يقول جون رولز في محاضراته عن تاريخ الفلسفة السياسية إن “أي مدرسة فلسفية رئيسية، سواء في الفكر السياسي أو في غيره، تؤسس نفسها غالبًا على أفكار بديهية بعينها، وتتطلب تفصيل وتطوير هذه الأفكار؛ وستجد كتابًا متنوعين عبر الزمن يقومون بذلك بطرق مختلفة، ومن ثم تنشأ تنويعات مختلفة.”
الفكرة البديهية لمدرسة العقد الاجتماعي، كما يرى رولز هي فكرة “الاتفاق”، تحديدًا الاتفاق بين أشخاص هم على الأقل عقلانيون، واتفاقهم على الطريقة التي يُحكمون بها وكما رأينا في المقالين السابقين، طور كل من توماس هوبز وجون لوك هذه الفكرة البسيطة بطريقتين مختلفتين تمامًا إلى حد ربما التناقض بين النتائج التي توصل إليها كل واحد منهما.
في حالة هوبز كانت الإجابة هي التسليم بشرعية الحكم المطلق لصاحب/ممارس سيادة، دون اهتمام بالطريقة التي وصل بها إلى السلطة. أما حالة لوك كانت الإجابة بدخول الأشخاص في مجتمع سياسي ينشئ نظاما سياسيا له شروط محددة لاستمراره.
في المقابل، الفكرة البديهية المركزية للمدرسة النفعية هي فكرة المصلحة العامة، أو الرفاه (حرفيا العيش الحسن) العام للمجتمع، أو الصالح العام. وهي جميعا مصطلحات تشير بشكل تقريبي للمعنى نفسه. بمعنى أوضح:
في هذه النظرة يكون لدينا مبرر لدعم حكومة أو دعم نظام، بصفة عامة، إذا ما كان استمرار وجودها وفعاليتها تعزز رفاه الناس، أو قد يؤدي إلى رفاه أكثر أو إلى عيش-حسن أكثر مما هو في حال أي نظام آخر يقام كبديل لها في ذلك الحين.
نشأة المدرسة النفعية لا يمكن فصلها عن تطورين رئيسيين في القرن الثامن عشر هما حركة التنوير والتنظير للرأسمالية. ليست مصادفة أن يكون الشخصان الأبرز في بدايات هذين التطورين أسكتلنديين هما ديفيد هيوم وآدم سميث؛ ففي أسكتلندا نشأت في القرن الثامن عشر حركة ثقافية فلسفية وعلمية وأدبية، متميزة بشكل خاص، استمرت طيلة هذا القرن.
وفي حين نُظر إليها لبعض الوقت على أنها إحدى التجليات المحلية لحركة التنوير الأوروبية بصفة عامة، ومن ثم سميت بحركة التنوير الأسكتلندية، فحديثًا أقر المؤرخون أن هذه الحركة كان لها طابعها الخاص المستقل والمختلف في أمور أساسية مهمة عن حركة التنوير كما عرفتها القارة الأوروبية في فرنسا وألمانيا بصفة خاصة، وإلى حد كبير كان لحركة التنوير الأسكتلندية أثر لن يمحى من عالمنا الحديث، بفضل فلاسفة وأدباء وعلماء مثل هيوم، وسميث، وجيمس وات، وميل، وغيرهم.
واحدة من الخصائص المميزة للتنوير الأسكتلندي هو الوحدة مع التنوع، ففي حين عمل رواد هذه الحركة على مجالات مختلفة ومتباعدة إلا أنهم طوروا قواسم مشتركة لم يكن السبب فيها هو الوحدة الجغرافية أو انتمائهم جميعًا لبلد واحد فقط، ولكن لأنهم في معظمهم جمعتهم روابط الصداقة والمعرفة ببعضهم عن قرب، مما يمنحهم كمجموعة هذا الطابع الجديد حينها للحركة الاجتماعية الثقافية. فبطريقة أو بأخرى كان للتفاعل والحوار المستمر لأفراد هذه المجموعة من المفكرين والعلماء فيما بينهم، أثر حاسم فيما أنتجه كل منهم في مجاله، مع عدم إغفال التميز الفردي الذي جعل لكل منهم مكانه الخاص به في التاريخ.
السياق السياسي وحركة التنوير الأسكتلندية
لا يمكننا إغفال أثر السياق السياسي في نشأة هذه الحركة أو في طابعها الخاص. فأسكتلندا في بداية القرن الثامن عشر كانت تمر بأيامها الأخيرة كمملكة أو وحدة سياسية مستقلة.
كانت كل من إنجلترا وأسكتلندا طوال القرن السابق يجمعهما أن لهما نفس الملك، منذ اعتلى جيمس السادس ملك أسكتلندا، عرش إنجلترا باسم جيمس الأول. مع ذلك كانت المملكتان وحدتين سياسيتين مستقلتين عن بعضهما البعض، وبصفة خاصة كان لأسكتلندا برلمانها الخاص. كان لهذا البرلمان خلال أعوام القرن السابع عشر المضطربة، والمواجهات المتوالية بين ملوك أسرة ستيوارت ونبلاء وعامة شعوب الأراضي التي حكموها، دورًا رئيسيًا في بلورة هوية قومية مستقلة لإسكتلندا. مع الإطاحة بآخر ملوك أسرة ستيوارت، جيمس الثاني (السابع في أسكتلندا)، كان تطوير العلاقة بين البلدين يحتاج إلى شكل من الوحدة أكثر ملاءمة للعصر الجديد البادئ في التشكل، والذي لم يعد فيه الناس ينظرون إلى أنفسهم كرعايا لملوك يستمدون شرعيتهم فقط من ميراثهم لملكية أراض مختلفة.
كانت الجزر البريطانية في الواقع رائدة في تطوير مفهوم القومية، وفهم العلاقة بين الحاكم والمحكومين على أنها علاقة بين شخص يستمد سلطته من رضا وموافقة كيان جديد هو “الشعب”، وليس نتيجة انصياع مجموعات متنوعة من الطوائف والجماعات البشرية، لا يربطها ما هو أكثر من الوحدة الجغرافية، لغلبة وسيطرة شخص أو أسرة أو جماعة بعينها. ولذلك عندما أنشئت الوحدة بين إنجلترا وأسكتلندا على النمط الجديد، استدعى ذلك تفاوض ممثلي البلدين، الذين انتهوا إلى توقيع اتفاقية الوحدة في عام 1707 لتنشأ المملكة المتحدة.
مع نشأة المملكة المتحدة فقدت أسكتلندا برلمانها، ومن ثم شعر الأسكتلنديون أن هويتهم المستقلة معرضة بدورها للذوبان في الهوية الناشئة لشركائهم الجدد في الوطن الموحد. هذا الشعور إلى جانب أن أسكتلندا ومدنها كانت في ذلك الحين تبدو متأخرة في كثير من مظاهر الحياة المدنية المادية عن غيرها من بلدان أوروبا وخاصة عن الجارة الجنوبية، ربما شكلا بعضًا من العوامل التي أسهمت في تحفيز رغبة رواد التنوير الأسكتلندي في السعي في البحث عن سبل التقدم والتجديد لكل من الحياة المادية والاقتصادية والحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. كان أيضًا لعلم إسحاق نيوتن وفلسفته وكذلك المنهج العلمي كما شرحه فرانسيس بيكون، دورا هاما في توجيه رواد هذه الحركة نحو تبني تصور “طبيعاني”، بمعنى أنه تصور قائم على الإيمان بأن لكل شيء قوانين (طبيعية) تحكمه، هذه القوانين ناشئة عن الطبيعة الثابتة للأشياء وتفاعلاتها التي تحكمها أيضا قوانين ثابتة. سعى رواد التنوير الأسكتلندي للكشف عن القوانين الحاكمة في كل مجال بحثوا فيه، بما في ذلك مجالات فلسفة الأخلاق والنظرية السياسية والعلوم الاجتماعية.
