“أكبر من أن ترى” كتاب صادر عن دار المرايا، لمؤلفه محمد سلطان، عرض فيه قراءة تبسيطية لطبيعة الأزمات الاقتصادية وواقعنا الاقتصادي المأزوم. ذلك الغول الذي لاتعكس الأرقام الرسمية حقيقة توحشه، رغم صدقها الظاهري.
الأزمات الاقتصادية.. على الهامش:
عندما لمحت عنوانه لأول مرة توقعت أننا بصدد عمل أدبي، وقع بين مجموعة من الكتب الاقتصادية عن طريق الخطأ. لكن مع صفحاته الأولى وتعريف صاحبه لمضمونه بالنفي زادني الأمر مزيدًا من الارتباك.
يشرح سلطان فحوى كتابه عبر “التعريف النفي”، إذ ينفي عن المؤلَف كونه يناقش قضايا اقتصادية مباشرة مثل الدين العام، أو تعويم الجنيه. أو حتى رفع الدعم عن الطاقة. لنكتشف بعد برهة أن المضمون يعبر عن أوجاع الإنسان، وحجم معاناته اقتصاديًا، بقدر لا تعيه الأرقام الرسمية.
أكبر من أن ترى..أكاذيب الاقتصاد الرسمي
يحطم سلطان في كتابه سرديات المصطلحات، والأرقام التي طالما تسلح بها كبار القوم “الخبراء” في مواجهة أي نقاش اقتصادي. دون مراعاة للفروق الانسانية، في درجة تحملها للغلاء على سبيل المثال. فيوعدك بتفريغ مصطلحات مثل معدل النمو العام، أو أرقام التضخم الرسمية من مضمونها.
وفي فصله الأول يفتت سلطان ماسماه بأفق الأكاذيب. عبر تشريح منطقي لأرقام تنبع من مؤشرات، غير حقيقية، لاتمت بصلة لواقع مهترئ. رغم انتهائها في كل مرة بكلمة “حقيقي”.
و بسلاسة جديرة بالإشادة يجاوب سلطان في كتابه عن سؤال المواطن العادي. لماذا لا تعبر الأرقام عن حجم المعاناة الذي أعيشه. كذلك ينبه المتخصصين إلى إيلائهم الاهتمام لملء الفراغات بالأرقام، دونًا عن رؤية وتقدير الجزء الإنساني فيها.
اللامساواة الخفية عبر الأرقام الزائفة
يحاول سلطان في كتابه إظهار أشكال اللامساواة الخفية، التي لا تعكسها الأرقام والبيانات المتناقلة. كذلك كم الاحتجاجات الاقتصادية والاجتماعية في مواجهة وحش الغلاء. التي تؤكد حقيقة أن الاستجابة عادة تكون لبعض آثار الأزمة، لا الأزمة نفسها.
ورغم لعب القبضة الأمنية دورها في تحجيم رد الفعل على قيم التضخم المتصاعدة، إلا أن للأمر أبعاد اخرى أعمق وأهم. تتمثل في محدودية الرؤية لأبعاد الأزمة، فهي أكبر من أن نرى.
ولتوضيح الصورة بشكل أدق يضرب سلطان المثل على ذلك باحتجاجات مارس2017، التي جرت إثر تخفيض عدد أرغفة العيش من خمس إلى ثلاث. في حين لا يتم الاحتجاج على الصعود الجامح لأغلب السلع، والخدمات فما أسباب تبلدنا الاجتماعي تجاه الغلاء؟
يستعرض سلطان أسباب ذلك عبر الفنتازيا، فيتخيل معنا أن السلع أصبحت تصرف على البطاقة الشخصية كل حسب دخله وطبقته الاجتماعية. وفئته العمرية، التي ستنتج بالنهاية خلافات حادة بين شرائح المجتمع المختلفة. في حين أن الأسعار الموحدة رغم ارتفاعها، تخلق نوعا من الشعور بالتوحد.
الشعور الموحد بدوره يخلق ما سماه سلطان بالموسيقى التصويرية للغلاء، حيث يشتكي الجميع منه، ولكن بشكل مستأنس يمكن محاصرته، مما يصعب من حدوث رد فعل عنيف، لا يستطيع النظام مجابهته.
خصوصية الغلاء.. التي تكذب بشأنها السلطات
وللغلاء خصوصية لا توليها الأرقام الرسمية أهمية ربما عن عمد، يدلل على ذلك بالأسعار التي ارتفعت خلال السنوات الأخيرة أكثر من ضعف سعرها. بينما تشير الاحصائيات إلى حد تضخم قدره 32.9%، وهو الرقم الذي لا يعبر أبدا عن قدر المعاناة الذي نعيشه.
يرجع سلطان أسباب هذا الرقم غير المعبر، إلا أنه لايخص سوى شريحة الدخل من 3300: 5000 جنيه، وبعيدًا عن الشرائح الأقل والأكثر. ففعليًا تعبر النسبة العامة عن شريحة 21% فقط من إجمالي المواطنين.
يؤشر هذا الرقم إلى رائحة اللامساواة المختفية خلف النسب والبيانات فهو يتجاهل حقيقة أن الدخل الأعلى ينتج تأثيرات سلبية أقل على الفرد. من حيث الغلاء، وكذلك التضخم، والعكس بالنسبة للشرائح الأدنى.
كما أن إرفاق كلمات مثل “متوسط”، أو “العام” إنما هي الكلمات التي يكمن فيها الشيطان. عليها يترتب كم من المغالطات اللانهائية في البيانات والمعلومات.
لعبة عدم اللامساواة
وبالتبعية تتجاهل هذه الأرقام سبل الإنفاق نسبة إلى الدخل، فمثلًا ينفق الناس على الغذاء بحسب النسب الرسمية المعلنة، وهي 39.9%. بينما تصل في شرائح على حدود خط الفقر، وهي الدخول من 2000:3000 جنيه الذين يمثلون ما يزيد عن نصف المجتمع أكثر من 65%.
وخلال 60 شهرًا أعلنت نسبة التضخم العام 7.88%. بينما كانت بالنسبة للفقراء 10.85% في أغلب الأوقات، وكانت أقل من 1% خلال 14 شهر فقط.
الأرقام السابقة توضح لعبة عدم اللامساواة التي لا تدعمها الأرقام الرسمية. بينما تتعمد إعلان النسبة العامة التي تمثل ما يزيد عن ربع السكان بقليل وفقط. بمعزل عن تصاعد نسب التضخم بشكل كبير بالنسبة للفقراء في أغلب الوقت.
كما أنها أيضًا تتجاهل عن عمد خصم نسب الإدخار في شرائح الدخل الأعلى. من إجمالي نسب التضخم الواقعة على هذه الفئات. ما يوّسع من الفجوة بشكل فج بين الشريحة الأدنى الأعلى وهما الشريحتين التي تتجاهلهما الأرقام الرسمية.
والحقيقة أن أعباء التضخم والغلاء لاتساوى أبدًا في ثقلها بين الجميع. كما أن غلاء أسعار السلع، والخدمات، وتغير أنماط ونسب الإنفاق، يفسر بشكل بسيط انتقال الشرائح على حدود الفقر. إلى الشرائح الفقيرة، بشكل لا تعبر عنه الأرقام الرسمية.
طريقة عمل الأكاذيب على الطريقة الرسمية
يستمر سلطان في شرح أكاذيب الأرقام الرسمية، وديناميكية عملها، واستمرارها رغم اكتشافنا للخدعة، عبر ما سماه بفيزياء الأكاذيب.
ويؤكد أن أغلبنا يميل لفكرة أن علاقتنا العقلية بالاكاذيب، والمغالطات، تنتهي عند اكتشافنا لها، ولكن تكمن الخدعة في أن النتيجة تكون في أن مانصدقه من بيانات، أو أرقام لاحقا يظل مرتبطا بالرقم الذي تعرضنا له اولا، والذي سبق، وأن كذبناها، وهو ما يطلق عليه نظرية الرسو، أو أفق الحدث.
وقد يبدو من الآمن أن نقول بما لايدع مجالا للشك، إن عدوى الرسو تنتشر في أجواء شعبوية، ولكن للمفاجأة فإن الأمر يتعدى هذا الحد. إلى “أصحاب البدل الفارغة” من كبار الاقتصاديين.
ويعمل هؤلاء والذي ينتمي أغلبهم لمؤسسات اقتصادية مهنية عالمية، على الاستعانة بمنظومة الأرقام المعلنة، في بناء تحليلاتهم، ورصد بياناتهم. فيرسو على الكذبة نفسها، دون بذل مجهود للرسو على الحقيقة، على اعتبار أن الفقر، والمعاناة أمر شخصي.
أكبر من أن ترى.. الاقتصاد المشاعري
في الفصل الثاني من الكتاب يستكمل سلطان تبسيطه لحقيقة الوضع الكارثي، وأسباب عدم وضوحه، عبر عرض لما سماه بالاقتصاد العاطفي.
يحاول سلطان اقتفاء أثر انتباهنا غير الموضوعي، وعدم قدرتنا على استشراف المخاطر، التي تتربص بنا، ويجاوب عن سؤال: ما الذي يثير اهتمامنا؟ ولماذا لانتبه للمخاطر؟، بمعنى أن هذا الفصل ينقذك شخصيا كمواطن غير متخصص في الاقتصاد، الذين يمتلكون مخاوفهم المشروعة تجاه الأزمة.
يشير سلطان إلى أن اللهاث خلف الأسئلة التنبؤية في خضم الأزمات، يهدر طاقتنا في الوقوف على حقيقة الأزمة الحقيقية، مثل محاولة توقع نسب ارتفاع الدولار في بداية فترة تعويمه، والتنبؤ نتائج ذلك.
بينما يلفت سلطان إلى حقيقة أن الأرقام التي عادة ما يتم التنبؤ بها أثناء مراحل الصخب، لا تكون غير صحيحة على الاطلاق، مثل ما وقعنا به فيه من أزمات اقتصادية في عام 2016، نتيجة اعتماد المؤسسات عادة على الظروف العادية في حساباتها، واستحالة وضعها خريطة توقعات تخص خط سير الأزمة.
وفي خضم الصراع حول التنبؤات، انشغل الجميع عن حقيقة ماجرى، وما سبقها من خطوات أدت إليه.
وفي حقيقة ما جرى يتابع سلطان سرديته عبر اقتفاء أثر الانتباه، فيرجع الاهتمام بملف ما على حساب آخر، على أساس “الدرامية”، فالاحصاء هنا والتنبه يجري على أساس المشاعر تجاه الحدث.
يؤشر نظامنا العاطفي إلى تصديقه إلى المجسد من الأحداث، فالوفاة العادية لا تلفت الانتباه بقدر الحادث المؤلم، والمثال الاقتصادي على ذلك رفع رسوم الجمارك على مئات السلع، في أواخر العام 2016، وفي خضم أزمة التعويم، والغلاء المبالغ فيه.
وفي حين توقف الجميع عند موضوع فرعي يخص إعفاءات الدواجن من الجمارك في حينها، وكان للإعلام دوره في إثارة هذه القضية دون غيرها.
قصة فائدة الديون التي يدفعها المواطن للدائنين
يعتبر سلطان التحرك تجاه رفع فائدة الديون في السنوات السابقة على الأزمة، أحد الأمثلة السافرة على ايضاح التحيزات الاجتماعية السافرة لصالحها، والتي وصلت إلى نسبة 63% من حجم الضرائب العامة للعام 2017-2018 .
ولايرجع ذلك إلى حجم الديون المتصاعد، بل إلى أن أغلبها هي عبارة عن ديون داخلية، يتحكم المركزي بنفسه في فائدتها، فيتم اهدار الإنفاق العام عليها، بديلا عن قطاعات مثل الصحة، والرعاية الاجتماعية.
ويلخص سلطان خدعة الفائدة التي يربطها المركزي، والمؤسسات الائتمانية الرأسمالية، بالتضخم، ويعتبرها أحد التلفيقات الاقتصادية، التي يروجون لها حيث يتم الربط بينها وبين التضخم، عبر تقليل النقود بين أيدي الناس، لتخفيض الطلب، وخفض الأسعار.
بينما تعتمد فكرة ارتفاع الأسعار على عوامل عدة بالنسبة للتجربة المصرية، والتي منها تعويم الجنيه، وارتفاع الدولار على سبيل المثال، إلى جانب تقليص دعم الطاقة، وهو ما يسمى بصدمات جانب العرض.
الحقيقة أن أصحاب الديون هم من يشترطون رفع الفائدة بقدر ارتفاع حجم التضخم، وبالنهاية نتحمل جميعا كمواطنين تكلفة الفائدة، التي تتمثل في ارتفاع الأسعار، وانخفاض الإنفاق على البنود الاجتماعية، إلى الدرجة التي وصل معها فائدة الدين ميزانية كل من الصحة، والتعليم مجتمعين خلال الأزمة الاقتصادية.
الصحافة الاقتصادية والمشاركة في العماء
ويستخلص سلطان من قصة الفوائد، أن الوضع الاقتصادي المصري قصة بالغة الميلودراما. ينتبه فيها النظام إلى الدائنين، ورجال الأعمال، وكل متنفذ، دون المواطن العادي.
بينما ينتبه المواطن العادي إلى القصص الدرامية المجسدة، والتي للأسف لا تميز طبيعة الاقتصاد، العشوائية والبطيئة في ذاتها.
وفي غضون ذلك يلفت سلطان إلى دور الصحافة الاقتصادية، في إيصال الحقيقة إلى القراء غير المتخصصين. متخذًا من موقع مدى مصر نموذجًا. كما استخلص حالة من التقصير في الانتباه إلى القضايا العريضة الملحة، لصالح القضايا الدرامية. ربما لطبيعة الصحفيين الدرامية أيضًا أو خوفهم من تحدي التفكير الدرامي للقراء.
يلفت سلطان إلى وقوع الصحافة المستقلة بدورها في أفق البيانات، والأرقام الكاذبة. ما يؤثر على قوة التقارير الواردة فيها. والمثال الأبرز على ذلك تقارير الغلاء التي لم تقف على الفجوة بين الأقل، والأعلى دخلا، وتأثر كل منهما بالأمر.
كذلك قضية القيمة المضافة التي توقفت عند النسبة 1.3% كارتفاع في نسبة التضخم، والتي لايجدها سلطان مناسبة لشد انتباه قارئ غارق في نسب أرتفاع بالأسعار يتخطى الـ 100%، فمالعمل؟
كيف نتجاوز التقارير والأرقام الرسمية التي نعتمد عليها في التملص من بيانات السلطة؟، هو السؤال الذي وجد سلطان إجابته أولا في اتباع سياسة التشكيك، في كافة التفاصيل، والتحرر من الأرقام الرسمية، وسياسة العماء، عبر تفنيد أكاذيب السلطة وبياناتها الخادعة، أو حتى السكوت عن قضايا لا نملك عنها إلا معلومات مغلوطة، وهي السياسة التي عادة ما تتجنبها الصحافة الاقتصادية، خوفا من البعد عن تناول القضايا الكلية، مما يظهر إنتاجها شديد الخواء.