تتسارع الخطوات التصعيدية بين السودان وإثيوبيا، على خلفية أزمة سد النهضة، لتتجاوز الخلاف حول مياه نهر النيل، إلى ملفات أخرى حساسة بين البلدين، بينها التمثيل الإثيوبي بقوات “يونيسفا” في منطقة أبيي المتنازع عليها بين الخرطوم وجوبا. وكذلك منطقة الفشقة المتنازع عليها حدوديًا مع أديس أبابا.
وقد أعلنت إثيوبيا أن عملية الملء الثانية لسد النهضة ستتم في موعدها في موسم الأمطار المقبل. وأبدت استعدادها لتبادل المعلومات عن عملية الملء مع مصر والسودان. بينما رفضت مصر العرض الإثيوبي باعتباره “مخالفًا لمقررات القمم الإفريقية التي عقدت حول ملف السد”. وقال السودان إن أديس أبابا تقدمت بهذا العرض لتخفيف الضغط الدولي والإقليمي الواقع عليها حاليًا. وذكرت وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، أن أي تبادل للمعلومات بشأن السد يجب أن يأتي ضمن إطار اتفاق قانوني ملزم.
يونيسفا.. السودان يصعّد مع إثيوبيا في أبيي
قبل أيام قليلة، أعلن السودان أولى قراراته ضد إثيوبيا، بمطالبة الأمم المتحدة بسحب الجنود الإثيوبيين من القوات الأممية لحفظ السلام في أبيي المعروفة بـ”يونيسفا”. باعتبار أنها لم تعد محل ثقة. وجاء ذلك عقب فشل مفاوضات “الفرصة الأخيرة” بين الدول الثلاث (مصر – السودان – إثيوبيا) حول سد النهضة. وتصر إثيوبيا على الملء الثاني للسد دون التوقيع على اتفاق شامل يحكم قواعد ملء وتشغيل السد. هذا وقد تصاعد الاشتباكات بين القوات السودانية والإثيوبية على الحدود الشرقية في ولاية القضارف.
الطلب السوداني بسحب الجنود الإثيوبيين هذا يراه مراقبون مؤشرًا على تصعيد دبلوماسي مباشر وفوري إزاء إثيوبيا. فالبلدين يخوضان ما يشبه الحرب في الحدود الشرقية عند منطقة الفشقة. وفي نفس الوقت يتصارعان في ملف سد النهضة. إلا أن أمر سحب الجنود الإثيوبيين من أبيي كذلك ينظر إليه باعتباره أكثر تعقيدًا. ذلك لأنه متعلق بالأمم المتحدة ودولة أخرى هي جنوب السودان، الطرف الثاني في نزاع أبيي. ما يفرض على مجلس الأمن التقرير في ذلك.
الأمين العام للأمم المتحدة أبلغ مجلس الأمن بأنه لا يستطيع تقديم خيارات لتقليص وإنهاء قوة حفظ السلام في أبيي
وزيرة الخارجية السودانية قالت، في تصريحات رسمية الأسبوع الماضي، إنه من غير المعقول وجود قوات إثيوبية في العمق الاستراتيجي السوداني، في وقت تحشد فيه القوات الإثيوبية على الحدود الشرقية.
ومن جانبه، أبلغ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، مجلس الأمن بأنه لا يستطيع تقديم خيارات لتقليص وإنهاء قوة حفظ السلام في أبيي. بسبب الخلافات بين السودان وجنوب السودان. وقال في رسالة، حصلت عليها الخميس وكالة أسوشيتدبرس، إنه بسبب المواقف المختلفة بشأن مستقبل القوة في أبيي، والمعروفة بقوة الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة لأبيي باسم (يونيسفا)، “لا يمكن صياغة خيارات مقبولة إلى الحد الأدنى من الأطراف”.
ويتطلب اتفاق السلام لعام 2005 الذي أدى إلى استقلال جنوب السودان عن جاره الشمالي في عام 2011 أن يتوصل الجانبان إلى الوضع النهائي للمنطقة، لكن ذلك لم يحدث بعد.
