ظهور المتدين على الشاشة المصرية كان في أغلب الأوقات ظهورًا وظيفيًا، يحدث لخدمة انحيازات سياسية أكثر منها ضرورة فنية تخص العمل ذاته. بدأ المتدين في السينما رحلته كشيخٍ واعظ، وانتهى كإرهابي قاتل، في رحلة كاشفة لتغيرات جمّة، سياسية واجتماعية، حدثت في الواقع المصري.
في ثلاثينيات القرن الماضي كان هناك تيار محافظ يتحرك بتؤدة؛ طارحًا الدين كحلٍ سحري لأزمات المجتمع قاطبة، لم يكن حسن البنا مؤسس الإخوان في 1928قد تحوّل إلى نجمٍ بعدُ، لكن أفكاره عبرت عن تيار وجد هوى لدى قطاعات من المصريين.
التيار نجح في شنّ حملة على فيلم “حب الأمير” بصفته يمثل تجسيدًا للرسول بشكل غير لائق، ليمنع الفيلم بعدها ويُجبر بطله يوسف وهبي على كتابة خطاب مفتوح في الصحف يدافع فيها عن تدينه ويعلن اعتزازه بإسلامه. لكن رغم ذلك لم تكن الأفكار المحافظة حينها قد وصلت بعدُ لمرحلة تحريم الفن تمامًا، بل كان هناك من يرى الإبداع وسيلة جيدة لنشر الأخلاق وتقويم المجتمع.
لذلك ليس غريبًا أن يكون أول كتاب مصري ظهر لتعليم السينما كتبه “محمود خليل راشد” العضو البارز في جمعية الشبان المسلمين، ونائب مدير جمعية “منع المسُكرات”، والذي أنتج فيلمه الأول “الساحر الصغير” عام 1932 لتثبيط الناس عن شرب الخمور.
وبعدها بسبع سنوات يظهر محمد أفندي في “العزيمة” كنموذج مثالي للرجل المتدين الملتزم بمكارم الأخلاق، في فيلم مشهد البداية في كان الأذان.
لكن سرعان ما سيطر التيار الليبرالي المتأثر بالثقافة الغربية على السينما لتتوارى شخصية المتدين عن الشاشة إلى حد كبير، فباستثناء أفلام حسين صدقي (قيل إنه كان عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين)، كانت الغلبة لأعمال تعبر عن التنوع الثقافي لصناع وجمهور ذلك الفن الوليد، وانحصرت شخصية المتدين في كونه يمثل صوت الضمير.
ومع قيام ثورة يوليو تغيرت العلاقة بين السينما والدولة، وذلك حين قرر جمال عبدالناصر في 1959 إنشاء المعهد العالي للسينما بالتزامن مع قراره تأميم تلك الصناعة، مُدشنًا لعلاقة جديدة بين السينما والسياسة. علاقة تنص على أن تعلم ذلك الفن سيتم حصريًا في المعهد الذي أُنشئ على غرار المعاهد الثقافية الروسية، وإنتاجه سيتم بواسطة الدولة، وبذلك تمت مأسسة الفن وتأميمه.
قرر جمال عبدالناصر في 1959 إنشاء المعهد العالي للسينما بالتزامن مع قراره تأميم تلك الصناعة، مُدشنًا لعلاقة جديدة بين السينما والسياسة
وكان من تبعات ذلك القرار أن أصبحت السينما أداة مباشرة في يد النظام الجديد لنشر أفكاره ومحاربة أعدائه؛ فرُسمت شخصية البطل في الأعوام الأولى من عمر الثورة وفقًا لرؤية السُلطة، فأصبح إما ثورياً مثل إبراهيم حمدي “في بيتنا رجل” أو ضابطاً متمردًا كعلي ابن الجنايني. و حتي عصام الشاب المستهتر في “شروق وغروب” تعاون مع التنظيم الوطني للقضاء على أحد رموز العهد البائد.
ورغم العداء الواضح بين النظام والإخوان المسلمين حينها، إلا أن انتصار جمال عبدالناصر في تلك المعركة كان ساحقًا بدرجة لم تجعل هناك داعيا لتدشين أفلام تهاجم الجماعة، ولا الإسلاميين بشكل عام، لتظل شخصية المتدين على الشاشة حاضرة بشكل إيجابي رغم خفوته.
وحين توارى ناصر عن المشهد، توارت معه معاركه وتلاشت صورة البطل القديم، لتحل محلها صورة مغايرة تتسق والعهد الجديد، حيث الرئيس المؤمن المنتصر في الحرب، مطلق الحريات ومُنهي حقبة زوار الفجر.
فكانت الغلبة على الشاشة للجندي المقاتل في الأفلام التي صنعت خصيصًا لتمجيد نصر أكتوبر كما في “بدور” و”الرصاصة لا تزال في جيبي” و”العمر لحظة”، بالتوازي مع ذلك برزت شخصية المثقف الذي عاني من معتقلات ناصر وويلاتها كما في “الكرنك”، و”احنا بتوع الأتوبيس”، أو “عودة الابن الضال”.
ورغم تباعد الخط السياسي بين العهدين وتباين الظروف الإنتاجية، إلا أنهما اتفقا على أن يظل “المتدين” ممثلاً لصوت الضمير على الشاشة، وهي الصورة التي توارثتها السينما منذ العهد الملكي، حيث محمد أفندي المتدين الخلوق في “العزيمة”، لا يختلف كثيرًا عن الشيخ حسن في “جعلوني مجرمًا”، كلاهما يمثل الحق والخير المطلق بصورة شبه ملائكية.
لكن ذلك التوجه العام لم يمنع ظهور فلتات نادرة ترصد سلوك مدعي التدين بشكل سلبي، مثل شخصية شيخ البلد في “الزوجه الثانية”، المتلاعب بشرع الله لصالح العمدة رمز السٌلطة.
أما زمن مبارك، فكان شبهه تمامًا، بلا طعم أو توجه واضح، لذا لم تتبنى السينما مواقف عامة حيال طرف من الأطراف، توافق توجهات السلطة غير المعلومة الملامح، وظل المتدين شخصية ثانوية، إن ظهرت لن يتجاوز دورها إلقاء المواعظ ومخاطبة ضمير البطل.
لكن في الثُلث الأخير من الثمانينيات، ومع انتشار الأفكار الوهابية في الشارع المصري، والتي وصلت لعقر دار أهل الفن بظهور موجة اعتزال الفنانات وتحجبهم، بدأ المبدعون يخوضون معركتهم الشخصية بشكل عفوي منفصل عن السلطة ضد الأفكار الرجعية. وهنا ظهرت شخصية المتدين على الشاشة بصورة سلبية، تعكس رفضاً وكرهاً من صناع الافلام، أكثر منها دراسة وتحليلاً لذلك النموذج.
في الثُلث الأخير من الثمانينيات، ومع انتشار الأفكار الوهابية في الشارع المصري بدأ المبدعون يخوضون معركتهم الشخصية بشكل عفوي منفصل عن السلطة ضد الأفكار الرجعية
فباستثناء شخصية زهير في “أبناء وقتلة” الشاب الملائكي المتفوق في دراسته، كانت صورة المتدين (السني سابقا/السلفي لاحقًا) على الشاشة صورة نمطية أحادية الجانب، فهو المتجهم الملتحي، الذي يتحدث الفصحى طول الوقت بصيغة مضحكة، فضلاً عن شغف لا يفارقه بالطعام والنساء. شخصية يمتزج فيها الجهل بالغلظة، وقسوة القلب بضيق الأفق، ويحمل سخطاً لا ينتهي على الحياة ومحبيها.
المفارقة أن حتى عاطف الطيب الذي أبدع في رسم تفاصيل شخصية المتدين الملتحي في “أبناء وقتلة”، عاد ليواريها في خلفية كدراته، مختزلاً إياها في حزمة من الجلابيب البيضاء تتحرك في أفواج أشبه بأسراب النمل للمساجد، في دلالة رمزية على تحولات الشارع المصري.
وفي منتصف التسعينيات، ومع ظهور موجة الإرهاب، التقت إرادة المبدعين الرافضين للأفكار الانغلاقية، بإرادة الدولة المنزعجة من الاغتيالات السياسية. ليتحول المتدين على الشاشة إل إرهابي، يُفجّر ويغتال ويستهدف الأبرياء، وارتبطت اللحية بالكلاشنكوف في أغلب الأفيشات.
ولم تقف الدراما التلفزيونية بعيدة عن المسار الجديد، فنظرة على “ليالي الحلمية” المسلسل الأبرز في تاريخ مصر، تكشف لنا كيف كان كاتب بحجم أسامة أنور عكاشة يرى السلفيين بصورة سلبية لا تعدو كونها نموذج من اثنين.
فهم أما خميس “بسه” الآفاق الذي تاجر في كل شيء وباع كل شيء، ثم وجد ضالته في اللحية والجلباب كستار لعملياته المشبوه. أو توفيق البدري “الصغير” الذي تحول بفعل غسيل مخه باسم الدين إلى إرهابي قاتل، مطارد من الأمن. وهكذا اختزل السني/ السلفي علي الشاشة في كونه إما نصاب أو إرهابي أو ربما كلاهما.
وهي نفس الصورة النمطية التي وقع فيها وحيد حامد في أغلب أعماله التي اشتبكت مع ذلك النموذج الديني، وإن كان ما يميز حامد نسبيًا عن الآخرين أنه أضفى جوانب إنسانية على بعض تلك الشخصيات ظهرت في لمحات خاطفة. مثل المشهد شديد العذوبة الذي يجمع علي الزناتي محامي الجماعات الإسلامية في “طيور الظلام”، مع صديقه القديم، ويحن فيه للأيام الخوالي فيحتضن العود ليغني “يا واش يا واش” بانسجام بالغ وابتسامة لم تفارق وجهه.
لكن حامد – وفي الفيلم نفسه – أصرَّ على تجسيد احتقاره للسلفيين، حين يقوم فتحي نوفل بالدعاء على مجموعة منهم فيؤمنوا خلفه كالببغاوات، في إشارة مباشرة لتغييب عقول ذلك الفصيل.
