هل تعد العودة للتاريخ محمودة ما دامت ترضينا وتعلي من شأن أفكارنا وتؤصل لها، أم أن العودة للتاريخ دائمًا محمودة ومطلوبة من أجل تأصيل العلاقة المجتمعية مع أفكار تبدو / أو يدعي البعض غرابتها عن مجتمعاتنا، في دعوة لمواجهتها بهدف التمسك بهوية يؤمن بها ويراها هي الأساس للمجتمع، وهو في هذا ينظر للهوية بوصفها أمرًا جامدًا صلدًا لا يتغير، ويبرزها عبر رؤى ماضوية في إطار مذهبي، ولئن سألته عن مقصده لأرجعك إلى دولة الخلافة العباسية أو حتى الأموية، بوصفها التعبير الدائم عن المجتمع المنشود، وربما يقتطع حقبة زمنية ليثبتها بوصفها المجتمع المثالي الذي يريد بناءه، صورة ثابتة قد تبدو غريبة حتى على المجتمع الذي أخذت منه هذه الصورة.
اقرأ أيضًا.. الذين نسيناهم (1).. أهل العدل والتوحيد
أسئلة عصرنا
هل نريد أن نقدم استنادًا تاريخيًا على تطورنا المنفتح على العالم، والقابل للحرية، الذي يعلي من شأن الإنسان، ويؤكد على سنة التغير في العالم، وعدم القدرة على العودة إلى الوراء، أو العيش على صورة مثال سابق لحياة أجدادنا، مهما كانت درجة تطورهم في حينها، ذلك لأننا نجيب على أسئلة عصرنا، وليس على أسئلة عصرهم، مهما كانت ملاءمة إجاباتهم للأسئلة التي (طرحوها).
ربما يكون الغرض هو طرح رؤى متعددة تؤكد على إمكانية الاختلاف دون الوقوع في شرك الكفر، ومن ثم الدعوة للتسامح وقبول الرأي الآخر، ليس بهدف اعتناق أفكاره بقدر ما هو الدعوة لحقه في الوجود. هل الغرض هو إظهار بعض الجوانب التنويرية في تراثنا العربي الإسلامي تجعل من هؤلاء الذين ينتقون المتشدد منه ضعاف الحجة، والمتطرفون جاهلون بتراثنا. وربما يكون الغرض تدارس أفكار سابقة، تبدو على صلة بأفكار جديدة أو حداثية، فلإخوان الصفا عدد من الأفكار التي تدعو للتأمل، حيث تؤكد حرية العقيدة وضرورة استخدام العقل، واستلهام الرؤى الفلسفية بوصفها داعمًا للشريعة لا خصمًا لها، وهي أمور تبدو في هذه اللحظة الراهنة بالنسبة لكثير من المتشددين أمور تدخل صاحبها في دائرة الكفر.
الخصومة المذهبية
أما الخصومة المذهبية فقد بدأت في واقع الأمر في أيام الإمام “علي بن أبي طالب” بظهور “الخوارج” وموقفهم المعروف من التحكيم، وقد انقسموا على أنفسهم، وتطرف الكثير منهم. وأجمعوا كلهم على “إكفار علي بن أبي طالب” لقبوله التحكيم، بينما كانت الشيعة جميعا يفضلونه على سائر الصحابة، وتطرف بعضهم فاعتقد في قدسيته، واعتقد آخرون في حلول الإله فيه. ولما اتسعت الرقعة الإسلامية، وتكاثر عدد المسلمين، تكاثرت الفرق والمذاهب الإسلامية.
إذ دخل في هذا الدين الجديد شعوب وأمم لهم خصائصهم العقلية والنفسية والبيئية، فهوى كل منهم مذهبًا أو فرقة يرى فيها التلاؤم مع عقليته أو مشاعره، أو يجد فيها تحقيق غايته، ومن الممكن أن نقول: إن القادمين الجدد أثاروا مسائل وقضايا جديدة للبحث والنقاش، كما ظهرت من خلال المزج بين ثقافاتهم السابقة وبين الدين الإسلامي الذي اعتنقوه فرق جديدة، ونتيجة لهذه الاختلافات في الرأي، واختلاف الخلفيات الثقافية والفكرية، وتضارب الأهواء والمصالح، بدأ الصراع، وبدأ معه الاضطهاد الفكري.
ولم يعد هذا الصراع المذهبي في القرن الرابع الهجري محصورًا بين العلماء، أو بينهم وبين السلطة الحاكمة المتدخلة دومًا لنصرة رأي معين يخدمها، وضد الرأي المخالف لها، بل اتسعت دائرته، ودخل فيها العامة من الناس، وأخذ طابع العنف، فقد اشتد في بداية هذا القرن، اضطهاد الحنابلة لكل من يخالفهم، فمن حين لآخر كانوا يقومون بأعمال شغب، وفي عهد هيمنة الأتراك كان أهل السنة يتمتعون بقسط وافر من الحرية المذهبية. بينما كانت السلطة ناقمة على الشيعة، ثم انقلبت الصورة في العهد البويهي، حيث تنفست الشيعة الصعداء بعد أن قاست الكثير من الظلم والاضطهاد في تاريخ الدولة.
