من يمول سد النهضة؟!
عرضنا في المقال السابق لتدهور علاقات مصر الأفريقية وتعرفنا علي وضع إثيوبيا ومواردها المائية ومخاطر سد النهضة في ظل غياب دراسات أمان السد وضخامة السد غير المبررة إلا لتحويل النيل الأزرق إلى بحيرة أثيوبية خالصة. توجد أحداث مهمة تحيط بسد النهضة منها التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا والعلاقات الدبلوماسية مع دول حوض النيل وخطاب نتنياهو أمام البرلمان الإثيوبي عام 2016 ووجود أكثر من 250 شركة إسرائيلية تعمل في إثيوبيا، خاصةً في مجالات المياه والكهرباء. وسنعود لهذه العلاقات بتفاصيل أكثر في جزء تال.
عندما غابت مصر عن أفريقيا ودول حوض النيل تم توقيع اتفاق عنتيبي في غيبة مصر والسودان، كانت مصر قد جمدت عضويتها في مبادرة حوض النيل في أكتوبر 2010، وذلك كرد فعل بعد توقيع دول منابع النيل على “اتفاقية عنتيبي”. ففي مايو 2010 تم توقيع “اتفاقية عنتيبي”، بين 4 من دول حوض نهر النيل، في مدينة عنتيبي الأوغندية، وهي اتفاقية إطارية مثيرة للجدل في غياب دولتي المصب مصر والسودان، حيث وقّع ممثلو إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا بالأحرف الأولى على الاتفاق بعد مفاوضات استمرت حوالي 10 سنوات بين دول حوض النيل من أجل تقاسم أفضل للمياه، بينما أصدرت كينيا بيان تأييد للاتفاقية دون التوقيع ولم يحضر مندوبو الكونغو الديمقراطية وبوروندي. بذلك بدأ بناء السد وتمويله في ظل وجود إسرائيلي متعاظم في إثيوبيا ودول حوض النيل، وهو خطوة على طريق حلم من النيل الي الفرات. وفي ظل انقسام بين دول حوض النيل بعد توقيع اتفاق عنتيبي والحديث عن التخلي عن الاتفاقيات التي وقعت في عصر الاستعمار لدول حوض النيل وإعادة توزيع الحصص بدون أي اعتبار لدولتي المصب وحقوقهما الراسخة. وهنا يبرز السؤال وهو من الذي مول بناء سد النهضة في ظل هذه الأجواء؟!
إن عملية تمويل السد تحمل العديد من الدلالات السياسية، حيث تنقسم إلى عدة مجموعات؛ الأولى هي الصين والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والمجموعة الثانية تضم الدول الخليجية، والمجموعة الثالثة تضم إسرائيل. ولكل منها هدف واضح من أعمال تمويل السد والمشاركة في البناء ودعم المشروع الأثيوبي رغم اضراره علي مصر. لكن العجب العجاب هو أن تلجأ مصر إلى الولايات المتحدة والبنك الدولي للتحكيم في مفاوضات السد، أو تظل العلاقات مع دول الخليج طبيعية رغم دعمها لإثيوبيا وتمويل مشروعات المياه والكهرباء رغم ادراكهم لمخاطر ذلك علي مصر والمصريين.
من الذي مول سد النهضة؟!
منذ سنوات والحلم الإثيوبي في بناء إمبراطورية كبرى في قلب أفريقيا يسيطر على حكام أديس أبابا، ولذلك تم تحويل مشروع سد الألفية إلى سد النهضة كنوع من السيطرة على منابع النيل وتدفقه إلى دول المصب السودان ومصر إضافة لعدد آخر من السدود على روافد النيل الأزرق وتحويل نهر النيل من نهر دولي يمر في عدة دول إلى بحيرة إثيوبية خالصة تتحكم في موارده وتسمح بما تسمح ليمر لدول المصب.
في البداية، حاولت إثيوبيا محاكاة معركة مصر لبناء السد العالي، وذلك من خلال الاعتماد علي مصادر التمويل المحلية للمشروع، الذي تبلغ تكلفته أكثر من خمسة مليار دولار. وهو ما يمثل 6% من الناتج المحلي الإثيوبي عام 2018، كحلم إثيوبي تاريخي لبناء دولة كبرى في قلب أفريقيا.
سعت إثيوبيا إلى التعبئة الوطنية حول مشروعاتها الاقتصادية وفي القلب منها تشييد سد النهضة باعتباره جزءًا من خطة تنمية إثيوبية كبرى، ولذلك حاولت فرض تمويل المشروع على المصارف المحلية التي أجبرت علي تخصيص 27% من القروض لصالح الدولة، إضافة إلى إجبار الموظفين على التبرع بجزء من مرتباتهم لدعم بناء السد. وإذا كان لدى إثيوبيا ثلاثة ملايين يعملون في الخارج فإنها استهدفتهم لتمويل السد من خلال طرح سندات لم تحقق المطلوب في الطرح الأول، ولكن تم خفض قيمة السند من 500 دولار إلى 50 دولار وبسعر فائدة 6%. وبالفعل جمعت 450 مليون دولار من مصادر تمويل محلية عام 2014. بل ووصلت إلى مليار دولار استنفزت في الأعمال الإنشائية الأولى لسد النهضة.
على الطرف الآخر كانت الصين التي تستثمر في بناء السدود في أكثر من 22 دولة أفريقية وكانت من أوائل الدول التي استثمرت في إثيوبيا. وفي عام 2002 دفعت الصين 224 مليون دولار لتمويل سد تاكيزي وفي عام 2012 دفعت 500 مليون دولار لتمويل سد غايب 3. وفي عام 2013 مولت 1.1 مليار دولار لمشروعات البنية التحتية وتأسيس شبكة نقل الكهرباء التي تخدم سد النهضة وباقي السدود الإثيوبية. وفي عام 2019 قدمت 1.8 مليار دولار لتوسيع شبكة الكهرباء في إثيوبيا وتوجه جزء من هذا المبلغ لاستكمال الإنشاءات في سد النهضة وشراء التوربينات. وأسند العمل لعدد من الشركات الدولية الألمانية والإيطالية والفرنسية إضافة إلى شركة جنرال إليكتريك الأمريكية.
تتضمن قائمة الشركات الصينية شركة Voith Hydro Shanghai الصينية التي تعمل في مجال استكمال بناء محطة التوليد بالسد، بالإضافة إلى مجموعة Gezhouba الصينية المحدودة للإنشاءات والمقاولات. كما حصلت شركة البناء الإيطالية “ساليني إمبريجيلو” المتخصصة في بناء السدود، على عقد في عملية بناء سد النهضة. خاصةً وأن الشركة تملك سابقة أعمال في إثيوبيا قبل سد النهضة، حيث عملت الشركة الإيطالية بنجاح في مشاريع أخرى داخل إثيوبيا مثل Gilgel Gibe 2 ” و“Gilgel Gibe3. كما منحت السلطات الإثيوبية عقد توريد الكابلات ذات الجهد المنخفض والعالي للسد لشركة ” Tratos Vaci SPA” الإيطالية في عام 2012.
وفي يناير 2013، دخلت الشركات الفرنسية إلى السباق، ووقعت شركة “ألستوم” عقدًا بقيمة 250 مليون دولار مع شركة ميتالز آند انجنيرنج كوربوريشن (ميتيك) الإثيوبية – والمقاول الرئيسي السابق للمشروع- لتوريد توربينات ومولدات لمحطة الطاقة المائية لسد النهضة، بحسب ما أعلنته الشركة على موقعها الإلكتروني.كما تقوم شركة “ألستوم” الألمانية بجانب التوريد بالإشراف على تركيب جميع المعدات الكهروميكانيكية للسد، بما في ذلك 8 توربينات 375 ميجاوات و8 مولدات للمرحلة الأولى. يتضمن العقد أيضًا تشغيل الهندسة وتشغيل محطات الطاقة، كما ستشرف “ألستوم” على برنامج لتطوير المهارات محليًا.
كما تعمل شركة “فويث هيدرو” الألمانية الشهيرة، المتخصصة في مجال التوربينات والمحركات الهيدروليكية، على توريد التوربينات اللازمة للسد بالشراكة مع شركة ألستوم الفرنسية، التي تعمل هي الأخرى في مشروعات السد بموجب عقد مشترك مع شركة «جنرال إلكتريك» الأمريكية العملاقة.
الولايات المتحدة.. هل يمكن أن تكون طرفًا محايدًا؟!
عن طريق مؤسسة تمويل التنمية الدولية قدمت الولايات المتحدة خمسة مليار دولار لتمويل التنمية في إثيوبيا ومواجهة النفوذ الصيني. وهذه هي الدولة التي دعتها مصر كوسيط في المفاوضات وتوصلت لاتفاق وقعت عليه مصر منفردة في فبراير 2020 ورفضت إثيوبيا والسودان التوقيع. كما حصلت إثيوبيا في نهاية عام 2019 علي قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 2.9 مليار دولار بهدف الاصلاح الاقتصادي في إثيوبيا، وذلك بتوصية ودعم أمريكي.
وفي الوقت الذي ينفي فيه البنك الدولي أي صلة له بتمويل سد النهضة، فإنه يمول خط نقل للكهرباء عالي الجهد بقوة 500 كيلوفولت وألفي ميجاواط، وكذلك يمول مشروع الطريق السريع الكهربائي الشرقي من إثيوبيا إلى كينيا. فضلاً عن تمويله لتمديد الشبكة الذي يعد جزءًا من مجمع الطاقة في شرق أفريقيا، إذ خصص البنك الدولي نحو 230 مليون دولار أمريكي لأجل تمويل مشروع التمديد. الأمر الذي يستفيد منه بصفة غير مباشرة مشروع سد النهضة. إضافة إلى تقارير البنك منذ أكثر من عقدين حول تسليع المياه، وهو ما نتج عنه تحويل هيئة المياه والصرف الصحي في مصر إلى شركة ربحية إضافة إلى التوجه لتحديد مساحات زراعة القصب والأرز في مصر وأخيرًا قانون الري الجديد والذي يشكل استجابة لتوجيهات البنك الدولي وخطوة على طريق تسليع مياه الري.
دول الخليج وسد النهضة
رغم العلاقات القوية التي تربط السعودية والإمارات بنظام الرئيس السيسي إلا أن استثماراتها في إثيوبيا تتجاوز 8 مليار دولار. كما لعبت السعودية والإمارات دورًا كبيرًا في المصالحة مع إريتريا وهي المصالحة التي أوصلت آبي أحمد للحصول علي جائزة نوبل للسلام. الإمارات تستثمر أكثر من 3 مليارات دولار كودائع واستثمارات في إثيوبيا. كما تستثمر السعودية 140 مليون دولار في مشروعات الطاقة الشمسية. إضافة إلى مشروع الربط الكهربائي بين إثيوبيا ودول الخليج. إضافة إلى أن الملياردير السعودي محمد حسن العمودي وهو أحد كبار المستثمرين السعوديين في إثيوبيا وفي سد النهضة.
ولد العمودي في إثيوبيا لأب يمني وأم إثيوبية ثم نزحوا إلى السعودية، حيث حصل على الجنسية السعودية وتقدر ثروته بأكثر من 13.5 مليار دولار عام 2013 ، وسبق أن اتهمته الولايات المتحدة عام 2001 بعد تفجير مركز التجارة العالمي أنه من ممولي الإرهاب من خلال تبرعاته لجمعيات إسلامية. كما أنه احتجز في فندق كارليتون الرياض مع الأمراء ورجال الأعمال في عام 2017 بتهمة الفساد ثم أفرج عنه. ويعد العمودي أهم مستثمر سعودي في سد النهضة وقد دفع 88 مليون دولار عام 2011 كتبرع لبدء الإنشاءات في سد النهضة. كما أنه يمثل الجانب السعودي في مشروع الزراعة في إثيوبيا في نصف مليون هكتار (حوالي 1.25 مليون فدان) إضافة إلى استثماراته في مشروع الربط الكهربائي بين إثيوبيا ودول الخليج. كما أن تركيا وقطر أيضًا ضمن قائمة الدول الممولة لسد النهضة من خلال مشروع استثماري زراعي ضخم، تموله الدوحة وأنقرة لزراعة مليون ومائتي ألف فدان في منطقة السد. ويتجاوز حجم الاستثمارات السعودية الحالية في إثيوبيا 5.2 مليارات دولار، تستحوذ الاستثمارات الزراعية على نسبة 30% منها.
وتحتل السعودية حاليًا المرتبة الثالثة من حيث الاستثمار في أديس أبابا، في ظل تطلعات لزيادة المشروعات السعودية من خلال حوافز عدة طرحتها إثيوبيا للمستثمرين السعوديين، من بينها الإعفاء الجمركي، وتوصيل الكهرباء، وإلغاء الازدواج الضريبي، في حين قدم الصندوق السعودي للتنمية تمويلات وقروضًا ميسرة لمشروعات لها صلة غير مباشرة بسد النهضة، تحت مسمى استنهاض التنمية في ريف إثيوبيا. أما بالنسبة للاستثمارات الإماراتية، فقد بلغت حوالي 3 مليارات دولار في إثيوبيا، وتتركز في السياحة والضيافة.
كما وقّعت السعودية مع السودان في نوفمبر 2015، في الرياض 4 اتفاقيات بين الحكومتين بقيمة ملياري و250 مليون دولار توجه لتمويل بناء 3 سدود على النيل في شمال السودان هي كجبار والشريك ودال، تنفّذ خلال خمس سنوات، مع توفير تمويل لمشاريع للمياه بقيمة 500 مليون دولار، واستزراع مليون فدّان جديد على ضفاف نهري عطبرة وستيت في شرق السودان، خاصة وأن السودان يمتلك نحو 200 مليون فدّان صالح للزراعة، تعادل نحو 45 % من الأراضي الصالحة للزراعة في الوطن العربي.
كذلك توجد في مصر استثمارات زراعية إمارتية تتجاوز قيمتها 4 مليار درهم إماراتي منها المشروع الإماراتي الخاص بزراعة واستصلاح 120 ألف فدان في توشكى، إضافة لمشروع شركة “الغرير” الإمارتية لزراعة البنجر في المنيا على مساحة تزيد علي 1500 فدان. وهو ما يعتبره بعض الخبراء نوع من تبديد موارد المياه المصرية المحدودة لصالح الإمارات.
كما تستثمر 20 شركة سعودية في الزراعة المصرية بأكثر من 1.6 مليار ريال سعودي منها 100 ألف فدان في توشكي لشركة الوليد بن طلال، وتضم الشركات السعودية العاملة شركات دولية عملاقة مثل المراعي وجنات “الراجحي” وصافولا ودي دي اف والسعودية المصرية للفلاحة وكابيتال للاستصلاح الزراعي والجمعية السعودية ونادك. إضافة إلى شركة النوبارية لإنتاج البذور «نوباسيد»، التي يترأس مجلس إدارتها السعودي عبدالإله كعكي والتي استحوذ عليها ضمن برنامج الخصخصة. هذه هي بعض ملامح الاستثمارات الخليجية في مصر والسودان وإثيوبيا.
مصر وتأثير التمويلات والاستثمارات
رغم تحفظات مصر على مشروع السد قامت عدة دول بتمويل المشروع والمشاركة من خلال شركات في بناء السد. خاصة بعد توقيع مصر علي إعلان النوايا في 2015 والذي يعكس موافقة مصر علي بناء السد بهذا الحجم والموافقة علي الملء الأول. ورغم وضوح الدور الأمريكي والمنافسة الصينية في إثيوبيا وتمويل سد النهضة لجأت مصر إلى الولايات المتحدة كمحكم في الخلاف حول السد في ظل قيادة ترامب. بل ووصل الأمر إلى توقيع مصر من طرف واحد على الاتفاق الذي تم برعاية أمريكية ورفضت السودان وإثيوبيا التوقيع عليه ووقعت عليه مصر منفردة.
كما أن دور صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في تمويل السد واضح ومعلن ورغم ذلك تلجأ مصر إلى البنك الدولي أول من نادي بتسليع مياه الانهار ودعم ومول العديد من المشروعات في إثيوبيا وأفريقيا كمحكم في قضية السد وهو خطأ إضافي للمفاوض المصري.إن هناك أهداف سياسية واضحة من تمويل بناء السد وهو خنق مصر والسودان والتحكم في تدفق حصتها من المياه. ولفترة كانت مصر تتفاوض على مدة الملء والتخزين والإدارة المشتركة للسد ولم ترفض الكارثة في حجم السد وأمانه ومخاطر اكتمال بنائه علي مصر والسودان وحصصهم المائية. بل أن الصين وإسرائيل ضالعين رئيسيين في المشروع بجانب الشركات الأمريكية والأوروبية. وهو ما سنعرض لبعض جوانبه في مقال قادم.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا