إن تأملنا لطرائق التفكير والذي قد يبدو عدائيًا أو يميل لإدانتها أحيانًا لا يعني بأي حال قبولنا لإزاحة العقل جانبًا. بل لعله يعني التقدم بحذر، والإيمان بأن أولئك المزودون بإيمان “مفرط” بأفكارهم لا يمكنهم إحراز تقدم نحو كشف ما، بل معرضون لخطر الدخول في طور الجمود.
نبحث جميعًا عن المعرفة، ونتمنى الوصول إلى (الحقيقة)، قد (يعتقد) بعضنا أنه قد وصل إليها، والبعض الآخر يرى أنه يسعى للوصول إليها، لعله يعتقد أنها (أكبر) أو (أضخم) أو( أصعب) من الوصول إليها، فيتواضع قليلاً عند الحديث عن هذا الجزء الذي (امتلكه) من (الحقيقة) ويمنح مساحات معرفية لمن يعتقد أنه قد حاز جزءًا آخر منها. يظنها البعض منحة مقدسة توهب للمصطفين من البشر، ويراها البعض الآخر نتيجة يحصل عليها من يعمل، ويكد، ويشقى. (كثيرون منا يعلمون قصة الفيل ومجموعة العميان والتي وصف (عرف) فيها كل منهم الفيل وفقا للمنطقة التي لمسها من الفيل).
في نظرية المعرفة، أكد “ابن سينا” على فكرة ذات دلالة في حينها، وهي أن البشر يولدون بدون خبرة عقلية فطرية أو مسبقة، مما أثر بقوة على التجريبيين اللاحقين مثل جون لوك، ونقاش الطبيعة مقابل التنشئة في الفلسفة وعلم النفس الحديث، وطرح نظريته المعرفية على أربع كليات: الإدراك الحسي، والتذكر، والخيال، والتقدير، وقسم ابن سينا المعرفة إلى أقسام ثلاثة أولها: المعرفة الحسية، وثانيها: المعرفة العقلية، وثالثها: المعرفة الذوقية. وهو تقسيم يتسق مع أية في وسائل المعرفة الإنسانية، فهو يقول بوجود ثلاث ملكات في النفس باعتبارها وسائلا لإدراك الموجودات، فهناك الحواس، ثم العقل، وأخيرًا الحدس.
وقد ركز في رؤيته المعرفية على جانبي المعرفة: الحسي والعقلي، حيث ركز على ما تنقله إلينا الحواس، (لمس- تذوق- شم – سمع بصر). بالإضافة إلى المعرفة العقلية، وهي المعرفة القائمة على البرهان، والمنطق العقليين. يقول ابن سينا: تبدأ المعرفة الحسية باتصال الحس الظاهر بالعالم المحسوس، حيث ينبغي أن يكون المحسوس موجودًا كشرط ضروري للمعرفة الحسية، فالحس لا يدرك ما يدركه، أو ينفعل عن ما يدركه، في غيبة الحواس، والمحسوس هنا دوره نشط وفعال. بمعنى أنه لابد أن يؤثر على “عضو الحس” لكي يتم الإحساس. فبدون هذا التأثير والتأثر، أي بدون الفعل من جهة المحسوس والإنفعال من جهة عضو الحس، لا يتم الإحساس، لأن الإدراك الحسي هو حصول صورة المدرك في ذات المدرك، وفي الإدراك الحسي يكون هناك فعل وانفعال لا محالة.
ويرى ابن سينا أن المعرفة الحسية هامة لأنها بلا شك تلعب دورًا رئيسيًا في المعرفة الإنسانية بوجه عام، فكل النتائج التي توصل إليها العالم الإنساني الأن قد ارتكزت في المقام الأول على الجانب الحسي المادي التجريبي. ومع ذلك فهي تتسم بكونها (المعرفة الحسية) معرفة نسبية، وأحيانًا تدرك الأشياء على غير حقيقتها (وهو قول يشبه رؤية الفيلسوف الألماني ايمانويل كانت). كما أنها تتوقف على طبيعة المدرك ذاته. ولكنها لا تدرك إلا المادي فحسب. وهو ما دفع ابن سينا إلى الاهتمام بالمعرفة العقلية، فالمعرفة الحسية (والتي يقدر أهميتها) لا ينبغي أن نرفضها كلية، أو نصدقها كلية. وهنا يأتي دور العقل الذي يقيم هذه المعرفة التي نقلتها له حواس الإنسان، ذلك أن العقل مدين بالكثير مما لديه من أراء، وأفكار، وتصورات، ومقدمات تجريبية للحس والحواس. فبدون الخبرة، والتجربة الحسية، لغابت عن العقل معلومات لم يكن بوسعه أن يصل إليها منفردًا. ومع ذلك فإن للعقل هنا أهمية تفوق أهمية الحواس، فينما تكون المعرفة المبدئية تأتي عن طريق الحواس، يكون دور العقل معرفة القوانين الكلية، وكأن لسان حاله يقول: (العقل) – على سبيل المثال – هو الذي اكتشف قانون الجاذبية وليست الحواس، وعن طريق العقل استطاع الإنسان يفسر الكثير من مظاهر الطبيعة حوله ويكتشف قوانينها، وهكذا يجمع ابن سينا بين الجانبين، المادي المحسوس والعقلي المجرد، وكانت هذه الثنائية أكثر ما ميزت نظرية المعرفة عنده، وربما لا يخفى على أحد أن هذين العنصرين هما بمثابة القدمين التي تقف عليهما الحضارة الإنسانية الحالية.
ولعلنا هنا نذهب إلى “كانت” الفيلسوف الألماني الشهير لندرك ما توصل إليه مفكرنا بوضوح عبر مقارنة تبدو منطقية، يرى “كانت” أن الطريق لكشف حقيقة (الموجودات) هو الحس والتجربة فقط، واعتقد بأن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى (معرفة الذوات)، بل عليه أن يكتفي بالبحث في العوارض والحوادث وأقنع نفسه، في باب العلم، أن يرفع اليد عن إدراك حقيقة الذوات وأن يكتفي بظواهر الأمور، لكنه فكر أيضًا: أنه مادام لم نستعمل قوة التعقل، فإن الحس والتجربة لا يوصلان للعلم، والعلم بحاجة إلى مبانٍ عقلية، لكن من جهة أخرى: في التعقل، لا يمكننا الاطمئنان، بدون الاستناد إلى مبان علمية، يقول “كانت”: في الطبيعيات، لأن المحققين اعتمدوا على التجربة والمشاهدة، حسب إرشادات “فرنسيس بيكون” نجدهم يصلوا إلى نتائج مطمئنة، وإن كانت أحكامها بالأساس (أحكامًا بعدية)، لكن (الأحكام القبلية) التي كانت المرشد للمحققين في تحقيقاتهم، كانت كثيرة، كقاعدة إرتباط العلة بالمعلول وغيرها، ففي الطبيعيات، التي يتعلق موضوعها بالأمور المادية، وهي خارجة عن الذهن، فإن كثيرًا من الأحكام تعد “أحكاما تركيبية بعديّة” لأنها تحصل بالتجربة، لكن في هذه العلوم توجد أصول وقواعد أيضًا هي تركيبية وهي قبلية، مثل قاعدة رابطة العلة بالمعلول، أما في الفلسفة الأولى فموضوعات الحقائق هي خارج الذهن، لكنها مجردات، ولا يمكن تجربتها. والاطمئنان في الرياضيات سببه أن أحكام العقل فيها في أمور هي مخلوقة له، وليست خارج الذهن.
والاطمئنان في الطبيعيات سببه أن موضوعاتها يمكن أن تقع عليها التجربة، إضافة إلى أن العقل يضيف إليها أشياء وينميها، لكن الفلسفة الأولى: لا موضوعاتها هي داخل الذهن، بحيث يكون العقل خالقاً لها، ولا هي صالحة للتجربة، وإذ لا يمكن تجربتها، لا يمكن إصدار (الأحكام البعدية) فيها؛ لأنها ليست ذهنية فالأحكام القبلية فيها لا يمكن الاعتماد عليها، والأحكام التحليلية لا تفيدنا علمًا جديدًا، إذن الفلسفة الأولى كيف تكون علمًا ويطمئن إليها؟!
الرجل الطائر أو “الرجل المعلق في الهواء”
لا توجد تجربةٍ فلسفية ذهنية نالت من الشهرة ما نالته تجربة “رينيه ديكارت” العقلية، والتي سعى من خلالها إلى أن يؤسس لمبدأ غير قابل للدحض أو النكران حتى يكون منطلقًا للتعرف على الوجود من خلال “إثبات وجود الذات” التي لا سبيل إلى إنكارها، مهما حذق السفسطائي في التشكيك، وهذه التجربة مشهورة بالكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا موجود”. غير أن هناك تجربة ذهنية شيقة، لا تتمتع بشهرة تجربة ديكارت، وهي تجربة طرحها “الشيخ الرئيس” ابن سينا، والمعروفة ببرهان “الرجل المعلق في الهواء”، ففي سعي “ابن سينا” لإثبات الطبيعة المنقسمة للعقل والجسد، ابتكر تجربة ذهنية عرفت باسم: “الرجل المعلق في الهواء”، وتظهر هذه التجربة في رسالته “عن النفس”، من كتابه “الشفاء”، ويهدف بها إلى تجريد أية معرفة يمكن دحضها، وتركنا فقط مع الحقائق المطلقة، وتقدم الرسالة بشكل ملحوظ لعمل “رينيه ديكارت”، الذي قرر أيضًا عدم تصديق أي شيء على الإطلاق باستثناء ما يمكن أن يعرفه “هو” على وجه اليقين، يريد كل من ابن سينا وديكارت إثبات أن العقل أو الذات موجودة لأنها تعرف أنها موجودة؛ وأن العقل يختلف عن جسم الإنسان.
وفي تجربة الرجل الطائر، يريد ابن سينا فحص ما يمكننا معرفته إذا اختفت حواسنا تمامًا، ولا يمكننا الاعتماد عليها في الحصول على المعلومات، يطلب من كل منا أن يتخيل أنه أتى إلى الوجود في هذه اللحظة، لكن مع كل ذكائنا الطبيعي، لنفترض أيضًا أننا معصوبو العينين وأننا “عائمون في الهواء”، أطرافنا مفصولة عن بعضها البعض، لذا لا يمكننا لمس أي شيء، لنفترض أننا بلا أية أحاسيس على الإطلاق، ومع ذلك، سنكون على يقين من أننا (أنفسنا) موجودون، لكن ما هذه النفس التي هي “أنا”؟!
لا يمكن أن يكون أي جزء من أجزاء جسدي، لأنني لا أحس بوجود أي جزء، النفس التي أؤكد أنها موجودة بلا طول، أو عرض، أو عمق، ليس لها امتداد، وإذا ما استطعت أن أتخيل قدمًا – على سبيل المثال- فلن أعتقد أنها تنتمي لهذه الذات التي أعرف أنها موجودة على وجه التحديد، ويترتب على هذا أن هذه الذات البشرية (أنا) تختلف عن جسدي، مثلما تختلف عن أي شيء مادي آخر، وهنا يقول “الشيخ الرئيس”: إن تجربة الرجل الطائر هي وسيلة لتنبيه وتذكير الذات بوجود العقل بوصفه شيئا آخر غير الجسم، مميز عنه.
وأخيرًا يعترف “ابن سينا” لـ”الفارابي” – المعروف بالمعلم الثاني بعد أرسطو الذي يعد المعلم الأول- بفضل كبير في تحصيل المعارف، ليقدم لنا نموذجًا في التواضع، وليؤكد على أن الثقافة العربية الإسلامية قد قدمت لنا على مر تاريخها مفكرين وعلماء أعلو من شأن العقل، ويمكن لمنتجهم أن يكون جسرًا للوصول إلى رؤية فكرية جديدة تنير المستقبل، وثقافة مستنيرة قادرة على مواجهة جهالات البعض ممن ينكرون على المجتمع استخدام العقل، تحت دعوى أن الشرق العربي “ابن العاطفة، يقول الشيخ الرئيس: “قرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا أفهم المقصود به، وأيست من نفسي وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه عليَّ فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة من هذا العلم، فقال لي: اشتر هذا مني فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة، ورجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب، بسبب أنه كان لي محفوظا على ظهر قلب، وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يوم بشيء كثري على الفقراء، شكرا لله تعالى”.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا