تردد حازم (محمد ممدوح) كثيرًا حين سأله الشيخ – ضمن مجريات مسلسل “لعبة نيوتن“- عمّا إذا كانت نيته في طلاق زوجته هناء (منى زكي)، نية صادقة في تطليقها، أم أنه كان فقط يحاول تخويفها حتى تعود إليه؟
تردد حازم وكان من الطبيعي أن يتردد، فالمشاعر تختلف عن الحقائق المادية الجامدة. إنها تتغير وتتلون بسرعة الضوء، وتكتسب معاني جديدة كل يوم، على ضوء الأحداث والذكريات.
اقرأ أيضًا: عن جدل الطلاق الشفهي
تنبع المشاعر من الوجدان الذي نسميه الروح، وتلك الروح هي موضوع الإيمان الديني؛ ولذا فإن الخطورة تنشأ في لحظة اصطدام الروحي بالمادي، الحب بالزواج، الشرع بالقانون.
النية شيء افتراضي مجرد، لا يمكن استحضاره إلى المحكمة ليتحدث بنفسه، وهذا إذا كنا نتحدث عن النية الحسنة فما الحال إن فسدت النوايا
فكيف سيعرف “حازم” يقينًا، بما لا يدع مجالاً للشك، حقيقة نيته؟ ولو أنه عرفها، فكيف يتوقف التصرف القانوني، وما يتبعه من مسؤوليات وظلم للآخرين أو عدل لهم على “نية” أحد الأطراف، وهي شيء افتراضي مجرد، لا يمكن استحضاره إلى المحكمة ليتحدث بنفسه، وهذا إذا كنا نتحدث عن النية الحسنة، فما الحال إن فسدت النوايا؛ فقرّر الزوج مثلا رد طليقته إليه من دون علمها، حتى وإن كانت قد تزوجت؟
إنه احتمال أثاره هذا المسلسل الهام بقوة دفعت الصحافة إلى البحث عن رأي دار الإفتاء المصرية، فإذا بالرأي الشرعي يتهم مثل هذا الزوج بأنه “مجرم آثم”، وهو اتهام “روحي” كما ترى، لكنه لن يغير في الواقع المادي شيئا، إذ تقول الفتوى إن عقد الزواج الجديد لابد أن ينفسخ، وتعود الزوجة إلى طليقها الذي ردها بغير علمها، طالما استطاع إقامة الدليل على ردّه لها.
اقرأ أيضًا: “الطلاق الشفوي”.. خلافات تتجدد وآمال بانتصار السيدات
فهل يستطيع القانون أن يحاسب هذا الزوج بتهمة أنه “آثم قلبه”؟ بالطبع لا وجود في القانون لتهمة من هذا النوع. كل ما سيفعله القانون أنه سوف يعيد تلك الزوجة إلى زوجها الأول صاغرة، على الرغم من هذا التلاعب في “نوايا” طليقها.
وليس المقصود هنا رفض مسألة النيّات – ولها في الإسلام شأن عظيم «إنما الأعمال بالنيات»- فهي باب للرحمة الروحية. أما القانون، فإنه يكون قانونًا بقدر ما يبتعد عن النيّات. إنه الماديّ إلى حد القسوة في التعبير الشهير “القانون لا يحمي المغفلين”.
للعدل والنية وسائر المقاصد الإنسانية حضورها – الشرعي- الكبير، أما حين يتم ربطها قسرًا بالقانون المادي فإننا نقع أمام إشكالات التلاعب كما يفعل الزوج الذي يترك امرأته “معلّقة” أو يردها دون علمها
ولكن قسوته تلك مفهومة لأن العدالة عمياء والقانون يساوي بين الأطراف من حيث المبدأ. أما الشريعة والأحوال الشخصية فلها مبادئها الخاصة، فيمكن – مثلا – للرجل أن يتزوج من أربع نساء، بينما تُعاقب الزوجة إن جمعت بين رجلين. ولذا فإن للعدل والنية وسائر المقاصد الإنسانية حضورها – الشرعي- الكبير، أما حين يتم ربطها قسرًا بالقانون المادي فإننا نقع أمام إشكالات التلاعب كما يفعل الزوج الذي يترك امرأته “معلّقة” أو يردها دون علمها أو يغالط في نية تطليقها. إن الدين يضع “المنافقين” في أدنى الدرجات لكن القانون لا يمكنه أن يُعرّف تهمة النفاق.
اقرأ أيضًا: “انتِ طالق يا هنا”.. كيف أعاد “لعبة نيوتن” فتح ملف الطلاق الشفوي؟
إن نقاش “الشريعة” كثيرًا ما يدور حول مسألة تغير الزمن، عن قابلية “الحدود” وشروطها، عن اتساع النطاق القانوني الحديث وتنوعه الهائل. لكن يندر أن يعرج ذلك النقاش حول اختلاف ما تستهدفه الشريعة (أي شريعة) عما يستهدفه القانون (أي قانون).
تضيع حيوات وتنهدّ أسرّ لأن زوجًا يتصوّر أنه يستطيع أن يكون زوجًا أمام المحكمة ومطلقًا أمام الله. والصحيح ألا يكون زواج أو طلاق أو ردّ إلا بحضور الطرفين، أما النوايا فلتقضي بشأنها السماء
على الرغم من أن الخلط المتعمد بين المجالين هو الخديعة الكبرى التي اندفعت إليها فئات من المجتمع بتأثير تيارات الإسلام السياسي. بحيث تصوّر المتأثرون بأن “الشريعة” و”القانون” كتابان متناظران، وما علينا إلا أن نستبدل هذا بذاك فيحل الأول محل الثاني وينتهي الأمر. بينما يستحيل انطباق أحدهما في مجال الآخر، وما مشكلة “الطلاق الشفهي” إلا دليل واضح على ذلك؛ فقد تضيع حيوات وتنهدّ أسرّ لأن زوجًا يتصوّر أنه يستطيع أن يكون زوجًا أمام المحكمة ومطلقًا أمام الله. والصحيح ألا يكون زواج أو طلاق أو ردّ إلا بحضور الطرفين، أما النوايا فلتقضي بشأنها السماء.