إثيوبيا والوساطة بين شمال وجنوب السودان
كانت إثيوبيا محورًا للجهود الإقليمية والدولية وراعيًا لمباحثات السلام بين شمال وجنوب السودان. وقد بدأ ذلك باتفاقية أديس أبابا الموقعة في مارس 1972 بين حكومة السودان والمتمردين في الجنوب حتى التصويت على الانفصال واعلان جنوب السودان دولة مستقلة في 2011. فضلاً عن حضورها بقوة في النزاع بشأن منطقة أبيي بين حكومة السودان وحركة تحرير السودان. وذلك حتى تم تجريد منطقة أبيي من السلاح والسماح للقوات الإثيوبية عبر بعثة أممية بمراقبة المنطقة وفرض الأمن.
بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي رقم 199 في يونيو 2011 تم تأسيس القوة المؤقتة في أبيي. وعرفت باسم قوات “يونيسفا”، مقرها الرئيسي بلدية أبيي ويتم تمويلها عبر حساب مستقل يخصص سنويًا عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة بحوالي 270 مليون دولار. ويتم التصويت عل قرار تمديد مهام البعثة حسب الحالة الأمنية في المنطقة المتنازع عليها. حيث كان آخر تمديد للبعثة في مايو من العام الماضي.
وتضم بعثة “يونيسفا” ما يقرب من 4500 عنصر أمني معظمهم من الجنود الإثيوبيين. ذلك بعد معارك دامية بين قبائل المسيرية والدينكا راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى. كما تم تشريد ما يقرب من مائة ألف مواطن. حيث يحق للقوات استخدام القوة لحماية المدنيين والعاملين في مجال المساعدة الإنسانية في منطقة أبيي.
ولم تغب أديس أبابا عن قضايا السودان وجنوب السودان منذ الانفصال، بل كانت دائمًا متواجدة في ملف حفظ السلم والأمن في المنطقة. وبخاصة في ملفات الوساطة بين حكومتي شمال وجنوب السودان من جانب، والوساطة بين الأطراف المتنازعة في جنوب السودان. وساهمت في التوسط بين الحكومة السودانية الجديدة والمتمردين عقب توقيع اتفاق السلام الشامل قبيل اندلاع التوتر بشأن ملف سد النهضة.
كواليس رفض السودان للقوات الإثيوبية في يونيسفا
منذ شهرين، بدأت مشاورات بين الأمم المتحدة وحكومتي السودان وجنوب السودان وإثيوبيا. ذلك بشأن وضع البعثة الأممة ومدى جدواها. حيث ترى حكومة جنوب السودان أهمية الإبقاء على البعثة في وضعها الحالي. خاصة مع استمرار المشاكل الأمنية في منطقة أبيي وغرب كردفان. فضلاً عن رفضها إنشاء مؤسسات مشتركة مع السودان بسبب استمرار انعدام الثقة بين الطرفين.
خلال المشاورات، طالبت السودان بالانسحاب التدريجي للقوات الأممية من المنطقة. وذلك بالتوازي مع مشاورات للسلام مع حكومة جنوب السودان. من أجل التوافق على الترتيبات الإدارية والأمنية.
مطالب السودان بسحب البعثة الأممية وتقليل دورها واجهته إثيوبيا بإلقاء المسؤولية الكاملة على الحكومة السودانية. وقد اتهمتها بعرقلة عمل القوات الأممية وتهديد سلامة الجنود الأممين. بينما هددت أديس أبابا بسحب الجنود الإثيوبية بحجة حمايتهم من أي هجمات قد يتعرضون لها.
وتقف جنوب السودان خلال المشاورات التي أجرتها الأمم المتحدة مع إثيوبيا، حيث ترى أهمية تمديد عمل القوات الأممية. وبخاصة في ظل عدم التفاهم مع حكومة السودان بشأن وضع المنطقة الغنية بالنفط إلى الآن، واستمرار المشاكل الأمنية في أبيي وغرب كردفان. فضلاً عن عدم ترجيح إقامة أي مؤسسات أمنية أو عسكرية مشتركة مع السودان في منطقة أبيي. ذلك بعد اندلاع اشتباكات دامية بين الطرفيين في 2008 و2011 واستمرار أجواء انعدام الثقة.
