لم تهدأ أحداث العنف في دارفور بالسودان، قبل خروج بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام ولا بعد أن خرجت نهاية 2020، إذ تحافظ أحداث العنف في هذا الإقليم على وتيرتها المتسارعة منذ عام 2003.
حتى اللحظة الراهنة، يسقط عشرات الضحايا، تذهب السلطة المركزية إلى هناك تقمع كما كان يحدث طوال عهد البشير، أو تسعى إلى ترقيع الأوضاع والوعد بالسلام والاستقرار كما حدث بعد الثورة السودانية 2019 وأيضًا بعد عقد اتفاق سلام جوبا بين الجبهة الثورية لتحرير دارفوار وحكومة الثورة، لكن لاشيء يتغير والملف يحافظ على موقعه كبؤرة ساخنة مهددة للسلم الأهلي السوداني، وبوابة فتحت الباب أمام اتهام الرئيس المخلوع عمر البشير بانتهاكات إنسانية في الإقليم بين عامي 2003 و2006، وتسببت في إدانته أمام المحكمة الجنائية الدولية، والتي تطالب برأسه حتى الآن.
ومع سقوط ما يزيد عن ألف ضحية خلال العامين الماضيين فقط نتيجة للعنف في دارفور، تكون الأسئلة مشروعة حول أسباب تعقيد هذا الملف وكيف يمكن اختراق الأوضاع الملتهبة التي تعد أحد المهددات المؤثرة على الفترة الانتقالية بل على سلامة الدولة السودانية، التي قالت إنها جاهزة لحفظ السلام في دارفور كبديل عن قوات حفظ السلام الأممية ولكنها وطبقًا للوقائع لم تستطع أن تسد الفراغ الأمني في دارفور.
يبدو لنا أنه على الرغم من أن النزاعات الأخيرة في دارفور تأخذ طابعًا قبليًا أكثر منه طابعًا سياسيًا، ولكن عدم انخراط عبدالواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان بدارفور في عملية سلام جوبا حتى الآن يحافظ على مناخ الاحتقان بالإقليم وخصوصًا أن بعض الحوداث غير مبررة على المستوى القبلي مثل الحادثة الأخيرة التي تتعلق باختطاف سيارة إسعاف في أقصى غرب دارفور بمدينة الجنينة.
تحت مظلة هذا الاحتقان لم ينخرط قادة الجبهة الثورية الموقعون على اتفاق السلام مع الحكومة في التفاعل مع أهاليهم على الأرض على نحو إيجابي وقبعوا وقواتهم في الخرطوم ينتظرون الخطوات الإجرائية للاتفاقية التي لم تنجز والمتعلقة بالسلطة ولعل بيان صادر من ”مني أركو ميناوي“ قائد الجبهة الثورية بدارفور مؤشر مهم على ذلك، حيث حدد هذه الإجراءات بتشكيل ما تبقى من هياكل السلطة، وخاصة حاكم الإقليم بكامل صلاحياته الفيدرالية، وكذلك البدء في الترتيبات الأمنية وتشكيل القوات المشتركة لحفظ الأمن في الإقليم، وهي القوات التي تتكون من قوات حركات دارفور الموقعة على اتفاق سلام دارفور، وقوات من الجيش السوداني، في حدود 12 ألف عنصر وتأخر تكوينها لمدة ثلاثة أشهر طبقًا للمصفوفة الإجرائية الموقعة بين أطراف سلام دارفور.
صراعات وحسابات
طبقًا للمؤشرات المعلنة يبدو أن محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان يلعب دورًا في ترتيب الأوضاع بدارفور علي نحو يحفظ له نفوذه ومكانة قوات الدعم السريع التي يقودها، حيث حمله مناوي في تغريدة له على (تويتر) هذه المسئولية، خصوصًا ما يرتبط بعدم انعقاد مؤتمر الحكم الفيدرالي.
وبطبيعة الحال دون تكوين القوات المشتركة لن يتسنى الإقدام على عملية جمع السلاح من الميليشيات المنفلتة ولا من القبائل التي لن تتخلى عن سلاحها إلا طبقًا لترتيبات تضمن مكانة القبائل علي الصعيدين الاجتماعي والسياسي حيث من المطلوب إعادة الاعتبار لهذه القبائل بسيطرتها على دورها التقليدية كدار المساليت ودار الفور ودار الزغاوة وحواكيراها أي أراضيها التي تم الاستيلاء عليها من عناصر قبلية أخرى سواء من داخل دارفور أو من تشاد ودول تمتد حتى النيجر في غرب أفريقيا.
أزمة تمويل اتفاق السلام
تعد التعويضات المالية من أهم محركات اتفاق السلام على الأرض، ذلك أن الانتهاكات التي جرت في إطار صراع دافور ربما تكون الأوسع في تاريخ السودان المعاصر، وهي الانتهاكات التي تضمنت حرق قرى بأكملها، بما يشمله ذلك من تدمير لأماكن سكن الناس، وقبوعهم في معسكرات للنازحين لسنوات اقتربت من العقدين من الزمان، من هنا فإن رقم التعويضات يبدو أعلى من قدرات الحكومة السودانية خصوصًا مع تعهدات أطراف إقليمية وخاصة دولة الإمارات وأطراف دولية أيضًا بتمويل اتفاق جوبا.
لكن هذا التمويل مرتبط بعقبتين الأولى مدى توافق الحكومة السودانية مع سياسات دولة الإمارات في قضية الحدود بين إثيوبيا والسودان حيث تبنت أبو ظبي مؤخرًا سيناريو تقسيم أراضي الفشقة بين الطرفين وهو ما رفضته السودان، وتسبب في فشل وساطة دولة الإمارات في هذا الملف وجعلت بيان الإمارات بشأن سد النهضة وسطيًا في دعم مصر والسودان، ومع هذا الفشل للوساطة الإماراتية، من المستبعد أن تنخرط الإمارات في تعهداتها بشأن تمويل السلام الدارفوري.
اقرأ أيضا:
“توجس مصري” من التدخل الإماراتي على خط الأزمة بين السودان وإثيوبيا
أما التحدي الثاني أمام اتفاق جوبا هو عدم انخراط عبدالواحد نور في اتفاق السلام، وهو مايفسر انخراط قواته في عمليات مسلحة ضد الحكومة في منطقة جبل مرة بدارفور وسقوط ضحايا هناك قبل أشهر.
ولا يبدو أن الحكومة السودانية مستعدة للتفاعل مع نور حاليًا في ضوء تمنعه السياسي من ناحية، وتركيز الخرطوم حاليًا على عقد اتفاق سلام مع عبدالعزيز الحلو قائد حركة تحرير السودان في جبال النوبة وهو الاتفاق الذي بدأ خطواته باتفاق للمبادئ بين عبدالفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي السوداني وعبدالعزي الحلو في جوبا قبل اسبوعين تم فيه تخطي عقبة علاقة الدين بالدولة، وإقرار فصل هذه العلاقة في الدستور السوداني بما يضمن تفعيل مبدأ المواطنة المتساوية.
وبطبيعة الحال تحوز هذه الخطوة على جدل كبير في السودان، وعلى تحفظات قوية من تيار الإسلام السياسي في السودان، وكذلك مما يمكن تسميتهم بفلول النظام القديم وهي قوي لايستهان بها على الصعيد الاجتماعي. أما على الصعيد السياسي فإن المكون العسكري في المعادلة السياسية السودانية يعتبر هؤلاء ذخيرة وازنة له إزاء المكون المدني الذي تحوز فيه قوى اليسار والعناصر الشبابية في لجان المقاومة على تأثير كبير، وهي القوى المناوئة لفاعلية المكون العسكري راهنًا في الفترة الانتقالية، أو حيازة أو تأثير على المعادلات السياسية لما بعد الفترة الانتقالية.
في هذا السياق، يبدو أن ملف دارفور مرتبط عضويًا بالمعادلة السياسية والأمنية في الخرطوم، وهو أيضًا مرتبط بالمعادلات الإقليمية وغير بعيد عنها، من هنا فإن سلام دارفور عملية معقدة، حيث سوف يستمر نزيف الدم فيها لفترة طويلة في تقديرنا، إلا إذا قررت القاهرة أن تنخرط بفاعلية في هذا الملف عن طريق أمرين الأول هو تفاعل مع عبد الواحد نور بحيث تكون عراب التقارب معه وهو أمرر مبرر بطبيعة أن إقليم دارفور وسلامه مؤثر على الأمن القومي في كل من مصر وليبيا بل هو مؤثر على البيئة الأمنية الممتدة في دول الساحل الأفريقي.
أما الأمر الثاني فهو تدبير تمويل ولو جزئي ولكن مؤثر لاتفاقية سلام دافور خصوصًا في مناطق عبد الواحد نور، وهي مسألة يمكن تدبيرها في تقديري سواء بتمويل محلي أو من جهات مانحة كبنك التمويل الأفريقي والصين التي تملك مصالحًا في السودان ورغبة في الحفاظ عليها، ولعل مثل هذه الخطوة يمكن أن تخفف الضغوط على مصر والسودان معًا في ملف سد النهضة، الذي تشترط فيه إدارة بايدن حاليًا علي القاهرة فيما يبدو لنا التخلي عن أدواتها في ردع إثيوبيا طبقًا لبعض قراءات بيان الخارجية الأمريكية الأخير بهذا الشأن، وكذلك خفض مستوى المتطلبات المصرية في الاتفاق النهائي بشأن سد النهضة.