يجب أولاً أن نثمّن السرعة التي تحركت بها الأجهزة المعنية لضبط المتهمين في واقعة التنمر والاعتداء العنصري على أطفال من جنوب السودان في حي عين شمس. خصوصاُ أن تلك الملاحقة القانونية السريعة ليست الأولى من نوعها إزاء واقعة تكررت عدة مرات في السنوات الأخيرة.
ولكن يجب ألا تنسينا يد القانون أن ما يصل إلى الميديا بنوعيها الرسمي والاجتماعي، بل إن ما يتم الإبلاغ عنه من جرائم الاعتداء والتنمر والتحرش، كما في غيرها من الجرائم، يبقى دائمًا جزءًا من الواقع، وقبسًا يسيرًا من الحقيقة. وكما أن “في السجن مظاليم”، فإن في الشوارع دائمًا مجرمين لم تصل إليهم بعدُ يد العدالة.
لكن ربما يحيلنا تكرر الاعتداءات العنصرية على لاجئين من دولة جنوب السودان إلى التفكير فيما وراء السبب العنصري المباشر. فمصر مليئة باللاجئين من كافة الأطياف والألوان. وبالطبع، فإنَّ بعضهم يطوله من الأذى جانبًا أو جوانب، لكن لاجئي جنوب السودان كان لهم نصيبٌ لا يستهان به من تلك الاعتداءات.
موقعة فض اعتصام اللاجئين الشهيرة في ميدان مصطفى محمود قبل 16 عامًا تمت وسط أجواء شعبية أقل ما يُقال عنها إنها لم تبدِ الاعتراض على قسوة عملية الفض، بل شهدنا آنذاك تبريرات رائجة تبدي “قرفها” من سلوك اللاجئين
بل إن من يذكر موقعة فض اعتصام اللاجئين الشهيرة في ميدان مصطفى محمود قبل 16 عامًا، يتذكر أيضا أن تلك الواقعة التي أدت إلى مقتل العشرات من لاجئي جنوب السودان – وإن كان السودان لم يكن قد انفصم بعد – قد تمت وسط أجواء شعبية أقل ما يقال عنها، إنها لم تبدِ الاعتراض على قسوة عملية الفض، بل شهدنا آنذاك تبريرات رائجة تبدي “قرفها” من سلوك اللاجئين. وبالإمعان في تلك التبريرات وذلك “القرف”، كنا نجد أنها تدور حول أمور من قبيل شُرب الخمر؛ أي أنها اتهامات تتعلق بالاختلاف الاجتماعي، لا القانوني أو الأخلاقي.
يقودنا ذلك إلى الفيديو الذي انتشر، وقاد إلى متهمي واقعة العنصرية في حي عين شمس، فقد كان الطفل الجنوب سوداني المعتدى عليه، يتم إجباره تحت التصوير على قول «أنا قوّاد». ثم يسأله الشاب الذي يعتدي عليه: “كنت بتعمل إيه مع الحريم؟”
وهؤلاء “الحريم” المقصودات لسن إلا فتيات من قريبات الطفل كنّ معه في زيارة عائلية، بل إنهن أيضًا طفلات في عمر 16 عامًا، كما يقول بيان النيابة العامة. وبالطبع، فإن من السخرية الاعتقاد بأن المتهمين أقدموا على فعلتهم البشعة بدافع حماية الأخلاق. لكن المتهمين، كغيرهم من مرتكبي عديد الجرائم في الآونة الأخيرة، يبررون فعلهم الإجرامي برفع الراية الأخلاقية. إنها الراية نفسها التي دفعت سيدة دار السلام إلى إلقاء نفسها – تحت الترهيب – من شرفة منزلها، والتي دفعت عروس المنصورة إلى أن تقاوم حتى الموت معتديًا أرسله زوجها ليلفق إليها واقعة زنا.
العنصرية المتذرعة بالأخلاق يجب أن تقلقنا نحن أكثر، فاللاجيء قد يعود إلى بلاده وقد يذهب إلى مهجر جديد، أما العنصرية ستبقى تقتلنا نحن إن لم تجد من تقتله
وكذلك تصوّر المعتدون في عين شمس أنهم إذا ما اتهموا الفتى السوداني بالقوادة وقريباته بسلوك يسيء إلى “الحريم” فإنهم سيفلتون باعتدائهم، ولمَ لا، فقد استطاعوا بالفعل اصطحابهم إلى منزل أحد المتهمين واحتجزوهم هناك لساعات من دون أن يتدخل أحد.
اليوم ليس كيوم واقعة مصطفى محمود، فقد صار لجنوب السودان دولة وسفارة في مصر، ولمصر سفارة في جوبا. وقد شهدنا تواصلاً فوريًا بين سلطات البلدين، لكن العنصرية المتذرعة بالأخلاق يجب أن تقلقنا نحن أكثر، فاللاجيء قد يعود إلى بلاده وقد يذهب إلى مهجر جديد، أما العنصرية – فمن دون تصدٍ تعليمي وثقافي لها – ستبقى، تقتلنا نحن إن لم تجد من تقتله.