ماذا ينقص صناع الدراما المصرية لاقتحام الدراما التاريخية؟ يبدو ذلك السؤال ملحًا في ضوء التفوق الكبير لفرق صناعة الديكور والمعارك والخدع في دراما موسم 2021، والتي ظهرت واضحة في مسلسلات ملحمية كـ”الاختيار 2″ و”هجمة مرتدة” و”القاهرة كابول”. وكانت الحسنة الوحيدة في مسلسل “نسل الأغراب” الذي يستحق بجدارة أفضل ديكور بصرف النظر عن القصة والإخراج.
تمثل تجربة مسلسل “الاختيار” بالذات تغييرًا جذريًا في مفهوم الدراما بعدما أخذ شقًا تاريخيًا بتعزيزها بمشاهد حقيقية ملحقة بعبارة تفيد ذلك على الشاشة وتمزح بين الدراما والأفلام التسجيلية ما يعطيها المزيد من المصداقية لدى المشاهد، بينما كانت الكثير من الأعمال الرمضانية محملة بالكثير من العمل الشاق لرجال المونتير الذين نجح كثير منهم في خلق صورة جيدة يمكن البناء عليها.
حتى مسلسل “الملك أحمس” الذي تم وقفه عن العرض لمشكلات تتعلق بشكل بطله عمرو يوسف ولحيته تضمنت مقاطع الدعائية مشاهد جيدة للمعارك، يمكن اعتبارها نواة لأعمال ملحمية مستقبلية تستطيع أن تسد نهم الجمهور المصري تجاه تلك النوعية من الدراما ولا يجد أمامه سوى الأعمال التركية والإيرانية التي تتضمن وقائع وبطولات ذائقة تتماشي مع سعي النظامين التركي والإيراني لاستعادة أمجاد الحقبة العثمانية أو الفارسية أو تغيير مفاهيم العرب بشأنهما.
لاشك أن الدرامية التركية حققت شعبية طاغية عربيًا بمسلسلات تتضمن تسييسًا للتاريخ مثل «قيامة أرطغل» إنتاج 2014، و«قيامة عثمان» إنتاج 2019، و«نهضة السلاجقة» إنتاج 2020، فيما تتعقبها إيران بمحاولة تغيير ذاكرة المسلمين من الفرس عبر مسلسل «مختار نامة» إنتاج 2010.
وفي هذا السياق، كشفت العديد من الدراسات التي تم إجرائها على الدراما التركية تأثيرها العنيف على الأطفال والمراهقين العرب، وأكدت أن التعرض لها يتسم بالانتظام والشدة العالية بين أوساط المراهقين ويعني الارتباط العاطفي والتفاعل الاجتماعي والثقافي بين المراهقين، وما تطرحه المسلسلات التركية من مضامين وأفكار.
وأوضحت الدراسات أن دبلجة تلك الأعمال باللهجة السورية ساهمت في الاستهواء وهي استراتيجية ثقافية سورية جديدة لنشر لهجتها عربيا وبالتالي نموذجها الثقافي، كما ولدت الانبهار العالي بين أوساط المراهقين بالنماذج والموديلات التي قدمتها تلك المسلسلات على مستوى وسامة وجاذبية الممثلين والممثلات، فضلاً عن جمالية المواقع والمشاهد السياحية التي تقف ورائها إستراتيجية سياحية للدولة التركية.
دراما ملحمية
حاولت الدراما المصرية التصدي لتلك الغزوة عبر أعمال مثل مسلسل “ممالك النار” لخالد النبوي، الذي اعتمد على التعاون مع الإمارات في الإنتاج، ومثل أحد التجارب الجيدة في مجال صناعة الدراما التاريخية العربية بعدما أعاد تصوير العثمانيين كأناس دمويين محتلين وليس فاتحين ناشرين للدعوة كما كان سائدًا في العُرف العربي.
تثبت تلك التجارب أن الدراما الملحمية قادرة على جذب الجمهور بشرط الصناعة الجيدة والبعد عن اللغة الخطابية التي صاحبت المسلسلات المصرية الإسلامية التي تصيب جمهورها بالملل، والإنفاق عليها ببذخ في المعارك والديكور والملابس، فمسلسل مثل “عمر بن عبدالعزيز” لم يتضمن مشهدا واحدا لمعركة من الفتوحات حينها التي وصلت لمشارف الصين واعتمد على التصوير الداخلي في جميع مشاهده.
تعكس الدراما التاريخية الملحمية توجها عالميًا حاليًا وحلبة للتنافس بين منصات البث الرقمي ولها جمهور عريض عربيًا فكمية المشاهدات لمسلسل “فايكنج” أو “المملكة الأخيرة” أو “البرابرة” ونهضة السلاجقة تجاوزت التوقعات، وحققت معدلات مرتفعة للغاية على مستوى التحميل من شبكة الانترنت.
