اغتيالات لنشطاء تتزامن مع دعوات لمقاطعة الانتخابات المرتقبة، وعمليات اختطاف وتنكيل بالمتظاهرين، بعضهم لا يزال مفقودًا. فماذا يحدث في العراق الجريح؟
السبت الماضي، اغتيل الناشط العراقي هاشم المشهداني، رئيس “رابطة شباب الطارمية”، على يد مسلحين مجهولين، ولا يزال البحث جاريًا عنهم.
القاتل معروف بالمواقف
هذا الاغتيال وهؤلاء المجهولون نسخة مكررة، منذ انتفاضة تشرين. يعرف المجتمع جيدًا الضحية بهويته ومواقفه المناهضة للميليشيات الموالية لإيران. كما يعرف المجتمع العراقي الجاني بمواقفه المضادة لخط التظاهرات.
ونشر رئيس تحالف عزم، خميس الخنجر، أحد التحالفات المشاركة في الانتخابات المقبلة تغريدة على “تويتر” قال فيها: “اغتيال هاشم المشهداني عضو تحالف عزم في بغداد، رسالة خطيرة تؤشر ضرورة حماية العملية الديمقراطية وأصحاب الفكر والنشاط الجماهيري من السلاح المنفلت والمجاميع الإرهابية”.
اغتيال هاشم المشهداني عضو تحالف #عزم في #بغداد ؛ رسالة خطيرة تؤشر ضرورة حماية العملية الديمقراطية واصحاب الفكر والنشاط الجماهيري من السلاح المنفلت والمجاميع الإرهابية.
خالص التعازي لذوي الفقيد، وننتظر القصاص العادل من القتلة وممّن دفعهم. #عزم pic.twitter.com/DSk8OkvV1R— خميس الخنجر (@khameskhanjar) May 22, 2021
سبق ذلك تعرض الصحافي العراقي أحمد حسن لمحاولة اغتيال بالرصاص في الديوانية. وذلك بعد 24 ساعة على مقتل الناشط المناهض للحكومة إيهاب الوزني بهجوم مماثل في كربلاء، بحسب مصادر طبية وشهود.
وقتل الوزني، رئيس تنسيقية الاحتجاجات في كربلاء، برصاص مسلّحين أمام منزله بمسدسات مزوّدة بكواتم للصوت. وكان الوزني من أبرز الأصوات المناهضة للفساد، وسوء إدارة الدولة والمنادية بالحدّ من نفوذ إيران والجماعات المسلحة في المدينة.
وأحدث اغتيال الوزني صدمةً لمؤيّدي “ثورة تشرين” الذين خرجوا في تظاهرات احتجاجية في كربلاء ومدن جنوبية أخرى، بينها الديوانية والناصرية.
اختفاء القتلة
ولم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن اغتيال أي من هؤلاء النشطاء، وهو أمر تكرّر في هجمات سابقة اختفى بعدها الفاعلون. وذلك في بلد تفرض فيه فصائل مسلحة سيطرتها على المشهدين السياسي والاقتصاد.
ويتهم النشطاء الميليشيات الموالية لإيران المتنفذة في العراق بالوقوف وراء هذه الاغتيالات. وقال أحد النشطاء خلال فاعلية “إنها مليشيات إيران، اغتالوا إيهاب وسيقتلوننا جميعاً، يهدّدوننا والحكومة صامتة”.
ومنذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في العراق أكتوبر 2019، تعرَّض أكثر من 70 ناشطاً لمحاولة أو عملية اغتيال. في حين اختطف عشرات آخرون بعضهم لفترات قصيرة، وآخرون لم يظهروا حتى الساعة.
دعوات مقاطعة الانتخابات
في ظل الخوف ورائحة الموت التي تحيط بالبلاد تتجدد دعوات المقاطعة للانتخابات المبكرة المقرر إجراؤها في أكتوبر. لكن يشكك المحللون في جدوى هذه المقاطعة، إن لم يقابلها تنظيم حقيقي على الأرض.
النائب المستقيل، وأحد أبرز ناشطي الحراك الاحتجاجي، فائق الشيخ علي، واحد ممن قرروا مقاطعة الانتخابات النيابية. وأعلن تغريدة انسحابه من الانتخابات. ودعا “القوى المدنية وثوار تشرين إلى الانسحاب أيضاً والتهيؤ لإكمال الثورة في الشهور المقبلة ضد إيران وميليشياتها”.
