نشر دكتور أيمن منصور ندا، الأستاذ بكلية الإعلام جامعة القاهرة، سلسلة مقالات تناول من خلالها الأوضاع الإعلامية على الساحة المصرية في الوقت الراهن، ووجّه أسهم النقد إلى بعض الإعلاميين، وإلى السياسات الإعلامية الحالية والدائرة منذ سنوات، والتي غاب عنها المنطق العلمي، وباتت مجرد أصوات معبرة عن إرادة الحكومة، مبتعدة كل البعد عن كل أوجه النقد أو التبصير أو التصويب التي من المفترض أن تسود وسائل الإعلام لعله يصبح وسيلة نافذة وناقدة للعديد من الأمور التي تهم المجتمع، وأهم ما لفت النظر إليه هو قوله “أحمد موسى مذيع على مسئوليته! مواصفات المذيع كما تشير إليها الكتب غير موجودة فيه.. وخصائص الصوت والأداء غير متوفرة لديه.. بل إن لديه مشكلات صوتية وأدائية واضحة تمثل في حد ذاتها عائقًا أمام الإنسان الطبيعي للتواصل مع الآخرين وللتفاعل معهم فما بالك بالمذيع.. ولديه مشكلات ثقافية واضحة تمنعه من التأثير.. وله مواصفات شكلية ظاهرة تمنعه من الإقناع.. إضافة إلى ذلك، فإنه دائم الوقوع في أخطاء مهنية كفيلة باعتزاله الإعلام نهائيًا، وكافية لوضع “جوبلز” نفسه على منصة الإعدام.. ورغم ذلك فأحمد موسى هو صاحب أكبر عدد من الساعات على الهواء يوميًا، حتى وصل الأمر إلى تقديم بلاغ إلى النائب العام للمطالبة للتحقيق في الواقعة، كما تم تقديم مطالبات للتحقيق معه داخل الجامعة.
فهل إلى هذه الدرجة وصل أمر النقد العام في مصر، أو بمعنى شمولي ما الحدود الحالية للنقد المباح؟ لابد وأن نقرر في البدء أنه لا شك من أن القانون يحمي شرف كل شخص واعتباره، يحميه حماية عامة لا يلاحظ فيها المنزلة الخاصة التي يعتقد الشخص أنه جدير بها، حقًا كان اعتقاده أم باطلًا، ولكن القانون لا يحمي الأعمال والتصرفات، كما أن حرية القول حرية دستورية عامة لجميع المصريين. كما جاء في نص المادة 47 من الدستور التي نصت على أن: “حرية الرأي مكفولة ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره في حدود القانون كالدكتور ندا، والنقد الذاتي والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني”.
كذلك الحال ما سارت على هدية الاتفاقيات والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وأهم ما يذكر ما جاء بنص المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وبشكل أساسي فإن حرية التعبير وممارسة حق النقد من عوامل التقدم والتحضر، وما لوسائل الإعلام والاتصال من مكانة محورية في تقدم البشر وفي مناحي حياتهم وأسباب رفاههم تتيح للناس، في كل أنحاء العالم، إمكانيات جديدة وفرصًا للارتقاء في سلم التنمية، حتى لا تكون الخشية من التجريم عاملًا من عوامل التردد وحبس الأفكار وعدم انطلاقها، ما يجعل لحرية الرأي والتعبير القدرة على المشاركة في قاطرة المجتمع وتوجيه الرأي العام ناحية الصواب، وتبصير المواطنين بأوجه القصور والإخفاق في التصرفات الحكومية، ولكنه في ذات الوقت يجب أن لا تتعرض لما يمكن اعتباره من أوجه السب أو القذف بتعديها حدود الصالح العام وتوجيه الكلام للأشخاص بذواتهم، وليس بصفاتهم الوظيفية، كما يجب أيضًا ألا يتعرضوا للحياة الخاصة لمن يوجه لهم النقد، أو بشكل خاص لحياة الموظفين العموميين الخاصة.
وفي هذه الحالة يصبح لحرية التعبير قدرة على المشاركة بإخلاص وفعالية في الحياة الاجتماعية العامة والمساهمة في دفع التقدم الاجتماعي إلى الأمام، ووضعت محكمة النقض المصرية ما يشكل معيارًا لحدود النقد المباح بقولها في الطعن رقم 435 لسنة 79 ق بقولها أن كنه حسن النية في جريمة قذف الموظفين العموميين هو أن يكون الطعن عليهم صادرًا عن اعتقاد بصحة وقائع القذف ولخدمة المصلحة العامة لا عن قصد التشهير والتجريح شفاء لضغائن أو دوافع شخصية، ولا يقبل من موجه الطعن في هذه الحال إثبات صحة الوقائع التي أسندها إلى الموظف بل يجب إدانته حتى ولو كان يستطيع إثبات ما قذف به، كما أنه من المقرر أن النقد المباح هو إبداء الرأي في أمر أو عمل دون المساس بشخص صاحب الأمر أو العمل بغية التشهير به أو الحط من كرامته، فإذا تجاوز النقد هذا الحد وجب العقاب عليه”.
ومن هذه الحدود، وهذا التبيان يجب التأكيد أن الرأي الصواب لا يعني فقط التأييد المطلق للحكومات، وإلا صارت الآراء مجرد أبواق بيد نافخيها، ولم يعد لها نفع عام يعود على المجتمع أو ثمرة ترجى منها، وصرنا جميعنا نسير في ركب واحد أو باللغة العسكرية نسير في كول مارش جماعي. وأن على السلطة في أي مجتمع أن تفتح ذراعيها وصدرها لسهام النقد الموجهة إليها، والتي تبتغي الصالح العام، وتسعى للتطوير والبحث عن الأفضل لحياة المواطنين في شتى المجالات مادامت أوجه النقد متعلقة بالعمل العام، وتبعد عن حياة الأشخاص الخاصة.
ومن هنا فإن ما أبداه الأستاذ الدكتور أيمن ندا لم يخرج عن تلك الحدود إذ أن عظيم ما قاله أو كتبه كان متعلقًا بشكل رئيسي بالمواصفات العلمية لعمل المذيع أو مقدم البرامج، وهو المنهج الذي يقوم بتدريسه في كلية الإعلام، حتى بنقده الموجه لمذيع باسمه فإن ذكر الاسم وحده لا يشكل جريمة ما دام النقد كان بمناسبة ممارسته لعمله أو وظيفته، ولم يخرج عن هذا الإطار بالتطرق إلى حياته الخاصة أو شرفه أو سمعته، وهو الأمر الذي يخرج به عن طور المحاكمات والتحقيقات، إذ أننا لو تابعنا كل أوجه النقد باللجوء للنيابة العامة و المحاكم، فإن ذلك النهج سيؤدي بنا إلى خانة التضييق على حرية النقد، أو بشكل عام للتضييق من حدود ممارسة حريات الرأي والتعبير بأنواعها المختلفة سواء بالقول أو بالكتابة أو بالرسم.
وأرى في النهاية أنه من الأوجب أن يقوم هؤلاء الذين شملهم مقالات الدكتور أيمن ندا بالتنازل عن تلك البلاغات، بل أدعوهم على ما هو أبعد من ذلك بأن يقوموا بضرب المثل على إيمانهم بحرية القول والرأي بأن يعيدوا ما كتبه الدكتور أيمن ندا أمام متابعيهم كنموذج يحتذى لإيمانهم بحرية الكلمة.