانئ المصرية الساحلية مثل مينائي السويس وبورسعيد. وقللت الضغط على ميناء الإسكندرية وميناء دمياط على البحر المتوسط. فضلاً عن مساعدتها في إنعاش السياحة الشاطئية.
“الأسطول الأصفر”.. قصة 14 سفينة احتجزت 8 سنوات في قناة السويس
كانت القناة شاهدة على أحداث سياسية وعسكرية كثيرة في العصر الحديث. لعل أهمها حرب العبور في السادس من أكتوبر. وكانت عقبة في الاشتباك مع المحتل الإسرائيلي غربها. لكنّها تحولت إلى ملحمة عسكرية ناجحة للقوات المصرية آنذاك.
لكن القصة الأبرز أن القناة شهدت عملية إغلاق شهيرة بطلها “الأسطول الأصفر”. وهو الاسم الذي أطلق على مجموعة من 14 سفينة حوصرت في قناة السويس لمدة 8 سنوات في البحيرة المُرّة الكبرى بالإسماعيلية. خلال الفترة من عام 1967 إلى عام 1975. وذلك نتيجة حرب 1967، وسميت بهذا الاسم نتيجة ظهور السفن باللون الأصفر بسبب تراكم رمال الصحراء على متنها.
ليس الأول.. 8 إغلاقات سابقة في تاريخ القناة
ورغم ضخامة الأزمة المثارة عالميًا. لكنّ قناة السويس التي كانت شاهدة على تقلبات سياسية وحروب تعرضت لـ8 مرات إغلاق سابقة. وقد تنوعت أسبابها بين سياسية وعسكرية أو عوامل جوية وانحرافات سفن.
أغلقت القناة لأول مرة، لمدة يومين، أمام حركة الملاحة عام 1882، في أعقاب الثورة العرابية، نتيجة الأحداث التي شهدتها البلاد. والمرة الثانية دام الإغلاق 11 يومًا عندما غرقت كراكة بعد اصطدامها مع سفينة في 10 يونيو عام 1885.
وفي الثاني من سبتمبر عام 1905 أغلقت القناة لمدة 10 أيام، بعد اصطدام سفينتين، واشتعال النار في إحداهما. ومع الحرب العالمية الأولى، توقفت حركة الملاحة في فبراير عام 1915. وتكرر الأمر في الحرب العالمية الثانية في الفترة من 28 أغسطس 1940 إلى 27 يوليو 1942.
وفي سبتمبر عام 1952 غرقت إحدى السفن قرب مدينة بورسعيد ما أدى إلى إغلاق القناة. وكان العدوان الثلاثي صاحب المرة السابعة التي تتعطل فيها الملاحة عبر الممر. وذلك لمدة عام كامل سنة 1956 بسبب إغراق 48 سفينة وقاطرة وقطعة بحرية. ثم الحادثة الشهيرة للأسطول الأصفر.
والمرة التاسعة في 24 مارس الجاري عندما جنحت ناقلة الحاويات العملاقة “إم في إيفر غيفن”. وكانت متجهة إلى ميناء روتردام في هولندا، بسبب رياح قوية وارتطامها بالأرض، ما أدى إلى إغلاقها أمام حركة الملاحة.
تاريخ العرق المصري
وتمثل قناة السويس واحدة من المشاريع العملاقة التي تترك أثرًا في نفوس المصريين. فضلاً عن أهميتها الاقتصادية، نظرًا للظروف التي حفرت خلالها، قبل افتتاحها عام 1869 بعد 10 سنوات من التشييد. ذلك عندما ساهم في عملية الحفر ما يقرب من مليون عامل مصري. إذ ترجح المصادر وفاة أكثر من 120 ألف عامل منهم أثناء عملية الحفر نتيجة الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة.