لم تساند دول الخليج مصر حتى الآن بشكل واضح في أزمتها المتعلقة بسد النهضة. ورغم النفوذ الكبير لتلك الدول في شرق أفريقيا إلا أن السعودية والإمارات الأكبر في الخليج والأكثر نفوذًا في شرق أفريقيا لم ينحازا إلى مصر بشكل واضح. ورغم مقولة “لن يمر حل أزمة السد إلا من بوابة دول الخليج”. لكن الدول الغنية بالنفط صاحبة الكلمة المسموعة في شرق أفريقيا، لم تقدم أي شيئ يذكر لمصر في أزمتها.
الدول الخليجية تمتلك الكثير من أوراق الضغط التي يمكنها حال وجود رغبة سياسية إجبار تلك الدول خاصة إثيوبيا في تقديم تنازلات كثيرة لصالح مصر. حتى أن كثير من تلك دول القرن الأفريقي حاليًا تتنفس بالأموال الخليجية. إذ ساعدتها في مشروعات تنموية ضخمة حدت من البطالة، وساهمت في تحقيق بعضها معدلات نمو هي الأعلى عالميًا.
دول الخليج غير مستعدة للانحياز إلى أي من أطراف الصراع
ويلخص فولد جيورجيس من المعهد الدولي للأمن بأديس أبابا، في حديث مع “دويتشة فيله”، القضية في أن الولايات المتحدة والأوروبيون. كذلك دول الخليج تملك علاقات جيدة مع مصر وإثيوبيا، ومن الواضح أنهم غير مستعدين للانحياز إلى أي من أطراف الصراع.
فهمت الدول الخليجية مبكرًا أهمية منطقة شرق أفريقيا أمنيًا واقتصاديًا لكونها ممرات بحرية تؤمن تصدير ما يقرب من 70% من نفطها إلى دول أوروبا وأمريكا. كما اعتبرته امتدادًا للأمن القومي الخليجي، فتواجدت من بوابة الاستثمارات أو القواعد العسكرية في جيبوتي لتأمين مصالحها.
وأمام تزايد الدور الخليجي الذي استطاع أن يصبح أكثر قوة من الدورين التركي والإسرائيلي في تلك المنطقة. نفضت مصر أيديها في عهد نظام مبارك من التواجد الملحوظ هناك. خاصة بعد محاولة اغتيال حسني مبارك في التسعينيات. وعلى مدار عقدين أصبح الخليج لاعبًا كبيرًا في تلك المنطقة.
وتعتبر الدول الخليجية التواجد في شرق أفريقيا ضروري لمواجهة النفوذ الإيراني وتحجيم النفوذ الشيعي هناك. والحيلولة دون استهداف خطوط الملاحة البحرية في القرن الأفريقي، عبر صور متباينة ما بين التمويل المالي كالسعودية. أو الحصول على تفويض إدارة موانئ المنطقة مثل موانئ دبي، وباتت تلك المنطقة حاليًا موطن استقطاب لإنشاء قواعد عسكرية خليجية.
الخليج.. المنفعة الاقتصادية “المحرك الرئيسي”
تتحدث تقارير سياسية عن وجود خلافات بين مصر والخليج العربي بشأن بعض الملفات الإقليمية مثل ليبيا. وأنها السبب في عدم إصدار الخليج موقفًا صارمًا يدعم حقوق مصر التاريخية في نهر النيل. لكن العلاقات الممتدة بين الطرفين تثبت أنهما طوال التاريخ لديهم خلافات في ملفات بعينها. لكن لم يحل ذلك دون دعم مباشر بينهما في القضايا المصيرية إذن ما الذي تغير؟
أصبحت المنفعة الاقتصادية هي المحرك الرئيسي في قراراتها السياسة والاقتصادية دون اعتبارات أخرى. فالنسبة لها منطقة الشرق الأفريقي مورد اقتصادي وسياسي وأمني ولا يمكن التخلي عنها والانحياز لصالح مصر التي تعتبر أيضًا أكبر دولة تتلقى استثمارات خليجية. كما أنها الأكبر استقبالاً لعمالتها عالميًا.
