اكتسب حي الشيخ جراح، أحد أحياء القدس المحتلة، شعبية كبيرة في الأسابيع الأخيرة لم يحصل عليها طوال تاريخه مقارنة بأحياء ومدن فلسطينية مماثلة له في البعد التاريخي، نتيجة الأحداث الكبيرة التي شهدها من تهجير واعتداءات من مستوطنين إسرائيليين ومعارك حول المسجد الأقصى، امتدت صداها إلى فلسطين بأكملها.
صعد حي الشيخ جراح إلى الواجهة بعد تحديد محكمة الاحتلال بالقدس جلسة للنظر في قضية 28 بيتا يقطنها ٥٠٠ فلسطيني مهددون بالتهجير وإحلال المستوطنين مكانهم. لكن المعركة القضائية انتقلت بسرعة شديدة إلى الساحة الإلكترونية بهاشتاج انقذوا حي الشيج جراح، وبسرعة أكبر انتقلت نيران التهجير إلى صدامات مع المقدسيين كانت انطلقت شرارتها في مطلع رمضان. لتبدأ التساؤلات حول أصل الأزمة؟ وما هو حي الشيخ جراح ومن صاحب الحق في أرضه؟
لماذا سمي بـ”حي الشيخ جراح”؟
تعود تسمة حي الشيخ جراح نسبة إلى الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي، طبيب صلاح الدين الأيوبي. ويقع في الجانب الشرقي من البلدة القديمة داخل القدس.
عندما توفى الأمير دفن في الجهة الجنوبية من طريق نابلس، تم بناء زاوية فوق قبره سميت بـ”الزاوية الجراحية”. ولما كانت سيرته التاريخية وحضوره قويًا عمد أهالي الحي إلى بناء منزل يحمل اسمه عام 1895. ومنذ ذلك الحين وعرفت المنطقة باسم “حي الشيخ جراح” وأصبح المسجد علامة مميزة للحي.
معاناة أهل حي الشيخ جراح
في أعقاب نكبة فلسطين عام 1948 وفقدان المئات بل الآلاف من العائلات لمنازلهم، أصبحت عائلات فلسطينية تعيش داخل مخيمات. وجدت نحو 28 عائلة ضالتها في الانتقال إلى حي الشيخ جراح التاريخي. ذلك بالتحديد عام 1956، ليبنوا وطنًا جديدًا، ويعيشون فصولًا جديدة من النضال.
منذ أن وعيت عيني “المشني” على الدنيا وهو لا يعرف وطنًا يتسع له غير منزله. هنا قضى طفولته وفي الشارع المؤدي إلى منزله كانت مراهقته وشبابه. وهناك على ناصية الشارع أول مرة تقع عينيه على رفيقة دربه وزوجته.
الآن تغير الأمر، أصبح بقاءه في منزله تحديًا لقوات الاحتلال. يخشى أن يغفو ويستيقظ يجد قوات الاحتلال تضع قدميها داخل منزله. برفقة شباب الحي دشنوا قوات حماية شعبية تعمل على مدار الـ 24 ساعة. إذ تنقسم إلى مناوبات باحية ومسائية، يقف “أبو عرفة” بدوره وتطلع عينيه إلى منزله تارة وإلى القادم من أول الطريق تارة أخرى.
يقول أبو عرفة لـ”مصر 360″: “نعيش لسنوات تحت التهديد. أخشى على نفسي وعلى زوجتي وطفلتي الرضيعة من مصير مجهول يبث الرعب في قلوبنا. ليس لدي منزل غير هنا في حي الشيخ جراح. أعيش برفقة عائلتي والدي ووالدتي وأخوتي الثلاثة، كنا من أوائل العائلات التي هجرت إلى الحي وشارك جدي المنزل حجرًا حجرًا. الآن وبعد ما يزيد عن 50 عامًا يريدون منا أن نترك كل شيء خلفنا”.
يقول أبو عرفة: “عندما أنتقل جدي إلى حي الشيخ جراح في عام 1956 كانت الضفة الغربية تحت الحكم الأردني الذي استمر حتى عام 1967. وجرى اتفاق آنذاك مع وزارة الإنشاء والتعمير الأردنية ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”. ينص على أن تتعهد الحكومة الأردنية بصفتها حاكم للمنطقة وتقع تحت مسئوليتها بتوفير مساحة الحي من الأراضي المنبسطة على أن يكون دور وكالة “الغوث” بناء وتشيد 28 منزلًا. في مقابل مبلغ مالي رمزي يتم دفعه بشكل دوري، حتى يتم تمليك كافة المنازل في غضون سنوات”.
خطة تهويد القدس
لا يمكن فصل ما يحدث في حي الشيخ جراح من خطة تهويد القدس المزعومة 2050. إذ وضعت قوات الاحتلال خطة تهويد القدس أي تهجير كافة الأسر الفلسطينية من المدينة المقدسة وتمكين العائلات اليهودية من الاستيطان. وأن تصبح القدس مدينة يهودية خاضعة لإسرائيل بشكل كامل.
إذ يعتمد المخطط في تنفيذ خطة تهويد القدس إلى فتح الطريق الموصل لحائط البراق. كذلك العمل على توسيع الحي اليهودي في المدينة القديمة. وربط جبل المكبر بالقدس بواسطة مبانٍ سكنية. إلى جانب العمل على بناء سور آخر حول القدس كجزء من عمل دفاعي. وتوطين 7 آلاف يهودي كدفعة أولى في المنشآت الجديدة، خاصة في منطقتي الشيخ جراح وسلوان. وأخيرًا العمل على منع تواصل المناطق العربية في البلدة القديمة.
لماذا يخضع الأقصى للوصاية الأردنية؟
في عام 1921 عقب تأسيس الأردن، التقى الملك عبدالله بن الحسين، رئيس وزراء المملكة المتحدة ونستون تشرشل. وخلال اللقاء أعلن الملك رفضه القاطع لـ”وعد بلفور”. مشددًا على ضرورة أن يمنح حق إدارة المقدسات الدينية في القدس لتكون تحت وصاية المملكة الأردنية الهاشمية.
وبعد مفاوضات استمرت 3 سنوات. نجحت الأردن في أن تحصل على حق الوصاية الدولية لمقدسات القدس والتي عرفت آنذاك بـ”بيعة الشريف”. ومنذ ذلك الوقت وتمارس الأردن دورها رغم محاولات قوات الاحتلال التحايل على الاتفاقية والالتفاف حولها. إلا أن الواقع القانوني للأردن كان قويًا وسليما لذا صعب المهمة على القوات الاحتلال.
وحسب القانون الدولي، فأنه لا يمكن للاحتلال انتزاع حق الملكية من الأردن تحت أي ظرف. إلا أن شيئًا ما حدث غير الحاضر والمستقبل.
النكسة التي غيرت الحاضر والمستقبل
اندلعت حرب 1967 وتعرضت مصر لهزيمة نكراء ومعها تغيرت قواعد اللعبة. استطاعت إسرائيل إحكام سيطرتها على الضفة الغربية بما فيها مدينة القدس. وانتزعت مهمة إدارة المدينة من الأردن. وهنا وجدت عائلات حي الشيخ جراح التي زادت إلى 38 عائلة نفسها في مهب الريح. وفي مواجهة مباشرة مع الاحتلال دون سند ملكية للأرض أو ما يثبت أنهم أصحاب الأرض الأصليين ليبدأ شبح التهجير يطاردهم.
يضيف الشاب المقدسي: “قضى جدي ووالدي سنواتهم داخل الحي، وخلال تلك الفترة ومع ازدياد قوة الإسرائيليين. بدأت الأحداث المؤسفة عندما رفعت جمعيات إسرائيلية دعوى قضائية ضد عائلات تقطن الحي. بحجة أنهم يتملكون أرضا بغير ذي حق، لتبدأ سنوات من الوقوف في ساحات القضاء”.
البداية كانت لدى اليهود، عندما رأوا أن الفرصة سانحة لأن يسحبوا من الفلسطينيين أراضيهم. ويستغلوا ضعف الدول العربية. وحالة الهزيمة التي سيطرت عليهم لأن يتوغلوا أكثر فأكثر على حقوق الفلسطينيين.
عمد اليهود إلى جر العائلات الفلسطينية إلى ساحات القضاء بزعم تملكهم للأرض منذ عام 1885. وأن العائلات الفلسطينية تملكت الأرض بوضع اليد. إلا أن القضاء أنضف العائلات الفلسطينية في ذلك الوقت، لكن يبدو أن الجانب الإسرائيلي كان يبيت نية أخرى.
لماذا عام 1885 بالتحديد؟
قبل عام 1880 كان اليهود يعانون من كافة صنوف العذاب في أوروبا من قتل وتهجير وتشريد لمئات العائلات اليهودية. فكان الشرق الأوسط المنطقة الأكثر أمانًا. هناك تراث مشترك ومقدسات قائمة بين الديانات الثلاث.
حسب مؤرخين، فففي عام 1880 وصل للقدس اليهودي يوسف بن رحاميم هاربًا من اضطهاد أوروبا. ارتكن إلى حي الشيخ جراح وطلب المساعدة من المقدسيّ ابن حيّ الشيخ جراح عبد ربه خليل بن إبراهيم.
منح “خليل” قطعة أرض لليهودي لنجدته بنظام الإيجار لمدة تصل إلى 90 عامًا. ليبدأ حياة جديدة دون تمليك للأرض حسبما ينص القانون العثماني الحاكم آنذاك.
عاش اليهودي رحاميم حياته وسط العرب دون أن تحدث أزمة سجلت في التاريخ. وبدأ يتوافد عليه أقاربه لتبدأ الأحداث في التصاعد عامًا تلو الآخر. إذ بعد ذلك الوقت بنحو 50 عامًا بدأت حرب 1948 وتبدأ عائلات وأسر فلسطينية من التهجير من منازلهم قسرًا خوفًا من بطش اليهود. وتحتل منازلهم عائلات يهودية وتستوطن أراضيهم.
وفي عام 56 تمكنت العائلات اليهودية من العودة إلى أرضهم مرة أخرى. خاصة أنها كانت تحت الحكم الأردني وجرت الأحداث على غير استقامتها بعد عام 67.
بدأ السجال القانوني بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أحقية الأرض. وعلى مدار عقود من الزمن بقي الحال على ما هو عليه، لكن في عام 2008 أصدرت المحكمة الإسرائيلية قرار بتمكين أحد العائلات الإسرائيلية بأحد المنازل التابعة لعائلة الشيخ الكرد، أعقب ذلك قرارا آخر عام 2009 وتم إخلاء منازل عائلتي “حنون والغاوي”، وفي تلك الأيام يعاني نحو 12 عائلة آخرى من خطر التهجير لوجود قضايا قانونية يتم النظر فيها داخل المحاكم الإسرائيلية.
التقسيم الهندسي والديمغرافي لحي الشيخ جراح
تصل مساحة حي الشيخ جراح بـ808 ألف متر، ويضم الحي نحو 2800 نسمة، وينقسم إلى جزئين. أحدهما فاره ويضم المطاعم والقنصليات والفنادق. بينما يعاني الأخر من سوء البنية التحتية ويعيش قاطنيه من الفلسطينيين في معاناة.
عندما تم منح الأراضي إلى الـ28 عائلة فلسطينية كانت مساحة المنزل الواحد تبلغ نحو 800 متر. يتم بناء المنزل في مساحة لا تتعدى الـ 200 متر تنقسم على عائلتين. وباقي المساحة يتم زراعتها وتزيينها لتسر الناظرين. كذلك تفنن الفلسطينيين في بناء وهندسة منازلهم فأنشأوا منازل بهندسة ذات طابع خاص. منحها الجمال المعماري الخاص، فضلا عن المساحات الخضراء التي كست الحي وزادته بهاء.
ينقسم الحي إلى جزئين أحدهما يمكن وصفه بالحي الراقي يضج بالمطاعم والكافيهات والقنصليات والمؤسسات الدولية، فيما يقبع الجزء الآخر الذي يسكنه العائلات الفلسطينية في بنية تحتية متهالكة وطرق غير ممهدة وينقصه العديد من الأساسيات اللازم وجودها في الأحياء السكانية.
شجرة زيتون جذورها ضاربة
يقول فاضل الكرد، رجل خمسيني يعيش في حي الشيخ جراح، إن عمر نجله الأكبر بشار من عمر شجرة الزيتون، فهناك مع يوم مولد نجله الأول نبتت شجرة الزيتون وعاش سنوات حياته يراقبها تكبر ويكبر نجله معها.
ويضيف الكرد في تصريح خاص: “تحملنا ما لا يتحمله بشر، عشنا حياتنا نحابي على أطفالنا وعلى شجر الزيتون. بينما نراعي اطفالنا ونربيهم على أن جذورهم ممتدة في الأرض، واليوم تأتي القوات الإسرائيلية وتطالبنا بالتهجير وأن الأرض ملكهم وأننا كنا ضيوف”.
واستدرك: “أعرف منذ أن أنتقل أبي إلى هنا وأن اللحظة التي نعيشها الآن آتية لا محالة. كذلك سعينا بكل الطرق لأن نثبت أن الأرض ملكًا لنا. وأن لا ملاذ لنا غير هنا، والىن أبت ليلتي أتساءل إلى أين أذهب بعائلتي”.
يعيش الآن العشرات من العائلات الفلسطينية تحت خطر التهجير القسري وترك منازلهم من خلفهم دون أن يعرفوا سبيلا آخر ليسلكوه وسط أنظار العالم.