اقر أيضا:
لماذا “مافيش قضية قوي” في المسلسلات المصرية؟.. بصوت النجمة الرياضية ياسمين صبري وأخريات
سنوات الدراما التاريخية والوطنية
يتوقع نقاد أن تشهد السنوات المقبلة تركيزا أكبر من الدراما المصرية على التاريخ بجميعه أبعاده، في ظل اقتناع الدولة ذاتها بأهمية الدراما في خلق الروح الوطنية لدى الأجيال الجديدة واعتبارها رأس حربة في مواجهة الإرهاب وإعادة بث الروح الوطنية وهي قيم تسعى الحكومة المصرية، عبر شركات الإنتاج المملوكة لها، لترسيخها.
تبدو المشكلة في اختلال مفهوم الدراما التاريخية لدى بعض الكتاب المصريين الذين يرون أن تناول قصة رومانسية في الماضي ضمن سياق عام من الديكورات والتنويه للفترة التاريخية نوعًا من الدراما التاريخية مثل ” «ليالي أوجيني” و”أهو دا اللي صار” وجراند أوتيل”.
يرجع المنتجون سبب تخليهم عن الأعمال التاريخية الصرفة إلى احتياجها ضخامة التكلفة الإنتاجية بداية من الملابس والديكور ومواقع التصوير، لكنه أمر أصبح مردودا عليه فمسلسل مثل نسل الأغراب تضمن بناء عالم من الفانتازيا لا يقل عن تكلفة إنتاج مسلسل تاريخي، فنموذج قصر أمير كرارة في العمل وحده، تم بناؤه خصيصًا بالأخشاب والجبس بمساعدة 300 عامل بناء عملوا فيه 3 أشهر.
وفي مسلسل «القاهرة كابول»، والذي تدور أحداث العديد من حلقاته في أفغانستان تم الاستعانة بالسفير المصري في الدولة الأفغانية الذي ساعدهم في جلب ملابس أمراء تنظيم القاعدة والذي أرسلها للقاهرة.
واقع مر
طوال فترة السبعينيات والثمانينيات، لم يكن يخلو موسم رمضاني من العمل التاريخي الذي يتصدى له كتاب بارعون مثل محفوظ عبدالرحمن مع تدقيق شديد في الأحداث بالعودة إلي الوثائق حتى وإن كانت ضعيفة على مستوى الإخراج وتصميمات المعارك، ووقف ورائها الإنتاج الرسمي للدولة غير ساعيًا للربح، على عكس القطاع الخاص الذي يريد ربحا سريعًا دون مجهود.
اقرأ أيضا:
وصف مصر بالدراما| أسامة أنور عكاشة نموذجًا (1)
دراما زمن “مبارك”.. الهروب للضحك بعد هزيمة الطبقة المتوسطة
قبل عامين، تم الإعلان عن مسلسل “سيف الله المسلول” عن قصة خالد بن الوليد وتم التصوير لمدة ثلاثة أيام في الأردن ببطولة عمرو يوسف، وتوقف العمل قبل أن يعود بعد عام كامل للحديث عن تصويره مجددًا ببطولة ياسر جلال ليتوقف مجددًا، بحجة أنه يحتاج لفترة تحضير طويلة خاصة للمعارك التي يضمها، وتكرر الأمر مع مسلسل “محمد علي” الذي تم الإعلان عنه قبل عقد كامل من بطولة يحيي الفخراني ولم يجد منتجا متحمسًا لتبنيه.
العمل التاريخي الجيد يتطلب جودة على مستوى الإنتاج لتحقيق عنصر الإيهام الذي يجعل المشاهد يعيش في أجواء الماضي مع السيناريو الجيد وخصوبة الحكي ، والإخلال بأي عنصر منهما يعرض العمل للفشل وخسارة المبالغ الضخمة التي يفترض إنفاقها عليه، هذا ما خلص إليه الناقد الفني رامي عبدالرازق.
عبدالرازق يضيف أن العمل التاريخي يعتمد على عنصري الكتابة والإبهار مع التدقيق بوجود جهة معنية بمراجعة الأعمال الدرامية التي تتناول أحداثا تاريخية لارتباطها بتشكيل وعي الأجيال القادمة التي تستقي معلوماتها من الدراما، مشددًا على أن مصر دليها تجارب جيدة في الدراما التاريخية مثل مسلسل “بوابة الحلواني” والذي تناول مرحلة مهمة من تاريخ مصر جامعًا بين التاريخ والدراما في الوقت ذاته دون أن يجور أحدهما على الآخر.