ربما يكون المنفعة أيضًا السر في مواقف الخليج غير القوية مما يحدث في قطاع غزة حاليًا. في ظل سعي الخليج للتطبيع مع إسرائيل والمكاسب الاقتصادية الكبيرة التي تنجم عن ذلك. في مجال السياحة والسفر ونقل التكنولوجيا خاصة لدولة مثل الإمارات.
تأمين الغذاء من المصدر الأفريقي لـ”الخليج”
ويحكم التواجد الخليجي في شرق أفريقيا منافع سياسية واقتصادية في الوقت ذاته. فالمنطقة مليئة بالأراضي الزراعية الخصبة التي يمكنها تحقيق الأمن الغذائي للخليج خاصة أن دولها تتيح حق تملك الأراضي لمدة 99 عامًا وتمنح إعفاءات ضريبة كبيرة. علاوة على قربها من منطقة الخليج يجعلها أحد عناصر الأمن القومي الخاص بها. وزادت تلك الرؤية كثيرًا بعد حرب اليمن التي هددت حركة السفن في الخليج.
ساهمت أزمة كورونا في تغير موقف الخليج العربي لتصبح مصلحته الخاصة فوق كل اعتبار. فتأمين الغذاء على المدى البعيد صار الهدف الأول، وطالما أن مصر ليس لديها كمية الأراضي الصالحة للزراعة مثل الشرق الأفريقي. ستكون بوصلة الاستثمار موجه لصالح الأخيرة والسياسة أيضًا.
ووفقًا لمركز الخليج للدراسات الإستراتيجية، فإن منطقة البحر الأحمر اكتسبت أهمية جيوسياسية كبيرة، نظرًا إلى أنه ملتقى ثلاثي قارات العالم القديم. وكونه حلقة الوصل بين ثلاث مناطق إقليمية مهمة في العالم. وهي: القرن الأفريقي ومنطقة الخليج والشرق الأوسط. الأمر الذي زاد من حدة الاستقطاب بين دولها خاصة السعودية وقطر والإمارات و التنافس القوي بينها على اقتسام الموارد المتاحة والاستثمار فيها وبسط النفوذ.
لا ترى دول الخليج دورها في الشرق الأفريقي مناكفة لدولة أخرى، لكن الواقع يثبت غير ذلك. قبل سنوات لمنطقة تصفية حسابات مع قطر التي تملك علاقات واسعة مع الصومال وإثيوبيا واستغلت القرن الأفريقي للعمل على كسر العزلة الخليجية المفروضة عليها. مع تنامي نفوذ قناتها الجزيرة في توصيل صوت تلك المنطقة دوليًا وبالتالي أصبحت شريكًا وآلة إعلامية لتوصيل صوتها في الوقت ذاته.
هيمنة سعودية
من بين الدول الخليجية كلها، تمتلك السعودية نفوذا كبيرًا في إثيوبيا وتعتبرها الدجاجة التي تبيض ذهبًا. وخلال السنوات الخمس الأخيرة توصي الرياض مستثمريها بضخ أموالهم في شرايينها وعلى مدار سبع سنوات توقع اتفاقيات تجارية شبه سنوية لتوسيع قاعدة التعاون والاستثمار. بداية من اتفاقية تجنب الإزدواج الضريبي وبروتوكولات تعاون بقيمة 160 مليون دولار، ولجان مشتركة للتعاون الخارجي والأمني والعلمي والثقافي والاقتصادي.
يمثل صندوقا “السعودي للتنمية” و”الاستثمارات العامة” الذراعين الطولى للسعودية في الشرق الأفريقي. الأخير قدم خلال 40 عامًا قروضُا ومنحُا عددها 580 لأكثر من 45 دولة، بقيمة تقترب من 13.5 مليار دولار. بينما دشن مبادرة بـ200 مليون يورو تعادل مليار ريال سعودي لتطوير دول الساحل بالمشاركة مع وكالة التنمية الفرنسية. كذلك لدى السعودية حاليًا مشروعات وقروض ومنح مستقبلية تتجاوز قيمتها مليار دولار خلال العام الحالي.
300 مستثمر سعودي في إثيوبيا
بينما لعب الصندوق السعودي للتنمية دورًا في دعم الاستقرار السياسي، عبر ضخم أموال لتنمية المناطق النائية عن سلطة الدولة المركزية. وخلال عقد واحد حصل أكثر من 300 مستثمر سعودي على رخص استثمارية في إثيوبيا. وتأكدت العلافة الوثيقة بين الطرفين على جميع الأصعدة حينما زار وفد سعودي منطقة سد النهضة قبل خمسة أعوام.
الدعم السعودي المستمر ساهم في تقليص نسبة البطالة في إثيوبيا بتوفير آلاف الوظائق في مشروعات 70 شركة بإجمالي 300 مشروع غالبيتها في الأمن الغذائي. بجانب نحو 16 اتفاية لاستصلاح أراضي زراعية وتوفير شبكات الطاقة حتى أصبحت السعودية وحدها. وتتحدث الرياض كثيرًا حول عدم وجود علاقة بينها وبين أزمة سد النهضة.
يتكرر الأمر مع جيبوتي التي ترتبط السعودية معها بشبكة علاقات أخرها 3 مذكرات لتمويل 3 مشاريع أحدها حول البرنامج السعودي لحفر الآبار والتنمية. بينما يبلغ إجمالي القروض والمنح المقدمة عن طريق الصندوق السعودي للتنمية لتمويل المشاريع في جيبوتي نحو 1.4 مليار ريال سعودي. أي ما يعادل 374 مليون دولار.
النفوذ الكبير للسعودية مكنها من إجبار زعيمي إثيوبيا وإريتريا آبي أحمد وإسياس أفورقي على توقيع اتفاق سلام. أنهى حالة الحرب بينهما استمرت أكثر من 20 عامًا لحماية أمن البحر الأحمر والموانئ على الضفة الأخرى. كما سعت نحو إعادة إرتيريا إلى رفع العقوبات عنه مقابل انحيازه لتحالف المملكة في حرب اليمن. ولا يختلف الأمر بالنسبة للصومال وقدمت قروضا بنحو ي 289 مليون بدولا ر أخرها 50 مليون دولار لدعم ميزانية الدولة.
تنافس قطري ـ إماراتي
تتواجد الإمارات العربية في شرق أفريقيا عبر شركة موانئ دبي العالمية التي أنشأت ميناءً ضخم في جيبوتي وآخر في “صومالي لاند”. التي أعلنت “الاستقلال” عن الصومال من جانب واحد. كذلك ساهمت أيضًا في إنهاء الحرب بين إريتريا وإثيوبيا من أجل منح الأخيرة فرصة لكي يكون لها منفذًا على البحر للتصدير.
يعتبر الاتفاق ضربة موجعة لجيبوتي التي لم تتخذ موقفًا مؤيدًا لتحركات أبو ظبي في منطقة القرن الإفريقي. منذ أن رجعت حكومة جيبوتي في اتفاقها مع موانئ دبي على محطة دوراليه التي صممتها الشركة الإماراتية واستولت علي حكومة الدولة الأفريقية الصغيرة. ووصل الأمر إلى محكمة أوروبية للتحكيم الدولي.
ودعمت الإمارات عملية السلام بين إثيوبيا وإريتريا بضخ حوالي 3 مليارات دولار كمساعدات واستثمارات إلى إثيوبيا. وتمثل موانئ دبي العالمية رأس الحرب في التحركات الإماراتية بمنطقة الشرق الأفريقي التي تسعى لتندشين مواني. كما تسعى حاليًا لمد نشاطها لأوغندا ورواندا التي تريدان منافذ بحرية، وسط تقارير صحفية تحدثت عن تأسيس ما لا يقل عن 10 موانئ في تلك المنطقة.
إثيوبيا تحظى بنصيب الأسد
وتحظى إثيوبيا أيضًا نصيب الأسد من الاستثمارات والاهتمام الإماراتي، بسلسلة اتفاقيات منذ عام 2016 لدعم قطاع الزراعة والماشية. وتعمل أديس بابا على إنشاء أربع مناطق صناعية متخصصة بخبرة إماراتية وهي (ديرداوا، أواسا، كومبولتشا، أديس آبابا).
وفي الصومال، اقتنصت الإمارات تعاقدات مع المناطق ذاتية الحكم أو التي أعلنت انفصالها من جانب واحد. فقدمت 336 مليون دولار من أجل توسعة ميناء بوصاصو في شمال العاصمة مقديشيو، بعد عامين من الفوز بإدارة ميناء بربرة في منطقة “صوماليلاند”. بتكلفة قيمتها 440 مليون دولار.
في المقابل، يدعم رأس المال القطري التركي الحكومة المركزية الصومالية بإدارة ميناء مقديشيو منذ سبعة أعوام وبناء طرق ومدارس ومستشفيات. بينما ظهر الخلاف بين أبو ظبي وحكومة الصومال المركزية عندما تعرضت طائرة إماراتية بمطار مقديشيو لهجوم مجهولين.
الدعم الخليجي لإريتريا
وقدم صندوق أبوظبي للتنمية قبل أعوام اتفاقية قرض بقيمة 183 مليون درهم مع حكومة إريتريا، للمساهمة في تمويل مشاريع تنموية وحيوية تخدم اقتصاد البلاد. بجانب مشروعات لتوليد ونقل الكهرباء في أرتيريا ومشروعات البنية التحتية عام 2009. كما تولت بعدها المنح ما غير الموقف الإريتري كثيرًا بشأن قطر. وصولًا إلى اتهام الأخيرة بالتورط في مخطط لزعزعة استقرار إريتريا وبث الفتنة داخل المجتمع وتبني مخطط تخريبي داخل البلاد وشرقي السودان. من خلال تأجيج المواجهات العرقية في بورتسودان، باستخدام عناصر من جماعة الإخوان.
لم تترك قطر أيضًا للإمارات والسعودية الانفراد بإثيوبيا فدخلت مع تركيا في شراكان اقتصادية وقدمتا دعمًا للاحتياطي النقدي الإثيوبي يعادل 3 مليارات دولار. بجانب وديعة وضعها البنك المركزي الليبي أبان سيطرة حكومة الوفاق المؤيدة لتركيا على طرابلس وقيمتها مليار دولار. كما أطلقت قطر 4 مشاريع استثمارية في أثيوبيا لبناء مركز لمكافحة الملاريا ومصانع للأسمنت والسكر، واستصلاح أراضي زراعية.
يمثل الحضور الكويتي الأقل في منطقة شرق إفريقيا. فالكــــويت لديها ثلاثة مشاريع رئيسية في إثيوبيا بقيمة 200 مليون دولار. كذلك مشاريع استثمارية في الصومال وجيبوتي. كما تعمل شركة “أجيليتي” الكويتية العاملة في قطاع الموانئ في نحو 11 دزلة إفريقية حاليًا.
لا تلعب دول الخليج منفردة في تلك المنطقة، فالصراع الدولي على أشده أيضًا بداية من الصين. إذ تعزز نفوذها قبل عقددين مشارع تنموية ومساعدات غذائية بدولة جيبوتي والصومال وتنموية في إثيوبيا. ولديها استثمارات تصل إلى 222 مليار دولار. كما توجد إسرائيل التي تعتبرها يعت إليها لكسر عزلتها في محيطها العربي. لكن على مدار السنوات الأخيرة أصبح الخليج هو الأمر الناهي في المنطقة لاعتماد على الدعم والمساعدات. أكثر من الصين التي تتدخل عبر الاستثمار ذو العائد فليس لديها ثقافة تقديم الدعم دون عائد.