للمرة الأولى، يحمل خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي لهجة تحذيرية مختلفة فيما يتعلق بأزمة “سد النهضة”. وهو الملف المعلقة مفاوضاته بسبب الإصرار الإثيوبي على الملء الثاني في يوليو المقبل. “مبنتكلمش كتير، بس بقول للناس كلها إن محدش هياخد نقطة مياه من مصر.. اللي عاوز يجرب يجرب”؛ قال الرئيس المصري أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقده على هامش انتهاء أزمة السفينة الجانحة وعودة الملاحة لقناة السويس.
كذلك، شدد السيسي على تمسك مصر بمساعي التفاوض والحوار. لكنه حذر أيضًا من أي محاولة مساس بأمن مصر المائي. وقال: “محدش هيقدر ياخد نقطة من مياه من مصر، وإلا سيكون هناك حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد، ولا أحد يتصور أنه بعيد عن قدرتنا”.
رسائل الرئيس.. ما الذي تغير في الخطاب المصري؟
هذا هو التغير الجديد في الخطاب الرسمي المصري. وهو ما لم تشهده السنوات الماضية، التي حافظت فيها الإدارة المصرية على لهجة ناعمة في التعاطي مع أزمة السد. إذ سعت القاهرة منذ العام 2014 على الوصول إلى اتفاق حول ملء وتشغيل السد بالحوار. من خلال عدة جولات من المفاوضات، بدأت بالتوقيع على اتفاق إعلان المبادئ في مارس 2015.
اشتمل الاتفاق -حينها- على عشر مبادئ أساسية، أهمها: بناء الثقة والتفاوض بحسن نية. ذلك بغرض إيجاد اتفاق شامل يقلل الآثار السلبية المتوقعة من السد على المصالح المائية لدولتي المصب ويحقق الفائدة المرجوة لإثيوبيا. وهو ما لم تضمنه الجولات اللاحقة والتي لم تنته إلى أي نتائج واضحة يمكن البناء عليها. في ظل تمسك مصر بعدم المساس بالحقوق والاستخدامات الحالية لمياه النيل باعتبارها حق تاريخي مكتسب يحميه القانون الدولي المنظم للأنهار الدولية المشتركة. وكذلك تشدد إثيوبيا في اعتبار استكمال بناء السد والملء عمل سيادي خاص بها. لهذا فإنها ترفض التوقيع على أي اتفاق ملزم قد يعطل أي مشروعات مستقبلية لها على النيل الأزرق.
حديث الرئيس السيسي الأخير كاد أن يغلق أي مبادرات متوقعة من أجل العودة للتفاوض دون ضمانات حقيقية. لكنه أيضًا لم يغلق الباب تمامًا، إذ قال: “خلال الأسابيع القليلة القادمة هايبقى فيه تحرك إضافي ونتمنى أن نصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشان ملء وتشغيل السد”. مع حفاظه على التأكيد على أن الرأي العام العالمي وكبار المسؤولين في دول العالم أصبح لديهم معرفة ودراسة بأن مصر تكسب أرضًا بملف سد النهضة من خلال الجدية في التفاوض دون أن يستأثر أحد بشئ، على حد تعبيره.
رسائل السيسي.. لم تكن لإثيوبيا وحدها
في مطلع أبريل سيكون لدى إثيوبيا ثلاثة أشهر فقط لتنفيذ مخططها باستكمال الملء الثاني للسد. ذلك بتعلية الجزء الأوسط من جسم السد، وحجز ما يقرب من 18 مليار متر مكعب إضافية من إيراد النيل الأزرق في الموسم المطري. إضافة إلى 5 مليار متر مكعب كان قد تم حجزهم العام الماضي بشكل أحادي ومفاجئ، دون موافقة مصر أو السودان. وهو ما يعني استحالة الدخول في أي مفاوضات جادة يمكن أن يتم التوصل عبرها إلى نتائج خلال ثلاثة أشهر فقط. خاصة وأن إثيوبيا رفضت رسميًا المقترح السوداني المصري بأن تجرى المفاوضات من خلال آلية رباعية دولية تشمل: الأمم المتحدة – الاتحاد الأفريقي – الاتحاد الأوروبي – الولايات المتحدة.
ورغم الموقف الواضح لمصر والتنسيق الذي جرى مع السودان خلال الشهرين الماضيين والتوصل إلى تفاهمات مشتركة تم ترجمتها إلى تحركات دبلوماسية ثنائية مشتركة. إلا أن بعض التحركات من قبل دول خليجية فاعلة في المنطقة الأفريقية، وبخاصة حوض النيل، أصبحت تشكل قلقًا وتوجسًا لدى مصر. إذ تداولت تقارير إعلامية سودانية معلومات عن شمول المبادرة الإماراتية للتوسط بين السودان وإثيوبيا لمحاولات للتوصل إلى اتفاق ثنائي بين البلدين لتبادل المعلومات والتنسيق لتمرير الملء الثاني بشكل يقلل المخاطر المباشرة المحتملة على السودان. وذلك من دون موافقة القاهرة. وهو ما يعد تعديًا مباشرًا على المصالح المائية المصرية في مياه النيل الأزرق. فضلاً عن إضعاف الموقف المصري المعترض على الاستئثار الإثيوبي بإدارة المياه عبر سد النهضة.
تذكير بأهمية مصر الجغرافية وقوتها
وقد أطلق السيسي هذه الرسائل التحذيرية في إطار حدث تحتفي فيه مصر بقدرتها على حل أزمة السفينة العالقة. وتضمن الحديث طمأنة لدول العالم بأن “الأمور عادت لمسارها الطبيعي فيما يتعلق بـ 12% من تجارة العالم تمر عبر هذا المجرى الملاحي الهام”. ذلك في رسالة تأكيد على أهمية مصر في خدمة وحماية مصالح دولية عبر موقعها الجغرافي. “نحن أمام رسالة حاسمة بأن قناة السويس قوية وباقية وقادرة على تلبية نقل التجارة العالمية”؛ قال السيسي.
حذر السيسي -في خطابه- من خطورة سد النهضة وما للسياسات الأحادية من تهديد على السلم والأمن الإقليمي. وقد سبق أن تحركت مصر في هذا الإطار باللجوء إلى مجلس الأمن العام الماضي. حيث تم توجيه العديد من الرسائل بشأن خطورة تعرض الأمن المائي المصري لأي مخاطر أو نقص في معدلات مياه النيل الواردة. وشمل ذلك تفسيرات مصرية لما قد يترتب عليه الأمر من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والعنف والهجرة غير الشرعية. وهي الأزمات التي ستكون دول أوروبية في مقدمة المتضررين منها.
إلا أنه رغم ذلك لم تكن استجابة المجتمع الدولي على قدر من القوة للتدخل الحاسم وحل النزاع. إذ اكتفت دول ومنظمات دولية في مقدمتها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بحث الدول الثلاثة على استكمال الحوار وحل كافة المشاكل العالقة بالتفاوض.
هل تدخل مصر حربًا من أجل المياه؟
تقديرات الخيار العسكري تبقى بيد الإدارة السياسية وحدها. رغم بعض الأصوات المصرية المطالبة بالتصعيد ردًا على ما يوصف بـ”الغطرسة الإثيوبية”.
وحتى في ظل الخطاب الأخير، يبقى الحديث المصري الرسمي مستبعدًا إمكانية اللجوء إلى أي قوة عسكرية لحل الخلاف مع إثيوبيا. إذ أكد السيسي -في حديثه بالإسماعيلية- أن العمل العدائي قبيح وله تأثيرات كبيرة تمتد لسنوات كثيرة “لأن الشعوب مبتنساش ده”. والقاهرة وفق هذه الجملة لا تزال ملتزمة بالحوار من أجل حل كافة القضايا العالقة. لكن ذهذا الالتزام مشروط بأسس ومعايير يحكمها القانون الدولي المنظم للأنهار العابرة للحدود.
على الجانب الآخر، فإن الحكومة الإثيوبية والسلطات القائمة على ملف سد النهضة هناك بدأت -منذ وقت طويل- حملة إعلامية استهدفت تعبئة الرأي العام المحلي والدولي. وقد استعانت في ذلك بالسفارات الإثيوبية في الخارج والجاليات وجماعات الضغط. بغرض التهوين من أي مخاوف تتعلق بإمكانية تضرر سد النهضة من أي ضربات عسكرية محتملة من قبل مصر. بينما تم تسريب عده تقارير عن تحصين السد بسلسلة من مصدات الصواريخ.
تقديرات الخيار العسكري
وفق تقديرات خبراء عسكريين، فإن هناك عدة خيارات يمكن أن تلجأ لها القاهرة في حال اتخاذ قرار الحرب على إثيوبيا. وتتمثل هذه الخيارات في دعم المتمردين الإثيوبيين، وبخاصة التيجراي. فرغم مواقفهم المتشددة في ملف سد النهضة أيضًا أثناء حكمهم إثيوبيا منذ عهد رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي. إلا أن عدائهم الحالي لإدارة آبي أحمد يمكن استغلالها لتعطيل مخططات الحكومة الإثيوبية في استكمال الملء الثاني للسد.
ورغم التقديرات المتاحة بتفوق الجيش المصري -يحتل المركز العاشر من بين أقوى 133 جيش في العالم- على نظيره الإثيوبي الذي يحتل المرتبة 41. لكن سيناريوهات توجيه ضربة عسكرية وتأثيراتها تظل الفيصل الرئيسي في اتخاذ القرار. فالتدخل البري المحتمل سيكون عبر الحدود السودانية التي تبعد مسافة 20 كيلو متر من موقع السد في منطقة بني شنقول. بينما تبقى موافقة السودان لاستغلال أراضيها في توجيه أي ضربات لإثيوبيا أمرًا غير محسوم. رغم التعاون العسكري غير المسبوق بين القاهرة والخرطوم خلال الشهر الأخير. فضلاً عن استمرار الاستفزازات الإثيوبية للسودان بسبب التعديات على الأراضي السودانية والنزاع على الحدود الشرقية في منطقة الفشقة.
هذا الخيار العسكري يبقى أيضًا مرهونًا بعدد من التحديات. خاصة فيما يتعلق بالتدخل البحري أو الجوي. فرغم تفوق القاهرة في العتاد البحري وعدم امتلاك إثيوبيا أي قطعة بحرية. إلا أن إثيوبيا لا تطل على أي بحار أو محيطات. كما أن التدخل الجوي سيكون مرهون بحجم الخسائر المراد إلحاقها بسد النهضة نفسه. بعد وصوله لمراحل متقدمة في البناء كمبنى خرساني يبلغ عرضه 1800 متر وارتفاعه 170 متر. وهو يحتوي على ما يقرب من 10 مليار متر مكعب من الخرسانة.
وسط هذا كله تبقي القاهرة على الباب مفتوحًا لاستئناف مفاوضات جادة. وهو ما أبلغة وزير الري للمبعوث الأمريكي دونالد بوث. إذ أكد له تمسك مصر بالآلية الرباعية إذا ما كان هناك إمكانية للرجوع إلى المفاوضات.