ماذا يحدث عندما تتكلم الموجودات من كائنات وجوامد وغيرها من خارج البشر لتفصح عن مشاعرها وعلاقاتها مع الناس وغير الناس، وتصبح رواة وحكائين.. وأيضًا إلى شهود على عصرنا.. على القسوة ومقاومة القسوة؟
في مجموعته القصصية الجديدة “كائنات حية” يطرق الكاتب الروائي والقاص “كرم صابر” تجربته الجديدة الفريدة في الإبداع. ويستحق الانتباه والتأمل في مصر اليوم مغامرة الكتابة الإبداعية هذه ـ عبر 21 نصًا قصصيًا قصيرًا تضمنتها المجموعة الصادرة من القاهرة قبل أيام معدودة ـ بألسنة المتكلم غير الآدمي. سواء أكان سيارة ميكروباص (فان) أو منضدة أو مقشة (مكنسة) أو حذاء كموني اللون أو حمارة أو قطة اسمها “محبوبة” أو عكاز امرأة أو “دبوسة” حمراء خرجت بعيدًا مغادرة إخوتها المنتظمين المتلاصقين داخل “دباسة” أو شجرة أو حقيبة يد عاملة في ورشة أو”تي شيرت” اختفت فتاته أو ورقة من كتاب في مهب الريح أو “دبدوب” دمية. أو حتى هذا الظل الذي لا يطيق صاحبه المخبر، أو مقعد في بيت للراحة أو فيروس، أو…
تشعر وتحب وتكره وتتمنى وتحلم
هي ليست أشياءً، وليست أشياءً مفعول بها. هي إذن كائنات تشعر وتحب وتكره وتحلم، ولها عواطفها وانفعالاتها. وتجيد التعبير عن كل هذا. كما تحكي عن علاقاتها مع الإنسان والكائنات الأخرى. وتروي أيضًا حكايات عن علاقات البشر المصريين بالبشر المصريين وبمختلف الكائنات، وأيضًا عن علاقات كانت هذه الكائنات حاضرة في سياقها وشاهدة عليها. في النص الأول/ القصة الأولى تتكلم سيارة الميكروباص متذكرة بحنين سائقها الذي تحب “صاصا”، وكيف كان يعاملها باهتمام ورقة. وتقارن مع السائق الجديد قائلة: “يعاملني كبهيمة ولا يتورع عن خبط أركاني في الأرصفة، ولا يهدي قبل المطبات رغم أني أصرخ، لكنه لا يسمعني ولا يشعر بأنفاسي”، و”اليوم يركبني سائق متهور لا أتذكر اسمه”، “وحتى طريقه الوعر لا يخلو كل عشرة أمتار من حفر وبقايا زجاح وحديد مقصوص يدخل أحشائي ويجرحني ويجعلني لأول مرة انتحب وأتوقف عن الحركة”.
وسيارة الميكروباص التي تشعر بذاتها وما حولها وتجعل القارئ يشعر بها وبمعاناتها نموذج لهذه الكائنات الحية من غير البشر في المجموعة القصصية. كما هي أيضًا كائن حالم ويتمنى كغيرها من كائنات المجموعة القصصية. تقول السيارة في نهاية النص/ القصة : “أيجوز أنني في كابوس، وعند الفجر سأستيقظ وأجده (المقصود سائقها الأصلي صاصا) يفتح باب الدكان، ويطبطب على جروحي ويغسلني لنرحل. الآن ليس بيدي سوى الانتظار، وتحمل هذه الآلام حتى يعود حبيبي”.
يبهر القارئ فيض الأحلام الذي تتمناه وتعبر عنه هذه الكائنات بألسنتها. وعلى سبيل المثال فإن الحمارة ( النص/ القصة3) التي باعها صاحبها الذي تحب ليشترى أخرى أرخص سعرًا فتهرب من “رجل سوق” لا يفهم “أن هناك كائنات رقيقة لا تصلح للتأجير ولا تقبل الإهانة” تجعلنا نحلق كقراء معها عندما ترى بأحلامها يماما وجواميس وبغالاً يتأبطون أيادي بعضهم ويطيرون فوقها ويغنون لقلبها المحطم. وفي حالة “كيس” محل البقالة ( النص/ القصة 4) ثمة أيضًا نزوع إلى الحرية عندما يحلم بأن يتحرر من حبسه في داخل أحد الأدراج بشقة فيلفه أطفال في خيوط يجعلوا منه كرة يركلونها لتطير في الهواء، أو أن يحلق بين العصافير. أما في حالة “الدبوسة” الحمراء ( النص / القصة 10) فهي بدورها تحلم مع صديقها العصفور بالتخلص من الغدارين القتلة واللصوص الذين سرقوا حقيبة صاحبتها ” الأبلة إنشراح” وبـ “إعادة السيادة للأحاسيس الطيبة”.
هل يحب الإنسان حذاءً؟
في غير نص بالمجموعة تتجسد العلاقة العاطفية غير الاستهلاكية غير الاستعمالية بين الكائنين الإنسي وغير الإنسي. وهو ما قد يعيدنا إلى عوالمنا في الطفولة عندما كنا صغارًا نتكلم مع هذه الكائنات وننسج معها علاقات تتجاوز جدواها الاستعمالية أو الترفيهة. وهكذا سواء أكانت هذه الكائنات عروسة/ لعبة نلهو بها ونحتضنها عند النوم، أو قلم رصاص نحزن لأنه يتلاشى وينقرض ويتجه لأن يختفي من حياتنا. ولعل هذه المجموعة القصصية لهذا السبب ولاعتبارات أخرى تخاطب أيضًا الصبية وتستحق اهتمامهم، كما تساهل أن تروى على مسامع الأطفال.
وعلى سبيل المثال يحكى الحذاء كموني اللون (النص/ القصة2) عن علاقته الدافئة العاطفية الممتدة مع صاحبه الإنسي، والذي يرفض تغييره رغم تهكمات شقيقه وزوجته وإغراءات بائع محل الأحذية، ووصفه الحذاء الكموني بـ”الأراجوز”. وفي هذا النص ينتهى الحذاء المحب / المحبوب بعد روايته لتفاصيل هذه العلاقة الممتدة غير الاستهلاكية مع صاحبه والمتجاوزة للاستعمالية إلى هكذا تساؤلات: “أيجوز أن يكون مغرمًا بجلدي؟ أم فتنته ألواني؟ أو ربما يكون حبًا لكن هل يحب الإنسي حذاء؟”.
وإذا أخذنا تلك القصة التي ترويها “المقشة/ المكنسة” (النص/ القصة رقم 8) فسنلاحظ كيف تروى “المقشة” فتتجسد وتتأنسن علاقتها العاطفية مع ساعي المكتب، وتتجاوز قيمتها الاستعمالية. تقول عنه: “تمكن برقته أن يجعلني أعشقه وتمنيت ألا أفارقه أبدًا”.
كائنات واعية بقسوة الصراعات والاستغلال والاضطهاد
لكن “المقشة”/ الراوي في النص/ القصة ذاتها تعي وتعبر ـ كالعديد من كائنات المجموعة ـ عن قسوة علاقات الاستغلال والاضطهاد بين البشر. تتعاطف مع الساعي المضطهد من صاحب الشركة “عسران” القاسي القلب والمخبر “عاشور” الذي تصفه بـ”الحقير والمأمور”. بل نلاحظ أن “المقشة” ـ ككائنات أخرى في المجموعة ـ تتمرد وتقاوم. وتصبح فاعلة مؤثرة من أجل قيم العدالة والحرية وفي انحياز للكائن الإنسي المظلوم المضطهد، والذي هو بالأصل في علاقة حب مع الكائن غير الإنسي. وفي حالة “المقشة” تدخل مع كائنات أخرى في المكتب “الفوطة” و”الماسحة” في حوارات. ويتفقون ثلاثتهم على إغراق شقة المكتب في المياة حتى يدرك صاحب الشركة قيمة الساعي الذي يحبونه ويتعاطفون مع معاناته ويعملون على منع طرده من العمل.
وفي مثال آخر، تتمرد الشجرة التي جرى اجتثاثها واستخدمها كفحم في محل لشواء اللحم على “الأناس الملاعين”، بعدما شكت إليها البقرة بدورها من قسوتهم قائلة “دس الإنسي السيخ المحمي بقلبي فأشتعلت أعماقي وصرخت من الألم”، فتفجر شرارة تمتد إلى أنبوب الغاز وتحرق المطعم فوق رؤوس “الأوغاد المتوحشين”، كما تصفهم الشجرة.