نشأة جماعة إخوان الصفا
لا يمكن الحديث عن قضايا فكرية مجردة بمعزل عن تاريخها الاجتماعي الاقتصادي وتجلياته السياسية والدينية، مثلما لا يمكن الحديث عن أفكار لم يتم وضعها في إطارها اللغوي وسياقها الثقافي العام. الأفكار ابنة عصرها سلبًا وإيجابًا، تتأثر به وتؤثر فيه، بدءا من الأسئلة المطروحة وانتهاء باستحاباتها المعرفية في إطارها الثقافي العام والخاص.
ومن ثم فإن الحديث عن نشأة مذهب فلسفي أو رؤية فكرية في عصر من العصور، فإننا نعني هنا كيف تأثر هذا المذهب بعصره، وكيف استجاب للأسئلة المطروحة، هل وقع في فخها أم تمكن من التفاعل الإيجابي معها، هل أعاد صياغتها أم تمكن من إنتاج أسئلة جديدة، تعيد النظر في الدلالات المعرفية السائدة، وتتمرد على التقاليد الثقافية المألوفة، لتتخطى الزمان والمكان وتبدع طرقًا غير مألوفة يسلكها القادمون من بعدها، يتعرفون عليها وينشئون أبنيتها ويمهدون مسالكها.
العصر العباسي الثاني
في هذا الإطار لم يكن إخوان الصفا بوصفهم جماعة فكرية أنشأت مذهبًا فلسفيًا جامعًا وفق الأعراف السائدة في عصرهم بمعزل عن هذا السياق التاريخي. فتأثرت هذه الجماعة بعصرها بما اشتمل عليه من ظروف اجتماعية واقتصادية، سياسية وثقافية، وظهر هذا الأثر جليًا من خلال إبداعاتهم الفكرية التي احتوتها رسائلهم، بما تضمنته من آراء، وبما أكدت عليه من انحيازات فكرية، بل في أسلوب تكوين هذه الجماعة واختيارها للعمل السري طريقًا للدعوة لمذهبهم الفكري.
وعلى الرغم من الخلاف الدائر حول تاريخ نشأة جماعة إخوان الصفا إلا أننا نرى أنه فيما عدا رغبتنا في معرفة التاريخ الحاسم لنشأة هذه الجماعة لا يمثل الخلاف أية مشكلة منهجية.
حيث أن المناخ السائد منذ منتصف القرن الثالث وطوال القرن الرابع متشابها إلى حد بعيد، حيث يؤرخ لهذه الفترة تحت اسم ” العصر العباسي الثاني” والذي يبدأ بولاية الخليفة المتوكل وكان ذلك في العام 323هـ، ولعل أهم ملامح هذا العصر تتمثل في ضعف الخلفاء، وقلة حيلتهم أمام سيطرة وسطوة الوزراء الأتراك ثم البويهيين، حيث كان الخليفة في أيديهم كالأسير، إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه.
ولعل الملمح الثاني الذي يبرز في هذا العصر هو ما أصاب الدولة العباسية من تجزؤ وانقسام، حيث استقلت أجزاء عديدة منه، إذ تغلب كل رئيس على ناحيته وانفرد بها، فصارت فارس والري وأصبهان والجبل في أيدي بني بويه، وكرمان في يد محمد بن غلياس، والموصل وديار ربيعة وديار بكر وديار مضر في أيدي بني حمدان، وأصبحت مصر والشام في يد محمد بن طغج، والمغرب وأفريقية في يد الفاطميين، والأندلس في يد عبدالرحمن الناصر، وخراسان في يد نصرا بن أحمد.
الدعاء على المنابر
ولم يبق في يد الخليفة إلا بغداد وأعمالها، إلا أن هذا الانقسام السالف لم يؤثر على النفوذ الديني الذي ظلت دلالاته واضحة لشخص الخليفة عبر الدعاء على المنابر له بوصفه رمزًا دينيًا، فإن كانت الأمراء قد استقلوا بولاياتهم فإن شبحًا لسيادة الخليفة ببغداد ظل وهما ماثلًا في الأذهان. وكان أصحاب الأطراف أو ملوك الطوائف يعترفون للخليفة بالسيادة، ويقدمون له الدعاء في المساجد، ويشترون منه ألقابهم. وكان مظهر سلطان الخليفة منصبه الجليل فحسب، إذ لم يكن من الممكن في هذا الحين مناقشة قضية الخلافة ومدى ملاءمتها سياسيا في ظل تربص القوى المحيطة بالدولة العباسية، ومن ثم كان الانتفاض على الخليفة يعد من المحرمات الدينية والسياسية، حتى وإن كان ماثلًا في الأذهان هذا الضعف والتردي الذي تعانيه الخلافة على المستوى العام، ويعانيه خلفاء هذه المرحلة على المستوى الخاص.
لم يكن هذا الانقسام على المستوى السياسي إلا تجليًا لانقسامات اجتماعية ودينية ومذهبية شهدها المجتمع العربي (الإسلامي) في هكذا تاريخ، فبدا المجتمع متفرقًا بين مذاهب شتى، ولم يقتصر الأمر على مقارعة الحجج، وتبيان الأدلة، بل بدا السيف كحل أخير لحسم الصراع المذهبي، يقول ابن الأثير معلقًا على هذه المرحلة: “لم يكن هذا الاختلاف المذهبي ليقف عند المناقشة والجدل، بل كان يصل (أحيانًا) إلى استخدام السواعد وما تستطيع السواعد أن تحمله، وإن لم تمس أصلًا من أصول العقيدة الإسلامية، على الرغم من بعد هذه الصراعات في جوهرها عن المناح الدينية كما كان يبدو للوهلة الأولى. إذ كان مناط الخلاف في كثير من الأحيان يعبر عن العرقي (العنصري) أكثرمن تعبيره عن الديني والمذهبي، غير أن المسحة الدينية التي غلفت المناحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية للصراع بين الفرقاء منذ اللحظات الأولى لبناء الدولة عقب وفاة الرسول (ص) كان لها أثرها في صبغ أية محاولة للتذمر أو التمرد على الوضع القائم، مثلما كان لها تأثيرها في حيثيات الرفض للسلطة الزمنية ومن ثم الانقلاب عليها في بعض الأحيان، وإن لم تكن الغلبة للمحاججة الدينية بل للأكثر عدة وعتادًا”.
تاريخ الصراع القبلي
إن تاريخ الصراع العرقي (القومي) داخل الدولة الإسلامية امتد منذ الفتوحات الأولى حيث تمكنت الدولة الناشئة من السيطرة على كثير من البلدان غير العربية كالفرس ثم الأتراك، والذين يختلفون في مجمل ثقافاتهم عن العرب من حيث العادات والتقاليد إلخ، وكان ما يجمع هؤلاء جميعًا هو الدين الجديد بما يحوي من قيم ومبادئ تحث على التسامح والمساواة، غير أن العرب وخاصة إبان حكم الدولة الأموية نظروا لأهل تلك البلدان نظرة استعلاء، حتى أن بعض العرب غالوا في ذلك، وشعروا أن الدم الذي يجري في عروقهم دم ممتاز، وتملكهم هذا الشعور بالعظمة، فنظروا إلى غيرهم من الأمم نظرة السيد إلى المسود.
وكان من أهم التقاليد السائدة أيام حكمهم (الأمويين) احتقار غير العرب في الحياة الاجتماعية، واستغلالهم ماليًا، فأحدث ذلك تذمرًا وسخطًا، وكان على غير العرب حين التعبير عن هذا السخط وذلك التذمر أن يصبغوه بصبغة دينية. حيث تتمتع الأفكار الدينية بسلطة عظيمة داخل كافة الأوساط الاجتماعية، ومن هنا وجب على كل فاعلية روحية، وكل محاولة إصلاح اجتماعي، مهما يكن أصلها أو طبيعتها أن ترتدي ثوب الرسالة القرآنية، أو تلبس حلة دينية، إذا شاءت أن تحظى بأدنى إمكان نجاح، ومن ثم كان الدين هو مركز السلطة الأولى داخل المجتمع، سواء أكانت السلطة الزمنية، او من يعارضها من فرق متعددة، كانوا جميعا يرتكنون إلى سلطة القرآن والسنة، بوصفهما الحكم الفيصل في كافة النزاعات الدينية والدنيوية.
وفي هذا السياق نشأت جماعة إخوان الصفا، ومثلها مثل معظم الفلاسفة والمفكرين سعت إلى تغيير المجتمع، من خلال حلم راودهم جميعًا، بأن يصبح عضاء المجتمع (جميعهم إن أمكن) على وعي وثقافة، قدرين على التعامل مع مقتضيات العقل، في مواجهة هذه الجماعات التي تسعى إلى تجهيل المجتمع، وتوظيف الدين للحفاظ على الوضع القائم وتبريره، من أجل الحفاظ على أوضاع اكتسبوها، ومصالح استفادوا بها، يقول التوحيدي عنهم: عصابة تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوظفوا مذهبا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله، وذلك أنهم قالوا:إن الشريعة قد دنست بالجهالات،واختلطت بالضلالة، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها، إلا بالفلسفة، لأنها حاوية الحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية، وصنفا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة، علمها وعملها، وسموها رسائل إخوان الصفا وبثوها في الوراقين، ووهبوها للناس.