بعد الجولة الأولى لمبعوث الرئيس الأمريكي، جو بايدين، إلى مصر والسودان وإثيوبيا وإريتريا، أشار بيان لوزارة الخارجية الأمريكية إلى مبادرة أمريكية جديدة تستهدف عودة المفاوضات الثلاثية حول ملء وتشغيل سد النهضة تحت مظلة الاتحاد الأفريقي دون الكشف عن تفاصيل هذه المبادرة أو ما يمكن تقديمه للتوفيق بين المواقف المتجمدة للدول الثلاثة بشأن الاتفاق الشامل والملزم والمنوط به تنظيم عمليتي ملء وتشغيل السد.
البيان الأمريكي ركز بشكل خاص على سياسات الإدارة الإثيوبية بقيادة أبي أحمد والتداعيات السلبية سواء في الداخل الإثيوبي أو المنطقة الأفريقية، حيث ندد البيان بالاستقطاب السياسي والعرقي داخل إثيوبيا وطالب بضرورة وقف إطلاق النار في إقليم تيجراي وتقديم المساعدات للمتضررين في المنطقة ومحاسبة كل من انتهك حقوق الانسان، مع ضرورة سحب القوات الإريترية من إثيوبيا.
وحذر البيان الأمريكي من خطورة القرارات التي يمكن أن تتخذ لمواجهة التعنت الإثيوبي في الاستمرار في الملء الثاني من دون موافقة مصر والسودان، قائلاً أنها “سيكون لها تداعيات كبيرة على شعوب المنطقة”.
اقرأ أيضا:
ماذا يمكن أن تقدم أمريكا في نزاع سد النهضة قبل الملء الثاني؟
شرط مصري سوادني للعودة للمفاوضات
خلال جولة المبعوث الأمريكي، جيفري فيلتمان، وجهت القاهرة والخرطوم رسائل حاسمة برفض أي ممارسات من إثيوبيا تتعلق بفرض الأمر الواقع في النيل الشرقي من خلال الإقدام على الملء الثاني لخزان سد النهضة من دون توقيع اتفاق قانوني ملزم شامل يحكم ملء وتشغيل السد، فضلا عن عدم القبول بالإضرار بمصالحها المائية أو المساس بمقدرات شعوب دول المصب.
وفقاً لمصادر دبلوماسية مطلعة على ملف سد النهضة، فإن العودة المصرية للمفاوضات ستكون مشروطة بوقف أي اجراءات من قبل إثيوبيا تتعلق بالملء الثاني لخزان السد خلال الموسم المطري المقبل المنتظر بدايته في يوليو القادم، حيث إن هذا الإجراء سيكون السبيل الوحيد لإثبات حسن نية الجانب الإثيوبي وجديته قبل الدخول في أي مفاوضات جديدة.
وكشفت المصادر عن أن الرسائل المصرية للمبعوث الأمريكي كانت قوية وأكدت على الاستعدادات القائمة بشأن كافة القرارت والخيارات التي يمكن اللجوء إليها حال استمرار التعنت الإثيوبي بشأن الملء الثاني للسد، فضلا عن إبداء المرونة بقبول الدخول في مفاوضات جديدة شرط الالتزام بالثوابت المتعلقة بالهدف من المفاوضات دون التطرق لأي من الأمور التي تعمدت إثيوبيا اثارتها مؤخراً لعدم التوقيع على اتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل السد، ومن ثم إطلاق يدها في إدارة المياه في حوض النيل الشرقي دون اعتبار مصالح الدول الأخرى.
وأكدت المصادر أنه تم رفض كافة المبادارت التي استهدفت احتواء الخلاف بين الدول الثلاثة قبيل الملء الثاني للسد والتي طرحت امكانية التوصل إلى اتفاق جزئي يمكن من خلاله التنسيق وتبادل المعلومات بشأن الملء الثاني لإتمامه من دون إحداث تأثيرات أو ضرر ذو شأن على دولتي المصب، حيث تمسكت القاهرة بموقفها بضرورة ابرام اتفاق شامل، إذ لم تخرج هذه المبادرات عن كونها ضمن المحاولات للإلتفاف عن أي التزامات قانونية بخصوص إدارة وتشغيل السد فيما بعد ومن ثم التحكم في سريان المياه في النيل الشرقي.
ولم يعد الخلاف بين مصر وإثيوبيا والسودان يقتصر على توفير معلومات بشكل مؤقت من خلال إرسال الجداول الزمنية للملء وكميات المياه المطلقة من خلف السد، والتي تحددها إثيوبيا من جانبها فقط لكن مسار المفاوضات السابقة كشف عن خلافات أعمق من ذلك في إدارة المياه في حوض النيل الشرقي بشكل عام في إطار مساعي لاستغلال مياه النهر في مشروعات مستقبلية، حيث طالبت إثيوبيا في الجولات الأخيرة من المفاوضات التي جرت تحت رعاية الإتحاد الإفريقي بحصص من مياه النيل الأزرق.
ورقة حقوق الإنسان
وفقاً للبيان الأمريكي الصادر عقب جولة فيلتمان، فإن ورقة حقوق الإنسان ستكون الكارت الأقوى الذي تستخدمه إدارة الرئيس بايدن ضد ادارة أبي أحمد في إثيوبيا، بجانب النزاع حول سد النهضة كان تركيز المبعوث الأمريكي منصب على قضية التيجراي، مع تدهور الأوضاع الإنسانية في الإقليم واستمرار الانتهاكات التي ترتكب من القوات الإريترية على مرأي ومسمع من الحكومة الإثيوبية الفيدرالية بقيادة أبي أحمد.
يقول البيان الأمريكي: “الفظائع التي ترتكب في تيغراي والحجم الهائل لحالة الطوارئ الإنسانية هي أمر غير مقبول ويجب محاسبة المسؤولين عن خرق وانتهاك حقوق الإنسان”، كما أكد أن :” الأزمة في تيغراي أصبحت تهدّد مصير الإصلاحات السياسية في إثيوبيا”.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية الجديدة تحاول انتهاج سياسة متوازنة بين القاهرة وأديس أبابا تركز على حماية مصالحها بالأساس من خلال تحقيق الهدف الأمريكي بالتصدي للحكومات المارقة التي تنتهك حقوق الإنسان باتباع ممارسات غير ديمقراطية قائمة على التحيز والتميز العنصري والعرقي، فضلاً عن تأمين الملاحة الدولية والمصالح الأمريكية في القرن الأفريقي والبحر الأحمر والشرق الأوسط بتعزيز الشراكات مع مصر والسودان من جانب آخر، وذلك دون إعلان الانحياز لأي طرف من أطراف الأزمة كما كان الحال خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
منذ تولي إدارة بايدن كان ملف حقوق الإنسان محور العلاقات الأمريكية الإثيوبية، ففي اتصالات هاتفية بين وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن مع مسئولين إثيوبيين وعلى رأسهم آبي أحمد، ركزت المطالب الأمريكية على حماية المدنيين ومنع العنف في البلاد وإنهاء الأعمال العدائية وانسحاب أي قوات خارجية من منطقة تيجراي، فضلاً عن المطالبة بالتعاون مع المجتمع الدولي لتسهيل إجراء تحقيقات مستقلة ودولية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان المبلغ عنها في إقليم تيجراي.
اقرأ أيضا:
“تقسيم تيجراي” و”ديكتاتور إريتريا”.. ورقة آبي أحمد لاستمالة السلطة في إثيوبيا
إلى جانب البيت الأبيض، شن الكونجرس الأمريكي هجوماً على إدارة آبي أحمد حيث وصف ما يجرى في إقليم تيجراي بالتطهير العرقي بعد مناقشة عدة تقارير عن انتهاكات حقوق الانسان، وطالب بإرسال قوات حفظ السلام في المنطقة لضمان وصول المساعدات الإنسانية ووقف التهجير المتعمد للمدنين وإعادة اللاجئين.
رغم المواقف المتشددة لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد برفض أي تدخل دولي في أزمة التيجراي ورفضه للوساطة الدولية والإفريقية منذ اندلاع الأزمة في نوفمبر من العام الماضي، والمتمثلة في دعوات الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة بإنهاء المعارك وسحب القوات الأجنبية وحماية المدنيين، إلا أن المواقف الإثيوبية باتت أكثر مرونة أمام المجتمع الدولي بعد التعهد بسحب إريتريا لقواتها المتواجدة على داخل إقليم التيجراي مع تصاعد الغضب الدولي والزخم الإعلامي والاكاديمي دوليا ضد الممارسات غير الإنسانية بحق شعب التيجراي.
عدم الانحياز لكسب ثقة الأطراف الثلاثة
ويظهر عدم التحيز الأمريكي في اقتصار التدخل وتناول قضية سد النهضة من خلال وزارة الخارجية الأمريكية حيث لم يصدر البيت الأبيض أي بيانات أو مواقف للرئيس بايدن في القضية بعد أن كانت واشنطن راعية لمفاوضات استمرت لأربعة أشهر وتم التوصل خلالها لاتفاق شامل حظى بقبول مبدئي من كافة الأطراف حتى انسحبت منه أديس أبابا بشكل مفاجئ.
ويرى مراقبون أنه رغم تعويل مصر رسمياً على الدور الأمريكي في حل الخلافات والموقف المتأزم في سد النهضة بممارسة مزيد من الضغوط على إثيوبيا إلا أن الضغوط التي مارسها الرئيس الأمريكي السابق، ترامب بقطع مساعدات عن إثيوبيا والتنديد بسياستها في ملئ السد بشكل آحادي لم تحقق أي نجاح، بل كانت سبباً في مزيد من التعنت والتشدد في مواقف إثيوبيا بخاصة مع الدعم الذي تتلقاه إثيوبيا من حلفاء آخرين.
كان السفير المصري في واشنطن، معتز زهران طالب في مقال نشره في مجلة فورين بوليسي أمريكا بالتدخل الفوري لحل الأزمة بشأن سد النهضة قائلاً : وحدها الولايات المتحدة من تمتلك النفوذ اللازم لتشجيع إثيوبيا على الانخراط في المفاوضات بحسن نية والامتناع عن أي اجراءات احادية ووقف السعي حول تحقيق مصالح ضيقة اضرت بالمصالح المشروعة لجيرانها”.
وتبقى التداعيات والمخاطر التي يمكن أن تسببها الإدارة الإثيوبية في ملف سد النهضة محرك للسياسة الأمريكية بالدفع من أجل الضغط على الأطراف المتنازعة على حد سواء خوفاً من تأثير هذا النزاع على مصالحها وهو ما كان فيلتمان قد عبر عنه في لقاء له مع مجلة فورين بوليسي عقب توليه مهام المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي حيث شبة أزمة سد النهضة بانهيار سوريا وفوضى الحرب الأهلية وما تبعها من أزمة اللاجئين وتأثيرها على أوروبا، وصعود الجماعات الإرهابية، وهو ما تتضمنه البيان الأمريكي عقب جولته الأولى بالتحذير من التدا عيات السلبية الخطيرة لأي اجراءات إثيوبية تتعلق بالسد من دون التشاور والتوافق مع دولتي المصب.