كنت اقرأ بيانًا صادرًا عن وزارة الري المصرية، حين لفت انتباهي شعارها، أو “اللوجو” المعبر عنها: هرم باللون الذهبي، قطرة ماء زرقاء، وأسفلها ثلاثة خطوط بالأزرق نفسه تعبيرًا عن مياه النيل.
كما ترى، فهو شعار بسيط، واضح، ومؤثر، يعبر مباشرة عن الوظيفة والمعنى، والجنسية أيضًا، إذ لا يمكن أن تجتمع هذه الرموز الواضحة إلا لدى وزارة الري “المصرية”. لابد أنني رأيت هذا الشعار من قبل ولكني لم أنتبه إليه إلا في هذه الأيام، ليس فقط بسبب أزمة سد النهضة الحالية التي جعلتنا نتابع تصريحات وبيانات وزارة الري باهتمام غير معهود، ولكن لأن هذا الشهر الذي شهد موكب المومياوات الملكية المهيب، قد وضعنا جميعًا في قلب معركة الرموز.
والرمز، كما تعلم، هو تعبير بصري عن معنى مكتوب أو مُعاش. تعبير فني عن حقيقة واقعية، والغريب، أن مصر، كوطن وكتاريخ وجغرافيا، لا تفتقر إطلاقًا إلى الرموز البصرية، بل تكاد تعرف تخمة من هذه الرموز، إلا أن الأغرب، أن تلك الرموز لا وجود لها على العلَم المصري.
اغتراب العلم المصري عن بلاده ليس جديدًا، فالعلم الأول في تاريخنا الحديث، في بدايات عهد دولة محمد علي، كان ذاته علم الدولة العثمانية بوصف مصر إحدى ولاياتها، وهو العلم الأحمر يتوسطه هلال أبيض ونجمة بيضاء سباعية.
حين استقر محمد علي في حكم مصر، وبدءًا من سنة 1826، تغيرت النجمة السباعية على العلم لتصبح نجمة خماسية تمييزًا لها عن العلم العثماني، وظل الحال كذلك إلى العام 1867 كما يسرد موقع الرئاسة المصرية.
ومع تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر، صار الهلال ثلاثة أهلة بداخلها ثلاث نجوم خماسية على الخلفية الحمراء ذاتها، واستمر هذا هو علمنا إلى سنة احتلال الإنجليز لمصر في 1882.
تحت حكم الاحتلال الإنجليزي عاد العلم العثماني الأول: الهلال والنجمة السباعية على خلفية حمراء، في زمن الخديوى توفيق، ليستمر حتى بداية الحرب العالمية الأولى 1914 حين أعلنت بريطانيا الحماية على مصر وتولي السلطان حسين كامل “حكم” البلاد ليعود “علم الخديوي إسماعيل” مرة أخرى بالأهلة الثلاثة والنجوم الثلاث.
استقلت مصر عام 1923، وتغير العلم ليكتسي باللون الأخضر، وفوقه هلال أبيض وثلاثة نجوم خماسية، ليستمر هذا العلم حوالي ثلاثين عامًا، إلى ثورة يوليه 1952.
ومع ثورة يوليه وهيئة التحرير ظهرت للمرة الأولى الألوان الثلاثة التي نعرفها اليوم، الأسود والأبيض والأحمر، وكبادرة مبكرة على التوجه القومي لثورة يوليه، ظهر على العلم “نسر صلاح الدين” (وهو نسر مصري)، وفي قلب النسر، كان العلم الأقدم، علم الاستقلال “الأخضر بالهلال والنجوم الثلاثة”، كأنه نوع من تخفيف أثر التغير الكبير في العلم.
استمر “علم الثورة” إلى سنة 1958، سنة الوحدة بين مصر وسوريا، ليزول النسر والهلال، وتبقى الألوان الثلاثة الأسود والأبيض والأحمر، تتوسطها نجمتان خضرواوان، تشيران إلى مصر وسوريا، وعلى الرغم من أن الوحدة بين “القُطرين” لم تدم سوى ثلاث سنوات، إلا أن العلم بقي كما هو في مصر إلى سنة 1971، حين تم إعلان “اتحاد الجمهوريات العربيات الثلاث” (مصر وسوريا وليبيا)، لتزول النجمتان الخضروان، ويحل محلهما “صقر قريش”!
ثلاثة عشر عامًا بقي فيها الصقر على العلم المصري، إلى أن عاد “النسر” في مكانه، بدون الهلال العثماني القديم هذه المرة، وليبقى الشكل الحالي للعلم، منذ عام 1984 إلى اليوم، 37 عامًا هي الأطول بدون تغيير منذ علم دولة محمد علي باشا.
وإن كنا نعرف، كما علمونا صغارًا، إن اللون الأسود في العلم يرمز إلى “عصور الاستبداد والاستعمار البائد”. والأحمر يشير إلى “التوهج ودماء الشهداء”، والأبيض إلى “السلام والمستقبل”، فإنني لن أناقش مدى مواكبة هذه الرمزية وتلك القضايا للأجيال الجديدة، وحتى إن كانت تبدو أقرب إلى شعارات بلد تحرر لتوه من الاستعمار البائد، وهو ما يتسق مع كونها اختيارات ثورة 1952، إلا أنها في أفضل الأحوال تبدو رموزا شديدة التجريد بالنسبة لبلد يخوض منذ سنوات طويلة سؤال الهوية، وقد يبدو ذلك التجريد شيئا جيدا بالنسبة لمن يخشى فرض هوية على حساب أخرى ونسخها على العلم، كما فعل صدام حسين في سنواته الأخيرة التي عاش فيها حالة “الرئيس المؤمن” فوضع عبارة “الله أكبر” على العلم العراقي، فلم يكن غريبا أن ورثه نظام من الطوائف الدينية، ولكن بالعودة إلى العلم المصري، فإنه من غير المعقول أن يرى أي طفل في العالم الرموز الفرعونية وعلى رأسها الأهرامات الثلاثة فيعرف أن مصر هي الموضوع، بينما يخلو علمنا من أي إشارة لا إلى الإهرامات ولا النيل في ذراعيه الممدودين في الدلتا، لقد أنشأ المصريون الكتابة أول ما أنشأوها بالرموز، ومن الغريب أن يبقى علَمهم غريبا عن رموزهم وآثارهم وجغرافيتهم، يكاد يتوه بين الأعلام الشبيهة.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا