للحدين الأدنى والأقصى للأجور في مصر قصة طويلة ممتدة، تجددت في آخر سنوات نظام مبارك، لتصل لأهم فصولها وقت ثورة يناير. الفصول تنوعت بين تظاهرات ومناشدات وأحكام قضائية وقرارات حكومية. لكن القصة لم تنته حتى الآن.
العام الجاري رفعت الحكومة الحد الأدنى لأجور العاملين بالجهاز الإداري للدولة إلى 2400 جنيه. ليصل إجمالي الزيادات على الأجور إلى 37 مليار جنيه، بعد عامين من الزيادة الأخيرة التي جرت عام 2019.
وعلى مدار العامين بلغ معدل التضخم 12%، ووصل معدل الفقر 29% قبل وباء كورونا. بينما تصل نسبة موظفي الدولة إلى 25% تقريبًا من إجمالي العمالة. كما ظهرت المطالبات بوضع حد أدنى للأجور قبل عام 2011. بينما كانت أحد أهم الشعارات التي رفعتها ثورة 25 يناير، وتمثل الزيادة الجديدة المقررة أقل نسبة لزيادة الحد الأدنى للأجور منذ عام 2010.
وتحكي قصة الأجور في مصر وحدّها الأدنى قصة أحد أكبر تفاوتات الدخل بالعالم وصل في بعض حالاته إلى 900%، في الحكومة فقط. أما القطاع الخاص له رواية مختلفة.
وشهد أول تحرك نحو رفع الحد الأدنى للأجور عام 1984 بالتزامن مع انفتاح السوق وتسارع النمو العالمي. كذلك عقب عدة مطالبات بالإضافة إلى موجة الغلاء.
وعلى مدار 26 عامًا تقريبًا، ظل الوضع مجمدًا حتى اضطرت الحكومة في عام 2010 لرفع الحد الأدنى على خلفية حكم مجلس الدولة. الحكم كان في القضية الشهيرة للمحامي الحقوقي خالد علي لصالح موكله ناجي رشاد العامل في قطاع الأعمال العام.
وبعد الثورة زادت المطالبات برفع الحد الأدنى للأجور وتحديد نسبة لـ”الأقصى” في محاولة إلى تحجيم التفاوت في الدخول. حتى انتهى الأمر عقب مشاورات عدة بإقرار مبلغ 1200 جنيه كحد أدنى آنذاك.
فما هي مقاييس وضع الحد الأدنى وانعكاساته على وضع الأجور؟
الأجر العادل للعامل وبغض النظر عن الخلاف حول تحديده من مفهوم اقتصادي يجب أن يضمن الحياة الكريمة للعامل ولأسرته التي يعولها. فكل من يعمل يجب أن يوفر له دخله حياة كريمة تراعي قيمة العمل الذي يقوم به، وبما يتناسب مع الظروف الاقتصادية. وإن اختلت هذه المعادلة فإن ذلك يكشف خللًا اجتماعيًا، ولا سبيل إلى تحقيق الأجر العادل إلا بضمان حد أدنى للأجور.
من حيثيات الحكم في قضية ناجي رشاد 2010
عن قصة الأجور يقول وزير القوى العاملة الأسبق كمال أبو عيطة: “لا ينقطع الحديث الحكومي عن تحسن معدلات التضخم. كذلك مستويات النمو، ومع ذلك تزداد حياة المواطن العادي بؤسًا، خاصة بعد صدمة 2016 التي شهدت بدء تفعيل سياسة تعويم الجنيه. وانعكاس القرار على زيادة حادة في الأسعار، بالقطع لا يداويها مبلغ 2400 جنيه”.
كما تابع أبو عيطة: “الأجور كانت الأول ماشية زي السلحفاة، والأسعار حصان رهوان، الأمر وصل الآن لسرعة الصاروخ بالنسبة للسلع”.
الحد الأدنى للأجور مسألة علمية
تذهب المدرسة الاشتراكية إلى أن الأجر يجب أن يكون طبقًا لمفهوم “كل حسب حاجته”، في حين تشير الرأسماليات إلى أن الحد الأدنى هو ذلك المعدل الذي يوفر العيش للعامل فترة عمله وما يلزمه في سبيل إعالة عائلة، بحسب آدم سميث.
كذلك يشير الباحث والخبير الدكتور عبدالخالق إلى أن تحديد الحد الأدنى هو بالأساس مسألة علمية تستند إلى الحد الإنساني للأجر. كما أنه يسمح بتأمين الحاجات الأساسية للعامل وأسرته، مع إضافة نسبة تتراوح مابين 15% إلى 20%، للنفقات الإضافية. ما يسمى في فرنسا بالحد الحيوي للأجر.
كما أضاف أن ذلك يحدث مع التشديد على ضرورة وجود مظلة تأمين صحية تهتم بصحة العامل وأسرته.
ويرى الباحث الاقتصادي محمد جاد أن مسألة الحد الأدنى طالما تعاملت معها الدولة على أساس التفاوض مع العمال وممثليهم. بمعزل عن مستوى المعيشة اللائق، أو الحسابات الدقيقة. لافتًا إلى ضرورة حساب قيمة الأجر بعد إضافة عنصر التضخم.
فاروق أكد أن حساب معدلات التضخم وانعكاسه على الأسعار، عنصر مهم لحساب قيمة الأجور والعلاوات الدورية. كما أكد ضرورة إخضاع القضية إلى بناء نظام الأجور نفسه. ويتضمن بدوره وضع جداول الرواتب على أساس 3 عناصر أساسية: مستوى التأهيل العلمي. كذلك مقدار الخبرة العملية، إلى جانب الأقدمية في العمل. والأخير لا يتم الاعتماد عليه في المطلق في النظم الاقتصادية الأجرية النموذجية
الحد الأدنى للأجور وخط الفقر
أما عن مبلغ الـ2400 جنيه، فيلفت جاد إلى ضرورة وضع خط الفقر في الاعتبار عند حساب قيمة الحد الأدنى للأجر.
كما يشير خط الفقر القومي في مصر وبحسب المعهد القومي للتخطيط، إلى أن النسبة السنوية تصل إلى مستوى 8800 جنيه سنويًا. أي بواقع 735 جنيهًا للفرد شهريًا بمعدل عدد أفراد الأسرة المصرية الذي يصل إلى 3.5 فرد. فأن خط الفقر يقف عند المبلغ 2572 جنيهًا.
وتكشف الأرقام خللًا في المبلغ المقترح كحد أدنى للأجر، والذي لا يتوازن حتى مع خط الفقر القومي. بينما وصف كمال أبو عيطة المنظومة بـ”غابة الأجور في مصر”. لافتًا إلى التفاوت الكبير بين المداخيل، والذي يصل في بعض الجهات إلى العشرين ضعف. بينما يأتي ذلك عبر المكملات المالية من حوافز وغيره، في حين يحظى محدودي الدخل بأقل القليل.
“سيرك الأجور”
بدوره وصف فاروق المنظومة بـ”سيرك الأجور والرواتب”، وأن معادلة الحد الأدنى للأجور الحالية خلقت تشوهًا. كما أنها تجاهلت مستوى التحصيل العلمي. على سبيل المثال اعتمدت على المكملات المالية كسبيل للتلاعب.
كذلك اعتبر عبدالخالق أن مبلغ 2400 جنيه هو المعادل لمبلغ 600 جنيه عام 2011. فالأجر لم يراع معدلات التضخم من زمن إقرار مبلغ 1200 جنيه. كما أن الزيادة تمثل الأجور المكملة، بشكل لا يتم احتسابه لاحقا بعد التقاعد.
وأضاف عبدالخالق أن الحد الأدنى في ظل معدلات التضخم الحالية، لا يجب أن يقل عن 4 آلاف جنيه، في أي حال من الأحوال.
حساب مبلغ التقاعد بشكل غير عادل لفتت إليه الباحثة الاقتصادية سلمى حسين. كما اعتبرت أن من عيوب الحد الأدنى، حساب الزيادة بشكل متغير لايضاف إلى الأجر الأساسي. ومع ذلك قدرت الباحثة مبلغ الـ2400 جنيه، كمبلغ مناسب إلى حد ما في حال كان يمثل أول السلم الوظيفي. حيث يتم تحريك سلم الأجور في الدرجات المالية التالية بنسبة 20%.
ولكن رغم التحسن في القيمة الحقيقية ظل الأجر الأدنى الجديد يشتري اليوم سلعًا وخدمات أقل ما كان مبلغ 1200 جنيه يشتريه قبل 8 أعوام. أي أنه بسبب أثر التضخم ما زال الحد اﻷدنى يعتبر أقل منه في عام 2013، وفقًا لسلمى.
الحد الأقصى حبر على ورق
أعقاب ثورة يناير اشتعلت حرب الحد الأقصى للأجور. بينما طالب الكثيرون بوضع حد أقصى للأجور في ظل النظام السابق. النظام الذي عرف بكثرة مستشارينه وارتفاع رواتبهم بشكل مبالغ فيه.
اعتبر أبو عيطة أن القانون الذي أقر أثناء توليه الوزارة، ومواده الخاصة بالحد الأقصى تم تجاهلها عبر سنوات رغم إقرارها. ويقول أبو عيطة إن ذلك نتيجة تدخل “ترزية القوانين والفاسدين” وتعدد الاستثناءات.
كذلك أكد: “تصدر القوانين سليمة ثم تأتي الاستثناءات لتذهبها أدراج الرياح”. وأشار إلى تدخل قطاعات سيادية، وغير سيادية أهدر القانون، ومنح متنفذوها استثناءات.
كما دلل على ذلك بجيش المستشارين الذي تتخطى أجوره مبالغ هائلة، من دون إنجاز واحد يذكر. وتساءل أبو عيطة عن أسباب تمسك الدولة ببعض موظفيها، وتعيينهم كمستشارين بعد التقاعد. في حين فشلوا في تخريج أجيال جديدة تخلفهم، معتبرًا أن الأمر يشوبه الواسطة، والمحسوبية.
بينما سعى الحد الأقصى إلى تخفيض التفاوت بين الدخول من 1 إلى 35 ضعف الراتب من أدنى لأعلى السلم الوظيفي ما يوازي 84 ألف جنيه. الأعلى عالميًا، يتجاوز أجر بعض موظفي الدولة المليون جنيه، بحسب فاروق.
ومع ذلك اعتبر فاروق أن الأزمة تتخطى مسألة الحد الأقصى، واصفًا إياها بـ”الفوضى المتعمدة”، عبر المكملات المالية. التي يتمسك بها أصحاب المصالح للحفاظ على الامتيازات المالية المتحققة بفضلها.
تحسين منظومة الأجور.. “شو إعلامي”
المكملات المالية اعتبرها أبو عيطة الباب الخلفي للتفاوت المخل للأجور بين الوزارات، وحتى في الوزارة الواحدة، لنفس الدرجات الوظيفية.
كما ضرب مثالًا على ذلك بالشكوى المزمنة من المحليات، مرجعًا أسبابها إلى منظومة الأجور. تلك المنظومة التي تحقق لموظفي المحليات أقل راتب، وتساءل كيف يتم تحسين صورة الحكومة في حين أن ممثليها موظف “كحيان” يضطر لمد يده. في وقت تحصل فيه سكرتارية الوزير مثلًا على مبالغ مالية مضاعفة، مستغلة قربها من صناع القرار.
ويقول فاروق إنه لا أدل على ذلك من رواتب بعض العاملين ببعض الجهات التي تتجاوز راتب الوزير نفسه، بحسب فاروق. الذي اعتبر أن أي إعلان يخص تحسين منظومة الأجور بمثابة “شو إعلامي”.
التوزيع غير العادل للأجور في رأي أبو عيطة من أسباب عدم شعور العامل العادي بأي تحسن معيشي. رغم ارتفاع الميزانية المخصصة للأجور عام بعد عام. فضلًا عن التضخم الذي يتسبب في تناقص القوة الشرائية للنقود.
في حين ذكر الدكتور فاروق بالمحاولات السابقة لتنظيم بنية الأجور، دون زيادة مخصصات الميزانية في عام 2013. ولكن بمزيد من العدالة والمساواة بين العمال، إلا أن المتنفذين ماطلوا بالأمر ورفضوه، حفاظًا على امتيازات شخصية.
كمال أبو عيطة عبّر عن مخاوفه من تدهور أوضاع العمال، ومعالجة أزمة الأجور عبر المكملات المالية وبشكل غير عادل. وانعكاس ذلك على سلوكيات المجتمع. قائلًا: “بمعدلات الفقر اللي لامسينها في الشارع، وغياب المساواة أخشى أن لايجد المتسولين أحد يتسولون منه”.