كذلك، طالب حسين الغرابي مؤسس “الحركة الوطنية للبيت العراقي”، أحد التيارات السياسية المنبثقة عن الحركة الاحتجاجية، إلى المقاطعة.
وأكّد لوكالة فرانس برس “قرّرنا تبني معارضة النظام السياسي وممانعة إجراء الانتخابات”، إلى حين معرفة “قتلة شهداء تشرين وبالأخص إيهاب الوزني”.
كما دعا 17 تياراً ومنظمةً منبثقةً عن الحركة الاحتجاجية رسمياً إلى مقاطعة الانتخابات المبكرة. تلك التي وعدت بها حكومة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي؛ إثر توليه السلطة بعد أشهر من الاحتجاجات ضد الفساد والطبقة السياسية.
وأعلنت تلك التيارات في 17 مايو، في بيان مشترك من كربلاء، رفضها “للسلطة القمعية” وعدم السماح “بإجراء انتخابات ما دام السلاح منفلت والاغتيالات مستمرة”. والتي ينسبها ناشطون إلى ميليشيات شيعية، وسط تعاظم نفوذ فصائل مسلحة تحظى بدعم إيران على المشهد السياسي.
العودة إلى الميادين.. من قتلني؟
في ظل دوامة الخوف هذه، دعا ناشطون إلى تظاهرات بدءًا من الغد في بغداد للضغط على الحكومة، لاستكمال التحقيق في عمليات القتل التي وعدت السلطة بمحاكمة مرتكبيها، فيما لايزال فاعلوها مجهولون.
وأغرق نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي بالأسئلة عن قتلة زملائهم. وأطلقوا وسمًا على “تويتر”: “#من_قتلني؟”. ونشروا أيضاً على نطاق واسع صورة تضم مجموعة من أبرز الناشطين الذين جرى اغتيالهم من قبل الميليشيات.
ويدفع هذا المناخ المتوتر إلى التشكيك في شفافية الانتخابات، التي كان يفترض أن تقام في يونيو قبل تأجيلها إلى أكتوبر.
وخلال العام الماضي، اغتيل الناشط العراقي والباحث هشام الهاشمي أمام منزله في بغداد. عقب حديثه عن خلايا الكاتيوشا المحمية من بعض الفصائل الموالية لإيران والأحزاب العراقية.
وفي أغسطس من العام نفسه، اغتال مسلحون أيضًا الناشطة العراقية ريهام يعقوب برفقة صديقة لها. وذلك بسبب موقفها من الميليشيات الإيرانية ودعمها الواضح للتظاهرات في بغداد.
اللافت أن هذه الاغتيالات سبتقها قائمة بأسماء 13 ناشطًا وناشطة وضعوا على قوائم الاغتيال كان من بينها الهاشمي. كشفت عن تلك القائمة وكالة الأنباء الفرنسية، التي تزامنت مع حملات تشويه لسمعة قادة الانتفاضة، والترويج بأنهم عملاء أمريكا، وتسريب صور مُفبركة لبعضهم مجتمعين مع القنصل الأمريكي.
من القتل على الهوية لقمع المناوئين للفساد
يحفل التاريخ العراقي بسجل دموي، يلجأ فيه كافة الفرقاء إلى القتل على الهوية. لكن هذه المرة توحد قوائم الاغتيالات بين كافة الأطياف، والمشترك شباب خرجوا على الفساد. الذي قال عنه أحدهم “إن الأموال التي سرقت ونهبت منذ سقوط نظام صدام حسين كانت كافية لرصف العراق بالذهب”.
ومؤخرًا كشف الرئيس العراقي برهم صالح أن واردات العراق المالية منذ عام 2003 وإلى اليوم بلغت نحو 100 ألف مليار دولار. ولفت إلى أنه بسبب الفساد فقد خسر العراق أموالاً طائلة قدّرها بـ150 مليار دولار، جرى تهريبها إلى الخارج.
وقدم صالح مشروع قانون هو الأول من نوعه بعد سقوط النظام السابق إلى البرلمان، لاسترداد أموال العراق المنهوبة. ودعم المؤسسات المالية والرقابية وتفعيل أدواتها، على حد قوله.
وفي أكتوبر عام 2019، خرج عشرات المدنيين من الشبّان وبعض المؤثرين من شباب التيار المدني والعلماني إلى ساحة التحرير، وسط العاصمة العراقية بغداد. وكانت مطالبهم لا تتجاوز الاستنكار لحادثة الاعتداء على حملة الشهادات العليا، الذين تظاهروا قبل الأول من أكتوبر2019 بأيام، مطالبين بتوظيفهم. إذ تعرضوا إلى الضرب والسحل والرش بالمياه الساخنة، من قبل قوات أمنية على مقربة من مكتب رئيس الوزراء آنذاك عادل عبد المهدي.
انتفاضة ساحة التحرير
ولم تلبث هذه التظاهرات البسيطة في أول أكتوبر أن تحوّلت خلال ساعات إلى حشود ضخمة بالقرب من ساحة التحرير. إذ انضم إلى المحتجين أهالي المنطقة وأصحاب البسطات، والأكشاك التي هدمتها قوات الأمن.
ودفع هذا الأمر القوات العراقية إلى فتح النار، ما أدى إلى سقوط أول قتيل، هو عباس إسماعيل. بعدها ارتقت التظاهرة إلى انتفاضة خلال مراسم تشييعه في اليوم الثاني، وتنتشر في مختلف المناطق العراقية. وهددت بتحولات سياسية وأمنية واجتماعية لا تزال ارتداداتها قائمة إلى اليوم، وسط تأكيد المحتجين على التمسك بحراكهم حتى تحقيق جميع مطالبهم وليس جزءاً منها.
ومنذ ذلك الحين وخلال حكومة عادل عبدالمهدي التي جابهت تلك الاحتجاجات بالعنف المفرط، سقط أكثر من 600 شاب وآلاف الجرحى. وكانت التظاهرات في بغداد والناصرية والبصرة وميسان والنجف وكربلاء والمثنى والديوانية وسواها من المدن ذات الغالبية الشيعية.
لاحقا جرى إسقاط عبدالمهدي وحكومته في أعقاب حرق قنصليات إيران، ومقار الأحزاب الإسلامية. وكادت تقع حرب أهلية لولا تدخلات داخلية ودولية عجلت بإسقاط الحكومة التي توّجت تاريخها بظاهرة الاغتيال السياسي الحكومي الذي سجلته بـ “الطرف الثالث” حتى لا تلقي التهمة على أفرادها ومنتسبيها.
تقارير ودعاوي دولية.. المتهم إيران
وفي أبريل الماضي تقدمت عائلات خمسة عراقيين بشكوى قضائية في باريس ضد رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي. تتّهمه فيها بـ”جرائم ضد الإنسانية وتعذيب وإخفاء قسري” خلال قمع تظاهرات “ثورة أكتوبر”.
ومع مجيء الحكومة الجديدة لم تتغير الأوضاع رغم الوعود السابقة، واستمرت الاغتيالات، ومعها الاتهامات بالفساد، والقمع عبر المسدسات الكاتمة للصوت. والتي يرى النشطاء أنها لا يمكن أن تمر عبر البلاد، دون علم الجهات الرسمية المتواطئة.
بالتوازي، كشف تقرير لبعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق تحت عنوان “حالات الاختطاف والتعذيب والاختفاء القسري في سياق المظاهرات المستمرة في العراق”، وثق المرحلة بين الأول من أكتوبر 2019 وحتى 21 مارس 2020. وتوصل إلى نتيجة واضحة مفادها تورط جهات مسلحة ذات مستويات عالية في التنظيم والموارد والإمكانيات وراء كل هذه الانتهاكات.
ولكن لم يتوصل التقرير الأممي إلى أدلة دامغة على الجهات التي تقف وراء عمليات الاغتيال والخطف والتعذيب. لكن المؤكد بعد هزيمة “داعش” أن الميليشيات المسلحة مثل كتائب حزب الله، والحشد الشعبي، وتنظيمات أخرى وجهت لها أصابع الاتهام.
لذلك يجاهر النائب مثال الألوسي بالقول “اغتيال الناشطين والمتظاهرين يقف خلفه المليشيات المرتبطة والمدعومة من إيران”. ويوافقه السياسي انتفاض قنبر بقوله “إيران مستعدة لقتل أي شيء وكل شيء لإفشال ثورة أكتوبر حتى تحافظ على نفوذها الذي بدأ ينهار”.