وربما المرة الوحيدة التي خرج فيها وحيد حامد من ذلك القالب كان في مسلسل “الجماعة”، حين أجبرته شخصية حسن البنا المركبة على رصدها وتحليلها، وهنا اكتشف حامد أنه خلق دون أن يدري حالة تعاطف نسبي مع النموذج الذي يبغضه، ليعود في الجماعة ٢ إلى مربعه الأثير حيث التنميط والإدانة التامة.
وبعد 30 يونيو وما واكبها من أحداث دموية، عاد من جديد للدولة توجهها الواضح، الذي ظهر معه البطل المُنقذ في مواجهة الشرير الخائن. وهنا تحولت شخصية المتدين/ السلفي على الشاشة إلى إرهابي بامتياز.
ورغم أن الأعمال الفنية التي انُتجت في السنوات الأخيرة اعتمدت في جزء كبير منها على أحداث حقيقية، إلا أن صٌناعها تعاملوا مع شخصيات ثرية دراميًا مثل “هشام عشماوي” بخفة وسطحية لا تناسب مع تناقضاتها وتحولاتها الفكرية، متجاهلين أسئلته الوجودية التي دفعته للتحول من ضابط لإرهابي، ليظهر عشماوي على الشاشة بشكل باهت أحادي الجانب وكأنه شخصية كاريكاتيرية، لا تمتلك سوى وجه عابس وحقد دفين على المجتمع.
إشكالية عشماوي في الاختيار هي نفس إشكالية أغلب المتطرفين في حزمة الأعمال الدرامية الرمضانية مؤخرا جميع الشخصيات نمطية بامتياز لن تري فيهم أي ملمح إنساني
إشكالية عشماوي في الاختيار هي نفس إشكالية أغلب المتطرفين في حزمة الأعمال الدرامية الرمضانية مؤخرا، جميع الشخصيات نمطية بامتياز لن تري فيهم أي ملمح إنساني.
الوحيد الذي تجاوز ذلك التنميط نسبيًا كان الشيخ رمزي في “القاهرة كابول” الذي ظهر لنا كعاشق لم يفارقه حب منال ابنة عمه حسن، والتي نظم فيها يومًا شعره (كوني خيلا يعدو بي في عمر اللحظة / صحراء كبرى تفصل بين الله وبيني)، وهو الخط الذي تم تضفيره في الدراما ليكون حبه التاريخي لمنال هو الفخ الذي عن طريقه سينجح الأمن المصري في استدراجه والقبض عليه.
لكن بشكل عام اُغفل الملمح الإنساني من جميع الشخصيات “الإرهابية” فانفصلت عن الواقع وانفصل المشاهد عنها، وتحولت المسلسلات إلى خطاب إنشائي منزوع الحس الفني، يعتمد نجاحها على الانحيازات سياسية للمشاهد، لا الحبكة الدرامية للعمل ذاته.
ومن هنا تأتي أهمية شخصية مؤنس في “لعبة نيوتن”، فلأول مرة تظهر لنا شخصية السلفي بشكل طبيعي، يحمل كل تناقضات النفس البشرية. ظهر مؤنس كمحام وتاجر شاب ناجح، يمتلك قدرًا من الجاذبية والقبول، فضلاً عن كونه الخدوم الذي يساعد أبناء دينه في الغربة، لكنه في الوقت نفسه لا يتورع عن تسليم أحدهم للسلطات إذا اقتضت المصلحة لذلك. تركيبة طبيعية بخيرها وشرها، محملة بقدر من الإنسانية لا تخطئها عين، تظهر جلية في حبه لهنا الذي يصل لدرجة الانسحاق أمامها.
الجيد هنا أن تامر محسن (مؤلف العمل) لم يقع في فخ التنميط الإيجابي، فمؤنس لم يتحول إلى عبدالرحمن الجس العاشق الملائكي في “سلاّمة” الذي جمع ثروة لاسترداد حبيبته بعد أن بيعت كجارية، ولكنه فضل إعادتها أولا إلى مالكها الأصلي، وحين علم أن الخليفة يريدها تركها له وتطوع في جيوش المسلمين لمحاربة الأعداء!. مؤنس لم يظهر على الشاشة كملاك أسطوري هو يكذب ويخفي خطاب زوج “هنا” عنها، يدلس في حديثه مع زوجته الأولى، ويستخدم الدين لتحقيق أغراضه، ويقبل أن يكتب طفل رجل آخر باسمه، يتخلى عن لحيته فقط ليرى حبيته، ولا يتورع في خطف طفلها والهروب به.
لسنوات طويلة والمتدين على الشاشة شخصية خيالية لا علاقة لها بالواقع، فهو إما ملاك لا يخطئ يتحدث بصوت الضمير طوال الوقت، أو أفَّاق نصاب إرهابي قاتل لا يحمل سوى الشر والحقد. لم تنجح الشاشة المصرية في تجاوز مربع الأبيض والأسود الذي حصرت المتدين فيه لعقود؛ حتى ظهر مؤنس الذي تحرك طيلة الـ 30 حلقة في مربع الرمادي، الذي ينتمي أغلبنا له بالمناسبة.