وعلى خلاف الآراء السابقة ترى سلمى حسين أن نظرية الحد الأقصى للأجور غير مجدية. ولا يتم العمل بها عالميًا. وأن العمل في اتجاه تحسين وضع الضرائب التصاعدية على الدخول العالية والإضافية هو الأهم.
مأساة القطاع الخاص والعمال الفقراء
“الشر هو أن الملايين لا يستطيعون أن يكسبوا إلا قدرًا ضئيلاً لأنفسهم بالعمل المضني الذي يمزق الجسد ويشلهم معنويًا وفكريًا. بل أنهم يضطرون إلى أن يعتبروا تعاسة التوصل إلى مثل هذا العمل نوعًا من حسن الطالع”.
شارل لودن
محمد جاد لفت إلى فشل محاولات ضم القطاع الخاص إلى منظومة الحد الأدنى للأجور نتيجة تهرب أصحاب الأعمال من الالتزام به. خاصة في ظل بيانات غير شفافة، تخص الأجور الحقيقية للعمال، لاعتبارات تخص الرسوم التأمينية. كذلك قطاع لا يستهان به من العمالة غير الرسمية.
أبو عيطة أشار إلى أن محاولات تطبيق قانون الحد الأدنى على القطاع الخاص استمرت بعد الثورة حتى عام 2013. حين بادر إلى الاجتماع بصفته وزير بالحكومة بممثلي العمال من الاتحاد الذي وصفه بالحكومي.
وقال عيطة تحجج أصحاب العمل بأن الحد الأدنى من شأنه رفع أسعار التشغيل، فوافق وزير التأمينات آنذاك على جدولة رسوم التأمين وتخفيضها. ومع ذلك تهربوا من الحل. كما وجّه أبو عيطة أصابع الاتهام إلى اتحاد عمال مصر. وقال: “حيل بيننا وبين وضع قانون يخص عمال القطاع الخاص لتواطؤ الاتحاد مع أصحاب العمل”.
العمالة غير الرسمية
ويقضي الاتفاق القائم بين الطرفين على رفض أصحاب العمل لقانون النقابات، الذي يهدد بقاء الاتحاد. بينما وعد اتحاد العمال بوقف إضرابات العمال. فضلًا عن التنازل عن وضع حد أدنى للأجور، وهو ما أطلق عليه أبو عيطة آنذاك “وعد من لايملك لمن لايستحق”.
وخلال العام الجاري وعدت الحكومة بانعقاد المجلس القومي للأجور، وتتوقع ورقة لمشروع حلول للسياسات البديلة في الجامعة الأمريكية. بالإضافة إلى إقرار مبلغ 2000 جنيه كحد أدنى لعمال القطاع الخاص.
لكن الورقة نفسها وجدت أن الأمر مجحف بالنسبة للعمالة غير الرسمية، ومن شأنه تعميق التفاوت القائم بين الدخول. بينما لفتت إلى ارتفاع نسب تلك العمالة بشكل مطرد خاصة بعد عام 2006. نتيجة ضعف الطلب على العمالة في القطاع الخاص، الذي لم يتمكن من خلق فرص عمل كافية ولائقة للسكان العاملين.
من ناحيتها وصفت سلمى حسين الحد الأدنى للأجور بحجر الأساس في العمل اللائق، وإن كان لايعد العامل الوحيد. مشيرة إلى أن مصر تعد من الدول ذات العمالة الشديدة الفقر. بينما تبلغ نسب الفقر فيها بين العمال 7 من كل 10 عمال رجال، و6 من كل 10 عمال سيدات.
في حين أعربت سلمى عن قلقها البالغ على أحوال 75% من العمال، الذين يعملون خارج الإدارات الحكومية. بينما يتوزعون بدورهم بين عمالة رسمية، وأخرى تقبع في الظل دون أدنى حقوق.
وتأتي النسب في صالح النساء وسط ارتفاع معدل البطالة بينهن، نظرًا لانتشار سياسة العمل غير اللائق. في ظل غياب العقود التأمينية، ومواعيد العمل المناسبة. كذلك الإجازات الرسمية، والمرضية، والمواصلات الآمنة. فضلًا عن عملهن دون أجر للعناية بالمنزل.