مصلحة إدارة آبي أحمد في التغيير بـ”يونيسفا”
في يونيو 2020 عين الأمين العام للأمم المتحدة، الجنرال الإثيوبي كفيالو أمدي تيسيما، قائدًا لقوة الأمم المتحدة يونيسفا في منطقة أبيي. والذي من المنتظر أن يكمل مهمته لمدة عام حتى يوليو 2021. وكان يشغل عده مناصب في الجيش، فضلاً عن عضويته في مجلس وزارة الدفاع الوطني الإثيوبي منذ عام 2017. كما شغل منصب قائد قطاع بعثه الاتحاد الأفريقي في الصومال.
يرجح مراقبون سودانيون استغلال إثيوبيا مطالب السودان في سحب الجنود الإثيوبيين للتخلص من العناصر التابعة لعرقية التيجراي
حسب مصادر سودانية، فإن تعيين كفيالو المنتمي لعرقية الأورومو قائدًا لقوات حفظ السلام جاء وفق ترشيحات تقدمت بها الحكومة الإثيوبية للأمم المتحدة. ذلك في إطار مساعي إثيوبية بسحب عناصر تنتمي لعرقية التيجراي المتمردة على حكومة آبي أحمد.
ويرجح مراقبون سودانيون استغلال إثيوبيا مطالب السودان في سحب الجنود الإثيوبيين للتخلص من العناصر التابعة لعرقية التيجراي، بخاصة مع عدم تمكن إدارة آبي أحمد من سحبهم الفترة الماضية لتولي الأمم المتحدة مسؤولية تعينهم وحمايتهم كأعضاء في البعثة الأممية وموظفيين دوليين. حيث كانت إثيوبيا تقدمت بطلبات رسمية للأمم المتحدة بأسماء عدد من العناصر التابعة لعرقية التيجراي إلا أنها لم تتلق موافقة على إنهاء عملهم.
تصعيد وتوتر أمني على الحدود
ولا يزال التوتر الأمني يسيطر على الحدود السودانية الإثيوبية في منطقة الفشقة، حيث أعلن الجيش السوداني قبل أيام عن التصدي لمحاولات جديدة لميليشيات إثيوبية بالتوغل داخل الأراضي السودانية، حيث قامت اشتباكات معها من خلال القوات المسلحة وقوات الاحتياط بالفرقة الثانية مشاة، حتى تم التمكن من طرد الميليشيات الإثيوبية.
وأعلنت القوات المسلحة السودانية استرداد 95% من أراضي الفشقة الحدودية مع إثيوبيا، وهددت بالرد الحاسم على أي محاولة إثيوبية بالتوغل في الأراضي السودانية مرة أخرى. كما أعلن عضو مجلس السيادة الانتقالي بالسودان مالك عقار، رفض مبادرة إماراتية لتسوية الأزمة بين السودان وإثيوبيا حول الفشقة. وقال: “أبو ظبي تريد تقسيم المنطقة والخرطوم لن تقبل بذلك.. الإمارات التي تقع خلف البحار تريد أن توزع أرضنا. هذا الأمر سيرمي بظلاله وتبعاته على المنطقة”. وأضاف: “لم يكن هناك نزاع في الفشقة وهي أرض سودانية”، لافتًا إلى أن “النظام البائد بقيادة المخلوع عمر البشير هو الذي خلق الأزمة ورباها مثل الثعبان وصولاً إلى مرحلة اللدغ”.
ويرفع السودان راية “أزمة الثقة” ضد إثيوبيا في كافة الملفات بداية من ملف سد النهضة والنزاع على منطقة الفشقة وغيره في الملفات المشتركة بين البلدين وعلاقتهما بجنوب السودان ودول الجوار، حيث قالت وزيرة الخارجية في تصريح صحفي أمس ردًا على العرض الإثيوبي بتوفير بيانات الملء الثاني لسد النهضة أنه “لا مصداقية ولا ثقة في إثيوبيا بعد أن زعمت ملكيتها لأراضي الفشقة”.
وتبقى المناورات السياسية بين الخرطوم وأديس أبابا قائمة، فيما تحاول إدارة آبي أحمد استغلال التوتر لحماية وتعزيز نظامه لدى الرأي العام الإثيوبي من جانب، والسيطرة على عناصر التيجراي التي لا تزال شوكة تهدد بقاءه في السلطة.