صنف إخوان الصفا العلوم إلى أربعة أقسام: رياضية تعليمية، جسمانية طبيعية، نفسانية عقلانية، ناموسية إلهية، “ولما كان مذهب إخواننا الفضلاء الكرام النظر فيها جميعًا، والكشف عن حقائق أشيائها، نعني العلوم الحكمية والعلوم النبوية جميعها، وكانت هذه العلوم بحرًا واسعًا، وميدانًا طويلًا، احتجنا أن نتكلم فيما دعت إليه الضرورة في عمل هذه الرسائل، التي هي إحدى وخمسون رسالة، والكلام فيها بأوجز ما يمكن، وإيراد النكت هي اللب، ولا يفهم ذلك إلا بأمثال تضرب، ليقرب من فهم المبتدئ النظر إلى العلوم، ويسهل تصور الحقائق إلى المتأملين”.
وعلى مدار سنوات، أسس إخوان الصفا دعوتهم الفكرية، ذات الطابع العقلاني (التنويري)، من أجل صالح الدين، وصلاح المجتمع في آن واحد، من خلال إيمانهم العميق بدور الفلسفة، ومن قبلها دور العقل، والاجتهاد الإنساني، فعن طريق المعرفة، يرتقي السلوك الإنساني، وتصبح الفضيلة بوصلته، “هلم إلى صحبة اخوان لك الفضيلة بوصلتهم، أصدقاء كرام، علومهم حكيمة، وآدابهم نبوية، وسيرتهم ملكية، ولذاتهم روحانية، وهممهم إلهية”.
ومن أجل ذلك عول إخوان الصفا على تنشئة جيل من المستنيرين لإقامة مجتمعهم الفاضل، وأطلقوا عليه “دولة أهل الخير”، وعن طريق المعرفة، وباستخدام المنطق العقلي – الذي أولوه أهمية كبيرة- بوصفه “أداة لتسديد العقل، وتثقيفه نحو الحقائق، ورده عن الزلل والغلط”، مثلما أولوا “القياس العقلي” المدعوم بالبرهان قيمة عظيمة، وأهمية قصوى بوصفه “ميزان البصائر وبداية العقول والمعارف الأولى”. كما اهتموا بالعلوم الطبيعية و(التجريب) في مجال “العلوم الجسمانية الطبيعية، إذ صنفوا سبع عشر رسالة تختص بكل مل يتعلق بالأجسام، والزمن، والحركة، وغيرها من العلوم الطبيعية، ولم ينسوا في دراسة الطبيعة أن يفردوا فصولا في علوم الحيوان، والنبات والمعادن، إضافة إلى دراسة الإنسان بوصفه أرقى المخلوقات، نظرا لتميزه بالعقل والتفكير.
ورغم المسحة الدينية في خطاب إخوان الصفا، إلا أنهم أنكروا البعد الديني (الثيوقراطي) في المجتمع، ونادوا بالتسامح بين جميع الملل والنحل، والتي كانت تتجاور في المجتمع آنذاك، واشترطوا أن يقوم مجتمعهم على الإرادة الحرة، والاختيار، بديلًا عن الجبر والتسلط، وراهنوا على العلم والمعرفة، لإعداد جيل جديد تهذبه المعرفة، وتقوده الفضائل، جيل من المتعلمين الذين يمتلكون وعيا وإدراكا، من أبناء الطبقة الوسطى –إذا جاز التعبير في حينها- يقولون عنهم: صحبة من أبناء الحكام، والتجار، والفقهاء، والعلماء، وأرباب الأموال.. لعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة، ورقدة الجهالة، وتحيا بروح المعارف العقلية”، فعن طريق التربية، والتعليم والتثقيف، من خلال منهج متدرج حسب طبيعة العضو، وثقافته، ومستواه التعليمي والفكري، تخصص له الدروس، وتبث له المعرفة، وفقًا لرؤية تنويرية أساسها إعلاء قيمة العقل، ورفض منج التقليد القائم على السمع والطاعة. ومن هذا المنطلق حاول إخوان الصفا الإدلاء بدلوهم في قضية عصرهم، من خلال توطيد العلاقة بين العقل والنقل، وتمهيد الطريق بين الفلسفة والدين، وبيان أوجّه التشارك للتوفيق بينهما، فإذا كان على المر أن يبدأ بالإيمان الذي هو الإقرار والتصديق بما أتي به الرسل والأنبياء، إلا أن الإنسان العاقل لا يلبث حتى يضع إيمانه موضع التفكير العقلي، وهنا يأتي دور الفلسفة.
يقول دي سوسير: “بدون اللغة تعد الفكرة شيئًا غامضًا، سحابة مجهولة، فلا وجود لما يسبق الأفكار، ولا شيئ واضح قبل ظهور اللغة”، وهو ما يعني أن هنالك علاقة وثيقة بين الفكر واللغة، إذ يظهر عبر اللغة الأسلوب الذي يفكر به أهل العصر في مجتمع ما، وزمان ما، ومن خلال اللغة وبلاغتها تظهر القضايا المحورية في هذا العصر أو ذاك، ويبقى الفكر بلا قيمة تذكر إذا ما ظل حبيس الذهن، ولا يمكنه أن يحقق أثره الذرائعي دون أن يصبح مجسدًا عبر وسائل تمكن الآخر من فهمه والتفاعل معه، وأكثر هذه الوسائل دون شك هي “اللغة”، كما تتطور اللغة وتزداد ثراء من خلال تطور الفكر، وتتجلى عبر تاريخ المجتمع وثقافته.