ويلفت النظر في النص السابق ـ كما في العديد من النصوص/ القصص الأخرى ـ أننا إزاء مجموعة مفتوحة على قضايا البيئة وعلاقتها بالإنسان وتوحشه وجشعه وتدميره لها من أجل الأرباح وبقائه هو على حساب الآخرين، سواء أكان فردًا يعيش ويركض وراء المال أو شركات رأسمالية. ويترجم الانفتاح على قضايا البيئة نفسه أيضًا في النص / القصة العشرين حين يتحدث “فيروس” خلالها بضمير المتكلم وكأنه يلخص لغز ومعاناة البشرية اليوم مع “كوفيد 19” قائلاً: “أنا كائن وحيد دون رغبات، خلقت لأحقق الانسجام وأعيد التوازن. تجدني أهرول ناحية الحزانى، واخترق ضلوعهم لتهدأ قلوبهم وأداويهم، لينعموا بوحدتهم ويتأملوا مأساتهم ويستعيدوا شعورهم بحب الحياة. أنا كائن مخفي معجون في حب، لكن الإنسي الذي غير طبيعته واستحوذ على طبائع الأذى، ورغب في تملك صفات الكون كله لا يعترف بأنني ابنه الشرعي بعد تغييره لتركيبتي”.
واللافت أن “فيروس” مجموعة “كرم صابر” على وعي بالاستغلال الرأسمالي كما يشير إليه أيضًا عندما يحكي عما جرى للعاملة رقم (10) أمام الآلة وخط الإنتاج الذي توقف مع وجع ظهر الفتاة. يتحدث الفيروس عن فعله ردًا على فعل “الباردون” أصحاب المصنع ضد الفتاة فيقول: ” عندما رأيت الحراس يجرونها من أقدامها وهي تصرخ فزعت جزيئاتي من توحشهم وتحورت لأحطم غرورهم، وانشطرت إلى ملايين الخلايا. وانتشرت قاسمًا بماء الحياة خرق نظامهم الذي حرم فتاة من ري مشاعرها. بمجرد انطلاقي وتوالد أولادي وأحفادي، هاج الباردون وتحصنوا في قلاعهم وأعلنوا عبر أبواقهم المخرومة تحدي قوتي، لكني متيقن من قدرة المحرومين صلب عيدانهم، والتغلب على همودهم، تحطيم أسوار معسكراتهم”.
وعلى خلاف النصوص / القصص العشرين الأخرى، يغلب على ختام النص الذي يحكيه “الفيروس” الخطابة التبشيرية المتفائلة، والتي أراها تضعف من النص وتعيدنا إلى سياقات إيديولوجية وتراث أدب الاشتراكية الواقعية في أكثر نصوصه تواضعًا، مما قد يجعله ـ في ظني ـ أضعف نصوص مجموعة “كائنات حية”، على الرغم من أهميته وجدته. ونص الفيروس ينتهى على هذا النحو:
“أرى الآن المحتاجين في صفحة المستقبل يسيرون رافعين رءوسهم ناحية مخازن الغلال، يهدمون أسوارها ويأخذون كفايتهم من الطعام ويرمحون مبتهجين على شواطئ الأنهار ويجلسون بأرض الحدائق فخورين بأحاسيسهم المستعادة. أرى قلوبهم الفتية تنتفض وتواصل تمردها، وتخرج ذكائب الحب من المخابئ وتلقيها بالميادين ليأخذ المحتاجون منهم كفايتهم ويبتهجوا بعمرهم. وأجول بأرجاء الأرض ليرتعب الباردون ويتركوا عروشهم، وأفتح الطريق ليستعيد المقهورون قوتهم وينظموا مقدراتهم دون حرمان أو بغض، واصرخ ليفيقوا قبل محو ذاكرتهم من الوجود”.
أصداء فلسفات هندية
مع هذا، يتردد في نص الشجرة سالف الذكر كما في عدد من نصوص المجموعة أصداء فلسفات هندية لا تؤمن بالفناء، بل ترى حلول الروح وتنقلها بين الإنسان والكائنات. وهنا عند “كرم صابر” تروى كائنات غير بشرية كيف تتنقل من حال إلى حال مع اختلاف طبيعة المادة وتنوع الأمكنة والأزمنة. وفي النص/ القصة الذي يحكيه ظل المخبر الذي لا يطيقه (رقم 14) سردية تفيد بأن روح الكائنات لا تموت بل تنتقل من كائن لآخر. يقول “الظل” بعدما طرح تساؤلات فلسفية عن إمكانية استقلال عالم الظلال: “نصحتنى (المقصود أمه) وقالت: عدوك هو الليل، ومصدر حياتك هو النور. وليس هذا الرجل الذي يلازمك إلا كائنا زائلا، فلا تتأثر بأفعاله، وتحمل رذائله حتى تنتهى دورته ويغادر روحك بلا عودة”.
وعلى خلاف ختام نص الفيروس أيضًا، يفيد تأمل خطاب هذه الكائنات بضمير المتكلم تفاوتًا في استسلامها لمعاناتها من الاستكانة والتسليم ومن تحب إلى طرح التساؤلات وصولاً إلى التمرد. بل والقدرة على امتلاك مصائرها كما عند القطة “محبوبة” (النص / القصة رقم 7). تلك التي طردتها صاحبها ليعطف عليها قط آخر حتى تتلمس “محبوبة” طريقها إلى الاعتماد على الذات والقوة والاستقلال. فتروى لنا مع نهاية قصتها كيف تجاهلت القط الذي ساعدها ثم قال لها “أنت وليفتي”، وتضيف: “سرت وحدي وسط الأشجار، فوجدت صاحبي فتح باب سيارته ويناديني: محبوبة.. محبوبة، فنظرت إليه بغضب وبصقت على الأرض، واستكملت سيري وسط المطر”. وإذا عدنا إلى نص/ قصة الظل سنلاحظ أنها تنتهى على هذا النحو المتمرد بدورها. يقول الظل الذي لايطيق صاحبه: “سأتوسل إلى الشمس أن تحرقه، وإذا لم تستجب فسأدفعه بأي حفرة أمام إحدي السيارات لأنفصل عن جسده، ويرتاح الناس من جبروته”.
بين واقع الريف المتحول وقوة الخيال وسحره
من تابع إبداع “كرم صابر” بين روايات ومجموعات قصصية تعددت وتلاحقت منذ نشر عمله الأول “غرفة إنعاش” الصادرة عام 2008 يتنبه إلى تميز عالمه الواقعي الذي يستمد منه مادة أعماله هذه. فأدب “كرم” (يناهز عمر الكاتب اليوم 58 عامًا) ولغته السردية والحوارية تمتد بجذورها إلى مجتمعه الذي عاش فيه منذ الطفولة “الوراق”. هذه الجزيرة المتحولة خلال عقد الثمانينيات من الريف إلى مجتمع العشوائيات في حدود حضر الجيزة. وهكذا جمعت معظم أعماله بين عالمي الريف والعشوائيات نصف المدينية / نصف الريفية. وفي حوار غير منشور معه تحدث لي عن أثر اختلاط ثقافة الأفندية والصنايعية الوافدين الجدد على “الوراق” بأهلها الفلاحين على وعيه وتكوينه. والملحوظ أن العديد من أماكن وشخصيات رواياته ومجموعاته القصصية يطبعها هذا الطابع الذي يدور حول التحول من الريف إلى العشوائيات التي تحيط بالمدن. لكن أعمال “كرم صابر” تتسم أيضًا بخيال خصب قوي لا يخلو من وحشية تخيف، لكن يغلب عليه الحب والبهجة. وهذا تناقض وتوتر يميز نصوصه الأدبية. ولعل في روايته “الكرخانة” ما يلخص هذا المزيج الفريد من واقع التحول بين الريف والعشوائيات معجون بقوة الخيال وبالغرائبية.
وبقوة الخيال وسحره تستمد مجموعة “كائنات حية” لكرم صابر بدورها جاذبيتها وتأثيرها. ولا تخلو قصص المجموعة من هذه القوة وهذا السحر بلسان كائناتها غير البشرية. لننظر مثلاً إلى حكي عكاز السيدة العجوز في (النص / القصة رقم 9 ). فالعكاز يتكلم عن قيامه باللعب مع النمل والحشرات. كما يحكي لنا عن الفئران والعرس والثعابين التي دخلت إلى حجرة السيدة ( عشة من البوص) اتقاء للصقيع والمطر، وكيف: “تيقظت ( المقصود السيدة العجوز صاحبة العكاز) ونظرت برأفة إلى عيونهم، وترجلت وسط الطين وفتحت بؤجتها وناولتهم مالذ وطاب، فدمعت عيونهم وأحاطوها شاكرين”. ويروى عكاز السيدة العجوز كيف اندهشت الكائنات وتوقف المطر بعدما كان قد انهمر و تزايد واتسع شق الحجرة عندما قام كلب بحمله ( حمل العكاز) ودفسه بين الجريد، ونظر إلى السماء ونادي على السحب.
المركزي وسط شبكه العلاقات والانحياز للمرأة
تقدم القصة التى ترويها منضدة (رقم 6) في مجموعة “كائنات حية” نموذجًا لمركزية الكائن غير البشري الراوي وسط شبكة الشخوص والعلاقات في النص. فالمنضدة تتنقل في روايتها لعالمها وما تراه وتشعر به إزاء “مصطفى” النجار الذي باعها إلى “حمزة” القهوجي ثم إلى “باتعة” بائعة الجرجير والفجل في الصباح و “على برشامة” بائع المخدرات في الليل. وهكذا من لعب “الدويمنو” إلى بيع الخضروات والحشيش. وبين هذا وذاك تتكشف علاقات هذه الشخوص ببعضها وصراعاتهم وما تنطوي عليه من ظلم للكائنات.. وأيضًا بخاصة للمرأة.
واللافت أن نصوص المجموعة تحضر فيها بقوة صورة طيبة للنساء. فلا توجد امرأة واحدة ترتكب الشر والأفعال التي تراها هذه الكائنات سيئة ومدمرة للوجود والعواطف. بل وتقدم المجموعة نماذج عديدة من المرأة المكافحة المنتجة المضطهدة المظلومة، ما يؤكد الانحياز للمرأة.
والمنضدة بدورها تنحاز عاطفيًا للمرأة “باتعة”، فهما في علاقة تعاطف وحنان. وهي تروى مشاعرها عندما استخدمها ابن “علي برشامة” في الاعتداء على صاحبتها وحبيبتها “باتعة” وشج رأسها بساق المنضدة. ويلخص ختام النص/ القصة ما أشرنا إليه سابقًا بشأن قوة الخيال وتحول الكائنات على الطريقة الهندية والانتصاف والانتصار للمظلومين المضطدين، وبخاصة النساء. وهكذا جاءت الخاتمة حين تقول المنضدة:
“سامحيني ياباتعة، فلو كانت أقدامي سليمة، لكنت حملتك وطرت بجسدك إلى أقرب مشفى، ولم أكن أتركك حتى يطيب جرحك. أرجوك لا تغضبي يا أجمل مخلوقة رأتها عيني لأنني سأتفق مع الحطاب ليحولني إلى فحم لأحرق يومًا قريبًا كل هؤلاء الخونة”.
يستحق “كرم صابر” الاهتمام كأديب ليس لما قدمه في هذه المجموعة القصصية المميزة بكائناتها الحية الحكاءة العجيبة المبهرة فحسب. وهي بحق مجموعة مفتوحة على أحوال المصريين في هذا الزمان وببعضهم البعض وعلى علاقة الإنسان بالكون وتجاه قضايا المرأة وبالبيئة. بل ولأنه أيضًا واصل الكتابة والإبداع والنشر مجتازًا محنة الملاحقة بحكم سجن لخمس سنوات صدر في عام 2014 بعد تحريض السلفيين والوهابيين على مجموعته القصصية “أين الله؟”، الصادرة في طبعتين عامي 10 و2011. وكان الحكم صادمًا للحياة الأدبية والثقافية لأنه جاء بمثابة محاكمة لنص أدبي ولأديب بزعم “ازدراء الأديان”. الأمر الذي نفاه المؤلف ومعه لجنةالقصة بالمجلس الأعلى للثقافة. ولأنه لا يجوز مطلقًا محاكمة نص أدبي وكأن شخوصه ورواته وأحداثه واقع متحقق ملموس. وأيضًا لأن الحكم والنص الذي استند إليه (المادة 98 ومن قانون العقوبات) يخالفان المادة 67 من دستور 2014 الذي لم يكن مداده قد جف بعد. وهي مادة واضحة صريحة في حماية الإبداع والمبدعين من تحريض المتطرفين باسم الدين.
والمهم والأهم أن “كرم صابر” لم يتوقف عن الكتابة والإبداع، وها هو يقدم إلى المكتبة العربية نصًا متفردًا على هذا النحو بعنوان “كائنات حية”.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا