6 أبريل
كان حدثا استثنائيا، ففي وقت استراح فيه مبارك لكرسيه، وبدأ قبلها بسنوات قليلة في تجهيز نجله جمال، لخلافته، بينما القوى السياسية المعارضة في حالة انهزام بعد أحداث عامي 2005، 2006، والقضاء على حركة استقلال القضاة، فوجئ الجميع بصورة الرئيس الراحل على الأرض تدهسها الأقدام، لتمنح الحركة العمالية حركة النضال الديمقراطي قبلة الحياة.
يوافق اليوم 6 أبريل، إضراب المحلة، الذي اعتبره البعض البروفة الأولى لثورة 25 يناير، حين بدأ بحركة ذات طبيعة عمالية، فتبنته القوى السياسية الشبابية، وبدأت الدعوة إليه كاضراب عام، ومعها العد التنازلي لنهاية العهد البائد.
لم يكن للدعوة الكبرى أن تبدأ إلا من خلال القوى العمالية ومطالبها بتحسين ظروف العمل، والأجور، وعليه لايمكن إرجاع نجاح الأمر فقط لدعوات التواصل الاجتماعي حينها، فكان الدرس الأول أن التغيير الحقيقي يكمن في تضمين الجماهير ومطالبهم الفئوية لأي حركة .
وحول فترة ما قبل المحلة يقول المحامي والكاتب اليساري أحمد حسن: “بدت القوى التي تتبنى المطالب السياسية، مثل كفاية مهتمة فقط بمطالبها المباشرة، فيما يخص ملف التوريث، والتعديلات الدستورية، ولم تلق بالا أبدا بالنضال العمالي، وضرورة الاشتباك معه، حتى أنهم سخروا من محاولات الحركات اليسارية المبكرة، للتواصل مع العمال”.
الطريق إلى 6 أبريل
بدأت الحركة العمالية في مطلع الألفينات، ومهدت الطريق أمام المحلة، فشهدت العديد من شركات قطاع الأعمال والقطاع الخاص احتجاجات متتالية.
وفي ورقة قدمها الكاتب رؤوف عبدالسلام يوضح طبيعة النشاط العمالي من عام 2000 حتى 2005، يتضح التصاعد في الحركة العمالية عبر أساليب الاحتجاج المختلفة من تظاهرات، وإضرابات، واعتصامات، ووقفات احتجاجية، حتى جاء عام 2006 وشهر ديسمبر تحديدا.
الكاتب الصحفي مصطفى بسيوني اعتبر أن التحول في الحركة العمالية بدأ من خلال إضراب غزل المحلة، حين حمل نعش الرئيس الراحل حسني مبارك الرمزي لأول مرة، وهو أول إضراب عمالي في موقع ضخم يضم ما يقرب من 20 ألف عامل منذ إضراب عمال غزل كفر الدوار في 1994.
وصف بسيوني الإضراب بالأكثر تنظيما، إذ سبقه امتناع عن صرف الأجور، احتجاجًا على عدم صرف المكافأة السنوية، وحدد العمال موعد الإضراب مسبقًا وقاموا به في الوقت المحدد، واستمر الإضراب لثلاثة أيام، وصاحبه اعتصام في الشركة، بعدها تمت الاستجابة لمطلب العمال وانتهى دون صدام بين الأمن والعمال.
كان لنجاح الإضراب، وتنفيذ مطالب العمال أثره الإيجابي على الحركة العمالية، وحفز على انطلاق الاحتجاجات، بشكل أكثر تنظيما، وتكثيفا، كما أعطى للمحلة وزنا وثقلا امتد أثره إلى القوى السياسية بحسب بسيوني.
وفي سبتمبر 2007 تكرر الإضراب، على مدار أسبوع، وتوسع العمال في مطالبهم، وزادت معها الثقة فيهم، وفي تحركاتهم، رغم التهديدات الأمنية المستمرة.
يؤرخ بسيوني لتلك الفترة خاصة تاريخ 17 فبراير 2008، حين نظم عمال المحلة حركة احتجاجية، شارك فيها الآلاف، قبل يوم من انعقاد المجلس القومي للأجور، وبرزت نواة أولى المطالبات بوضع حد أدنى للأجور”.
وحول أهمية هذه التظاهرة يقول بسيوني: “مثلت مطالبات الحد الأدنى للأجور قفزة في الوعي العمالي، ودرجة تنظيمهم، عبر اشتباكهم مع المطالبات الاجتماعية العامة، كما كانت أساس أحداث 6 أبريل لاحقا”.
انتفاضة المحلة.. الطريق إلى الثورة
وصف مصطفى بسيوني أحداث 6 أبريل بـ “الانتفاضة” في ظل تعديها عملية المطالبات العمالية التقليدية المحدودة، إلى حاجات قومية عامة مثل الفقر، والغلاء، واشتبك الجمهور الغاضب مع الأمن، فلم يقتصر الاحتجاج على العمال فقط.
وهو ما وافقه وزير القوى العاملة الأسبق كمال أبو عيطة، معتبرا أن تلك الفترة تمثل تطورا في الحركة العمالية لا يمكن تجاوزها، فالمطالبات لم تعد تتوقف عند مكاسب اقتصادية، واجتماعية محدودة، أو مرتبطة بفئة معينة، بل امتدت لتشمل مطالب قومية عامة.
المحامي اليساري أحمد حسن تخدث عن النية المبيتة لكسر عمال المحلة من قبل النظام، ورجال أعماله، فقد ساورتهم المخاوف من امتداد شرارة الحركة، لخارجها، مما يقوض من سلطانهم غير المحدود في ذلك الوقت، وقد نجحوا جزئيا على داخل المصنع نفسه، ولكن لم ينجحوا في إخماد نيران الحركة على أرض المحلة نفسها.
يذكرنا حسن بدور الأهالي في تلك الملحمة، قائلا: “كانت أرض المحلة نفسها هي محل الأحداث، وخارج المصنع، الذي نجح النظام آنذاك في إفشال إضرابه، وإبرام صفقة مع بعض القيادات، عبر الوعود تارة، والتهديد تارة أخرى”.
أما بسيوني فقد اعتبر أحداث المحلة، وكذا إضرابات الضرائب العقارية، بمثابة بروفة على ثورة 2011، يوضح: “اتخذت القوى الثورية في يناير آليات النضال العمالي التنظيمية مثالا، وبرز ذلك في أساليب احتلال الميدان، وتشكيل فرق الحراسة، كذلك مجموعات التفاوض، أو حتى الإعاشة”.
من أبريل إلى يناير، يستدعي وزير القوى العاملة الأسبق كمال أبو عيطة مشهد مشترك، فيقول “برز أثر الحركة العمالية على أبناء يناير، حين تم احتلال الميدان، وتنظيف الشوارع، وكنا قبلها بسنوات، وأثناء اضرابات الضرائب العقارية سيطرنا على رصيف مجلس الوزراء، ولم نغادر حتى تحققت مطالبنا، فقمنا أيضا بتنظيف المكان”.
التأثير العمالي على الحركة السياسية امتد للتمثيل الجندري، خاصة بعد بروز النساء في الإضرابات الأولى للمحلة بشعار “الرجالة فين الستات أهم”، وبدأت المشاركة النسائية في اتخاذ طابع حقيقي بدلا من الطابع الرمزي القديم، وأصبحت تمثل تكتلا مهما، في ثورة 25 يناير لاحقا.
أبريل/ يناير.. تعقيدات علاقات القوى السياسية والعمالية
عادة مايستتبع انفصال الحركات الديمقراطية عن مطالب العمال، والمهمشين، فشلا في إحراز تقدم، والعكس صحيح، والمثال الأوضح على ذلك كان نجاح إضراب المحلة.
ومع ذلك انتقد أحمد حسن عمل التيارات السياسية، وقال”بالرغم من الدعوة الكبرى كان هناك تخبط في المشهد فالقوى، والأحزاب لم تحدد طبيعة الإضراب، وبدت وقتها مرتبكة، حتى في شعاراتها مابين “خليك في البيت، اخرج، ارفع علم”.
كما لم تستغل هذه القوى تضامن الجمهور المصري مع الإضراب، نتيجة الدعاية الواسعة، واستطرد حسن: “الناس كانت متابعة أخبار الإضراب ولا كأنه ماتش كرة”، ومع ذلك لم يتم استغلال الحدث، على الوجه الأكمل، وهو المنهج الذي أصرت تلك القوى على اتباعه حتى بعد يناير.
وبدأت محاولات تسييس القوى العمالية، ونزعها من المصنع، حيث مكمن قوتها، إلى شوارع وسط البلد، وميل قياداتها إلى الراحة من عناء النضال على أرض الواقع، بفضل بعض الحركات السياسية.
فاتورة الثورة التي رفض الاصلاحيون دفعها
للصحفي مصطفى بسيوني رأي أكثر تركيبا في علاقة القوى السياسية بالنضال العمالي، فهو لا يميل إلى الاستسهال في تحليل تعقيدات الموقف، أو إدانة أي طرف من الأطراف، فمن جهة لا ينكر وجود نوع من القوى السياسية الانتهازية التي تستخدم العمال كمخزن للأصوات الانتخابية، وتغيير المسار السلطوي لصالحها.
ومن جهة أخرى يرى بسيوني أن هناك تيارات ذات نوايا صادقة تحاول التواصل مع العمال، ولكن غياب حركة تنظيمية ذات قواعد اجتماعية عميقة، أعاق فرصة تحقيق اختراق حقيقي، كذلك تراث سياسي ممتد يتضمن تضييق أمني لا ينتهي.
أما الحركة العمالية فقد عانت ضعف القدرات التنظيمية من جهة، وكذلك إنكار وجحود باقي القوى لجهودها لاحقا، خاصة بعد الثورة، وكذلك لم ينكر بسيوني محاولات تسييسها، معتبرا أن بروز القوى الإصلاحية بعد يناير كان سببا في تراجع الحركة العمالية، والتآمر عليها.
وقال بسيوني: “تجاهلت القوى السياسية دور العمال في نجاح الثورة عبر إضراباتهم في فبراير 2011، ومطالبتهم برحيل مبارك، واحتجاز أعضاء الحزب الوطني الفاسدين، واحتلال مصانعهم”.
وصل الأمر لاحقا إلى حد اتهام الحركة العمالية بالأنانية وتجريم نشاطها في عهد رئيس الوزراء السابق أحمد شفيق، والمجلس العسكري، أما في موقف الإخوان فكان حسب المصلحة، فدعموا الإضرابات في عهد المجلس العسكري، ورفعوا شعار “شغلني شكرا” في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي.
وعلى كل الأحوال، اعتبر بسيوني أن ماحدث من التيارات السياسية الإصلاحية ماهو إلا محاولة للتهرب من دفع الفاتورة الاجتماعية للثورة، متجاهلين أن الفقر المرتبط بالأزمات السياسية، هو أحد أسباب قيام الثورة، فهربوا جميعا بدءا من حكومة عصام شرف، وحتى الساعة إلى أحضان صندوق النقد الدولي، وانتهاج منهج مبارك “وكأن ثورة لم تقم”.
بزوغ نجم النقابات المستقلة وحركة 6 أبريل
كانت التنظيمات النقابية تابعة للدولة منذ اتحاد العمال الذي دشنته الحقبة الناصرية عام 1957، وظل أداة للهيمنة على الحركة العمالية، ولكن مع تغيير السوق، وانفتاحه لم تعد هذه الصيغة المناسبة لعلاقات العمال من جهة، وأرباب العمل من جهة أخرى.
يقول الكاتب اليساري مصطفى بسيوني: بدا منذ نهاية عام 2006 الاتحاد الحكومي غير فعال في استيعاب الحركة العمالية أو السيطرة عليها، فعقب الإضراب الناجح لعمال غزل المحلة في ديسمبر 2006، الذي وقف ضده التنظيم النقابي الرسمي، انتشرت الإضرابات العمالية في أنحاء مصر ولم يتمكن التنظيم النقابي من احتوائها.
وبحسب بسيوني، لم يكن إضراب المحلة بداية انطلاق للحركة العمالية فحسب، فالإضراب الذي حدث بعد أسبوعين فقط من نهاية الانتخابات النقابية، التي سيطرت عليها أجهزة الأمن، وفرضت رجالها في كل مستويات النقابة، كان من أهم فعالياته جمع استمارات لسحب الثقة من اللجنة النقابية بغزل المحلة.
وكما انتشرت الإضرابات من المحلة بزغت فكرة النقابات المستقلة، وتبعها تأسيس نقابة الضرائب العقارية.
وبحسب الوزير الأسبق كمال أبو عيطة فإن تأثير تدشين أول نقابة مستقلة امتد إلى 2.4 مليون عامل بحسب بيانات الوزارة نفسها آنذاك، تداعوا جميعا إلى إنشاء النقابات المستقلة، بإرادة أعضائها، وبعيدا عن السيطرة الأمنية أو الحكومية.
انتشرت العدوى وأعلن الاتحاد المصري للنقابات المستقلة، وتحول التصور النقابي من “المنحة ياريس”، إلى مرحلة المطالبة بالحقوق المشروعة، وتضاعفت المكاسب المادية إلى 8 أضعاف بحسب أبو عيطة.
عن هذه الفترة يقول الوزير الأسبق: ظهرت تنظيمات نقابية تخص كافة الطبقات الاجتماعية، فكانت نقابات ماسحي الأحذية، والطيارين، أو حتى المرشدين الدينيين، فالجميع على قدم المساواة في انتزاع حقوقهم، وظهرت لبنة الدولة المدنية الحقيقية من أسفل.
يعود الكاتب أحمد حسن ليذكرنا بتهميش النقابات وعملها بعد أحداث المحلة، بعد عملية التسييس التي جرت لها، في حين أن الضرائب العقارية، بعد تحقيق مطالبها، اختفى دورها.
ساهمت أحداث المحلة، واتباع آلاف العمال أساليب احتجاج جديدة، في بزوغ نجم حركة 6 أبريل، نتيجة دعواتهم للانضمام للإضراب، وبغض النظر عن سؤال يتعلق بمدى مشروعية القفز على المطالب العمالية، واستغلالها، فقد اعتبر الصحفي مصطفى بسيوني أن الأمر كان بمثابة إلهام للقوى الناشطة سياسيا.
لكن المحامي أحمد حسن سجل تحفظاته على نشاط الحركة قبل أن يخفت دورهم في سنوات التضييق الأمني: “ساهم تكرار الحركة الشابية لدعوات الإضراب عام 2009، في ابتذال المشهد، واستمر عملهم كتجمع شبابي قام على إثر أحداث بعينها دون أن يؤصل لوجوده، أو أن يمدد لعلاقاته بالعمال، فظهر كحركة فوقية تشبه أكثر القوى السياسية على الساحة.
ومع ذلك كانت الحركة من متصدري مشهد يناير، بفضل وجوهها المعروفة مثل أحمد ماهر ومحمد عادل وإسراء عبدالفتاح، إلى أن وقع أول صدام فعلي بين الحركة والمجلس العسكري بعد التنحي في يوليو 2011، حين اتهمها الأخير في بيان بشكل مباشر بـ”العمل لصالح أجندات خارجية”، وهو ما رفضته الحركة.
سعت الحركة مرات إلى تحويل كيانها إلى حزب مأدلج لاحتواء أفكار شبابها وتطوير الفكرة، لكن المحاولات لم تكلل بالنجاح في ظل الانقسامات التي تعرضت لها على مدى السنوات الست الماضية.
اندثرت الحركة شيئا فشيئا بعد احتجاز كثير من أعضائها سنوات في ظلمات السجون، لتصبح حاليا جماعة محظورة، أنشئت على خلاف القانون.