وتطور هذه العملية يؤدى إلى تطور كل من اللغة والفكر، ومن ثم وبشكل مواز تطور المجتمع. ويطرح إخوان الصفا عبر رسائلهم هذا المعني حيث تعد اللغة وفقًا لرؤيتهم آداة لحمل الأفكار، وقالب لنقلها، ووسيلة لبثها في المجتمع “فالألفاظ إنما هى سمات دالات على المعاني التى فى أفكار النفوس، وضعت بين الناس ليعبر كل إنسان عما فى نفسه من المعاني لغيره من الناس عند الخطاب والسؤال”، فاللغة تتجلى عبر مظهرين، المظهر الأول “عقلى”، والمظهر الثاني “لفظى”، والأول هو (الفكر) أو “النطق الفكري” بينما الآخر هو (الكلام) أو النطق اللفظي، يقول إخوان الصفا: “أعلم يا أخى – أيدك الله وأيانا بروح منه- أن المنطق مشتق من نطق ينطق نطقا، والنطق فعل من أفعال النفس الإنسانية، وهذا الفعل نوعان: فكري ولفظي، فالنطق اللفظي هو أمر جسماني محسوس، والنطق الفكري هو أمر روحاني معقول، وذلك أن النطق اللفظي إنما هو أصوات مسموعة لها هجاء، وهى تظهر من اللسان، الذي هو عضو الجسد، وتمر إلى المسامع من الآذان التي هي أعضاء من أجساد آخر، والنظر فى هذا المنطق، والبحث عنه، والكلام عن كيفية تصاريفه، وما يدل عليه من المعاني يسمى علم المنطق اللغوي. أما المنطق الفكري، والذي هو أمر روحاني معقول، فهو تصور النفس معاني الأشياء فى ذاتها، ورؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، وتمييزها لها فى فكرتها، وبهذا النطق يوجد الإنسان، فيقال إنه “حي ناطق”. فنطق الإنسان وحياته من قبل النفس وموته من قبل الجسد، لأن اسم الإنسان إنما هو واقع على النفس والجسد جميعًا، وأعلم أن النظر في هذا المنطق والبحث عنه ومعرفة كيفية إدراك النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواس وكيفية انتقال المعاني في فكرها من جهة العقل الذي يسمى الوحي والإلهام وعبارته عنها بالألفاظ بأي لغة كانت يسمى علم المنطق الفلسفي”.
ويتجلى بوضوح من خلال رؤية إخوان الصفا حول اللغة أمرين يعبران عن أهمية بالغة، أما الأمر الأول فهو هذا الدور التنويري الذي يرغبون في أدائه داخل المجتمع، وإيمانهم بأن الوعي (المجتمعي) هو العامل المؤثر في تطور المجتمع، أما الأمر الثاني فهو إيمانهم العميق بأن تطور المجتمع ينعكس على فكر الفرد وتطوره، يقول “طه حسين” في مقدمة الطبعة المصرية: “إن لرسائل إخوان الصفاء قيمتها الفنية الخالصة، فهى من حيث إنها تتجه إلى جمهرة الناس للتعليم، والتثقيف، قد عدل فيها عن العسر الفلسفي إلى اليسر الأدبي، وعنى كتابها بألفاظها وأساليبها عناية أدبية خالصة، ففيها خيال كثير، وفيها تشبيه متقن، وفيها ألفاظ متميزة، ومعان ميسرة، وليس من الغلو أن يقال “إنها قاربت المثل الأعلى في تذليل اللغة العربية وتيسيرها لقبول ألوان العلم على اختلافها، وجملة القول: إن هذه الرسائل كنز لم يقدر بعد، لأنه لا يعرف بعد”.
ويقول إخوان الصفا: “وأعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن مثل صاحب هذه الرسائل مع طالبي العلم، ومؤثري الحكمة، ومن أحب خلاصه، واختار نجاته، كمثل رجل حكيم، جواد كريم، له بستان خضر نضر طيب الثمرات، لذيذ الفواكه، عطر الرياحين… فأراد لكرم نفسه، وسخاء سجيته، أن يدخله كل مستحق، فنادى في الناس أن هلموا وأدخلوا هذا البستان، وكلوا من ثماره ما اشتهيتم، وشموا من رياحينها ما اخترتم، فلم يجبه أحد، فرأى الحكيم من الرأي أن يقف على باب البستان، وأخرج مما فيه تحفًا، وطرفًا ولطفا من كل ثمرة طيبة، وفاكهة لذيذة، فكل من مر به عرضها عليه… حتى إذا ذاق وشم وفرح به، واشتاق إلى دخول البستان وتمناه، وقلق إليه ولم يصبر عنه، قال له الحكيم عند ذلك، ادخل البستان، كل ماشئت وشم ما شئت، واختر ما شئت”.