ديفيد هيوم
لا يمكن بأي حال المبالغة في تقدير أهمية ديفيد هيوم، فهو بلا شك أحد أهم الفلاسفة على مر التاريخ، وهو من المؤسسين للفلسفة الحديثة بصفة خاصة، ممن وجهوا هذه الفلسفة ليكون موضع اهتمامها الرئيسي هو نظرية المعرفة؛ أي البحث في إمكانية وكيفية وصحة معرفتنا بالعالم خارج عقولنا. وإذا ما كان بإمكاننا القول بأن الفلسفة الحديثة منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم هي بالتأكيد، بكل تنويعاتها ومدارسها، لم تخرج مطلقا عن عباءة إيمانويل كانط، فكانت إما تطويرا لفلسفته أو تطويرا لفلسفة معارضة لها، فأهمية هيوم وأثره الباقي تتمثل في اعتراف كانط بأن نقطة التحول الرئيسية في حياته العقلية كانت في لقائه بأعمال هيوم التي “أيقظته من نعاسه” العقلي، أو بمصطلح أكثر دقة: الدوجمائي.
في الوقت الذي شكل فيه هيوم أفكاره السياسية كانت السياسة الداخلية للمملكة المتحدة يتقاسم السيطرة عليها الحزبان الذان ولدا في خضم الصراعات التي شهدها القرن السابع عشر، وكلاهما في الواقع ظل على تمسكه بالمبادئ التي خاض على أساسها هذا الصراع بالرغم من أن مواقفهما العملية قد تغيرت أكثر من مرة حسب الظروف، وفي بعض الأحيان أدت تلك الظروف بالحزبين المتناقضين أيديولوجيا إلى التعاون لتحقيق هدف واحد. كان الحزب الأول (التوريز Tories) يتمسك بنظرية الحق الإلهي للملوك؛ الملك هو ظل الله على الأرض ومن ثم ترقى معارضته إلى مقام التجديف والكفر، في المقابل ظل الحزب الثاني (الويجز Whigs) متمسك بنظرية العقد الاجتماعي التي طورها جون لوك دفاعا عن موقف هذا الحزب في مواجهته ضد تشارلز الثاني وجيمس الثاني، والتي تقوم على أن شرعية الحكم تشترط رضا المحكومين الذين لهم الحق في سحبها متى خرج الحاكم على القواعد المقررة التي تقيد سلطته.
موقف هيوم أولًا كان يعتمد على مبدأ الحياد الفكري، فهو يرى أن الفيلسوف بالضرورة ليست له انحيازات سياسية حزبية، وإن كان له مثل هذه الانحيازات فهو بذلك يتخلى عن صفة الفيلسوف. من موقع الفيلسوف هذا يرى هيوم في مقاله “عن العقد الأصلي”، أن موقفي التوريز والويجز كلاهما له قدر من الوجاهة، أو بتعبيره:
سأبادر بتأكيد، أن هاتان المنظومتان للمبادئ التأملية، كلاهما عادل؛ وإن لم يكن بالمعنى الذي يقصده الحزبان: وأن كلا من مخططي العواقب العملية حصيف؛ وإن لم يكن في الحد الأقصى الذي بادر كل حزب، في مواجهة الآخر، بحملها إليه.
في العبارة السابقة آثرت استخدام الترجمة الحرفية “المبادئ التأملية speculative principles”، مع عدم وضوحها بالعربية بالقدر الكافي لأهميتها. فهيوم كان يرى أن الفكر السياسي، الذي عبر عنه المدافعون عن وجهتي نظر التوريز والويجز، كان فكرا تجريديا نظريا قائم على التأمل العقلي والاستنتاج من التجريدات النظرية. ذلك كله في مقابل تصوره لضرورة بناء نقد هذه المواقف والنظرية البديلة لها على المنهج التجريبي العلمي. وينبغي ألا نفسر مفهوم التجريب العلمي عند هيوم وفق ما نفهمه به في وقتنا الحاضر، ففي عهد هيوم كان المقصود بالمنهج العلمي التجريبي يشمل التجربة والمشاهدة العملية اليومية، وليس بالضرورة التجربة العلمية ذات الضوابط المحددة والقائمة على أدوات مثل الإحصاء الكمي وجمع البيانات وتصنيفها. على أية حال كان تصور هيوم مبني على البدء من الواقع ومعطياته وما يمكننا استنتاجه بتحليلها، في مقابل البدء بمبادئ عقلية مثبتة بالمنطق العقلي وحده، واستنباط مبادئ عملية منها.
في نقده لموقف التوريز يقول هيوم ساخرا، إن بإمكان الملوك الحكم بالحق الإلهي، ولكنهم حينها لن يكونوا مختلفين عن “اللص الذي يسرق محفظتي”، ما دامت كل سلطة (قدرة على الفعل) مستمدة من الله، فكل الأفعال مبررة. هذا النقد المختصر والساخر هو كل ما يقدمه هيوم فيما يخص مفهوم الحق الإلهي للملوك، ولكنه عندما ينتقل إلى نقد الموقف الذي عبر عنه لوك، دون أن يستخدم اسمه صراحة، يكرس وقتا ومساحة أكبر لتناوله بالتفصيل. فهو أولا يتعامل مع تصور إمكانية الحالة الأصلية التي يكون فيها البشر متساوون من حيث القوة والسلطة، وهو يرى أن الحاجة إلى التراضي في مثل هذه الحالة يبدو منطقيا، ولكنه في المقابل يرى أنه حتى مع افتراض هذه الحال، فلم يكن بإمكان الناس حينها إدراك مفهوم التراضي نفسه، وهو يدلل على ذلك بأن في الواقع العملي لا نرى في أي مكان بلدا يقيم أهله الحكم فيه على أساس رضا الشعب بحكامه والتفويض المشروط لهم، وإنما نرى فقط طغاة يعاملون رعاياهم على أنهم عبيد أو أقنان مملوكون لهم بدرجة أو بأخرى. إن أفكارا مثل تلك التي يروج لها لوك والويجز كما يرى هيوم، مرفوضة بالفعل من قبل الناس ومشرعيهم في كل مكان بحيث أن الأخيرين لن يترددوا في إخراس من يعبر عن مثل تلك الآراء بوصفه متمردا خطرا على السلم الأهلي أو مخرفا أو مجنونا. وفي المحصلة يرى هيوم أنه إذا كان يمكن للتراضي أن يكون له الأثر الذي يتصوره لوك، فلابد من أن يكون معترفا به ومفهوما كأساس ملزم للجميع، ولكن الحقيقة أن لا أحد يعترف بهذا المبدأ أو يقبل به.
ينبغي هنا أن نوضح أن هيوم لا ينكر مبدأ التراضي في حد ذاته، بل إنه يؤكد أنه (إن تحقق) فهو بالتأكيد الأكثر عدلا بين الأسس التي يمكن أن يقام عليها الحكم. ما يعني هيوم في نقده لهذا المبدأ هو عدم واقعيته وعدم إمكان تحققه في ظل الظروف المعاصرة له كما يراها، وكذلك في ظل الظروف الافتراضية لحالة الطبيعة، وحتى إن أمكن تصور أن الناس في هذه الحالة قد أنشأوا نظاما للحكم طواعية وبالتراضي ووضعوا لذلك عقدا اجتماعيا أو سياسيا، فهذا العقد ليس ملزما لأبنائهم، طالما لم يقبلوا به، بل ولم يعلموا به من الأساس. على جانب آخر يعتقد هيوم أن مفهوم العقد الاجتماعي في الأساس يفترض أن يكون لدى الناس على حد سواء مفهوما واضحا للعدالة لم يكن يوما متوافرا، ومن ثم فهو يحمل الطبيعة البشرية فوق طاقتها في اعتقاد. في المقابل فإن الواقع لا يمنح الناس العاديين حرية الرضا إن لم يكن يمنحهم حرية الرفض من الأساس، وافتراض أن الفلاحين والعمال والبسطاء يظنون في أنفسهم القدرة على قبول أو رفض النظام الحاكمة لهم هو أشبه بتخيل أن مسافرا على سفينة، صحا من نومه ليجد نفسه على متنها، يمكنه الاختيار بين الرضا بسلطة قبطان السفين وبين أن يُلقى به في البحر. وأخيرا يرى هيوم أن افتراض أن حكومات عالمنا قائمة على أساس رضا رعاياها يمنحها شرفا لا تستحقه ولا هي حتى تتوقعه أو ترغب به.
عندما ينتقل هيوم إلى ما يسميه جون رولز نقده (الفلسفي) لأفكار لوك، يبدأ فعليا في تقديم التصورات الخاصة به. فهو أولا يفرق بين نوعين من الواجبات والالتزامات، الأول طبيعي مثل حبنا لأبنائنا وامتناننا لمن يحسن إلينا، والثاني (اصطناعي) وهو يعني بذلك حسب لغة عصره ما هو عقلاني، أو توجبه الضرورات التي ندركها بعقولنا، لا تلك التي تنشأ عن مشاعرنا الطبيعية. تحت هذا النوع يصنف هيوم كل من واجبات العدالة، والوفاء بالوعد، والواجب المدني بالولاء للحكومة. هذه الإلزامات الاصطناعية يمكن تفسيرها وتبريرها حسب مفهوم “المنفعة” أي أن ما يفرضها هو “الضرورات والمصالح العامة للمجتمع.”
هيوم إذن يرى أن المبادئ التي يقيم لوك عليها فكرة التراضي التعاقدي، وهي الإيمان بالعدالة والوفاء بالوعد والولاء للحكومة، تتأسس جميعها على مفهوم المنفعة، ومن ثم فلا داعي أصلا للخطوات الإضافية التي ينشئها لوك للقول بأن الحكم يقوم على أساس عقد يتراضى أطرافه، ويمكن الاكتفاء بالقول بأنه يقوم على مبدأ المنفعة المتحققة بوجود الحكومة، والتي لا يمكن تحقيقها في غيابها. هذا النقد، الذي كان له أثر كبير وبعيد المدى خاصة في الفكر السياسي البريطاني، كان في بعضه منطقيا ومقبولا في حين كان في جوانب كثيرة منه مجحفا حيث نسب إلى لوك أمورا لم يقل بها، فيما تجاهل كثيرا من النقاط الأساسية في أفكاره. ولكن تلك التفاصيل على أهميتها لا تعنينا كثيرا في عرضنا المحتصر والسريع هذا. ما يعنينا هو أن هيوم عندما انتقد فكرة العقد الاجتماعي كما قدمها لوك، نقل النقاش النظري حول شرعية الحكم إلى أرضية جديدة على مستويين، الأول هو مستوى مصادر نقدنا وأفكارنا حول هذه الشرعية، فقد أعاد هذه المصادر إلى أرض الواقع العملي المشاهد يوميا. والثاني هو مستوى الأساس الذي تقوم عليه الشرعية، فنقله من إطار الشرعية القانونية، الغالبة على أفكار لوك، إلى إطار المنفعة والمصلحة العملية.
ستبقى المدرسة النفعية التي كان هيوم أحد أهم منشئيها هي المسيطرة على الفكر السياسي الأنجلوساكسوني (في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية) طوال قرون تالية وحتى عصرنا هذا، فيما سيتاح لمدارس أخرى بما في ذلك مدرسة العقد الاجتماعي فرضة تقديم تطوير مختلف لأفكارها في القارة الأوروبية. ولكن هذا لا يعني بأي حال أن أيا من هذه المدارس الفكرية كان منفصلا بشكل تام عن الآخرين، فثمة دائما بناء متبادل على أسس مستعارة بين هذه المدارس، يختفي ذلك وراء ستار الاعتياد، فبعض أكثر الأفكار السياسية انتشارا يكاد يشترك الجميع إما في تبنيه أو استخدامه بقدر أو بآخر دون وضعه في سياق مدرسة بعينها، رغم أنها نشأت في هذا السياق، وعادة لا يمكن فهمها بوضوح إلا فيه. هذه نقطة رئيسية في أهداف هذه السلسلة من المقالات، وهو استعادة الأفكار، التي تبدو اليوم بديهية كأنما هي خارج أي سياق، إلى سياقاتها التاريخية والفكرية التي نشأت فيها. هذا لا يعني أنه لا يمكن تركيب وتوفيق هذه الأفكار بطرق مختلفة، وإنما يعني أن نجاح هذا التركيب والتوفيق يعتمد على فهم هذا الأفكار والتعرف على حدودها الحقيقية من خلال سياقها.
لقراءة سلسلة تامر موافي عن تجديد الفكر السياسي: