قالت الناشطة النسوية إلهام مانع، إنها عادة ما تتجنب استخدام مصطلح “الربيع العربي“. لأن الربيع “الانتفاضات” يستدعي نسائم الياسمين وثمارًا تقطف في الصيف الذي يليه. باستثناء تونس، التي تظل دومًا الاستثناء، ورغم تأرجح التغيير الديمقراطي الحادث فيها، فإن الربيع تحول إلى شتاءٍ قارص في برودته.
وأضافت في مداخلة في ندوة افتراضية للمؤسسة الألمانية المغاربية للثقافة والإعلام، تحت عنوان “الربيع العربي والتغيير: سؤال المستقبل؟” أنه بين دولٍ إنهارَ فيها بُنيانُ الدولة، وانقسمت على نفسها في جماعات وطوائف، كاليمن وسوريا وليبيا؛ ودولٍ اختَطفت الدولُ العميقة فيها مسارَ التغيير، بعضُها بدعم مباشر من المؤسسة العسكرية كمصر، وأخرى بدعم إقليمي مباشر من جيرانها، كالبحرين. كما أنه بسبب تعدد هذه النتائج، فإن مصطلح “الانتفاضات العربية” يفي بالغرض. فهو يعكس ما حدث واقعًا: مطالبٌ شعبية بالتغيير، أكثرها لم يتحقق.
موضحة: “حديثي هنا عن الانتفاضات العربية من رؤية جندرية، ويقتصر في عرضه على الموجة الأولى منها، أي تلك التي جرت أحداثها بين 2010 و2011 وتستمر تداعياتها إلى يومنا هذا”.
متابعة أن هناك أربع ملاحظات يمكن طرحها في هذا الحديث:
الأولى، المشاركة الفعالة للمرأة في الانتفاضات العربية لا تعني تحقيق مكاسب نوعية للمرأة على المدى القصير. هذا النمط العام، الذي تكرر في أوقات الثورات والحروب في مناطق مختلفة من العالم، ليس جديدًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فعبر التاريخ، لعبت المرأة العربية دورًا أساسيًا في حركات الاستقلال والتحرير، وتحدت الصور النمطية الاجتماعية والقيود التقليدية. ومع ذلك، ففي اللحظة التي يبدأ فيها الوضع في الاستقرار، تعود الأعراف القديمة والمفاهيم التقليدية لتفرض نفسها عليها من جديد.
كما أنه لم يختلف الأمر في الموجة الأولى من الانتفاضات العربية. التي شهدت مشاركة فعالة أعقبتها محاولات إقصاء وترهيب.
وبصفة عامة، يمكن القول إن هناك سمتين رئيسيتين لهذه المشاركة:
السمة الأولى، أن السياق المحلي والواقع المجتمعي للمرأة في الدولة المعنية حَددَ طبيعة مشاركة المرأة في الانتفاضات. في تونس مثلًا، وهي دولة ذات تقاليد علمانية، وقانون عائلي تقدمي، ونسبة عالية من التعليم، شاركت المرأة بشكل جذري في التخطيط، والتنظيم والتظاهر والتوثيق لثورة الياسمين فيها.
أما في اليمن، تركت الطبيعة المحافظة للمجتمع اليمني بصمتها، وكان على الكثيرات تحدي الأعراف المحافظة الصارمة للخروج من البيت أولًا ناهيك عن الذهاب إلى الساحات للاعتصام.
أما السمة الثانية تتعلق بأجندة المشارِكات فيها. فعندما شاركت النساء بالفعل خلال المرحلة الأولى من الانتفاضات، فعلن ذلك دون أي أجندة خاصة بالنوع الاجتماعي.
ومن جديد شكل سياق كل بلد نوعية المطالب العامة التي عبر عنها المتظاهرون والمتظاهرات.
وتضيف مانع أنه في مصر وتونس، وهما دولتان لهما تاريخ طويل في بناء الدولة، وهوية وطنية قوية، تركزت المطالب في قضايا العدالة الاجتماعية، وإنهاء الفساد ونظام الدولة البوليسية القامع للحريات. في ليبيا والبحرين وسوريا واليمن، كانت المطالب مشابهة في البداية، إلا أنها سرعان ما تقاطعت مع الهويات الإثنية للمتظاهرين والمتظاهرات، لتتبدى ملامح الانقسام على أسس مناطقية، قبلية و/أو طائفية.
وقالت: “بغض النظر عن السياق، في هذه المرحلة، لم تكن المتظاهرات من النساء معنيات بمطالب خاصة بهن أو بحقوقهن.
ظهرت هذه المطالب فيما بعد، عندما بدأ نمط الإقصاء في تكرار نفسه، والذي بدأ عنيفًا”.
مضيفة: “كان استهداف الأجهزة الأمنية وبلطجيتها في عدة دول للنساء منهجيا متعمدا، لإبعادهن عن الساحات. تماماً كما استخدمت بعض الأنظمة، كنظام القذافي والنظام السوري، الاغتصاب كأداة حرب لترويع من يعارضها، رجالاً أو نِساء”.
وحاولت بعض الجماعات الإسلامية فرض تفسيرها المتطرف للإسلام على المرأة، مستفيدين من انهيار القانون والنظام، أو الموافقة الضمنية للأنظمة الإسلامية القائمة، أو بالانضمام إلى النظام الانتقالي الجديد. وفي بعض الدول، أدت سيطرة بعض هذه الجماعات على مقاليد الحكم في بعض المناطق إلى فرض قيودها الخانقة على النساء.
وفي مرحلة تالية تكرر نفس النمط التاريخي – للمشاركة متبوعًا بالإقصاء المؤسسي واستبعاد المرأة من مراكز صنع القرار في المراحل الانتقالية، باستثناء تونس واليمن.
إذن الملاحظة الأولى تقول إن مشاركة المرأة الفعالة في الانتفاضات الشعبية لا تعني تحقيق مكاسب نوعية للمرأة على المدى القصير.
الملاحظة الثانية، أن الإطاحة برؤساء الدول لا تعني بالضرورة نهاية لأنظمتهم أو، وهو ما يعنينا هنا، لنمطهم السياسي تجاه حقوق المرأة.
الدولة العربية ليست ليبرالية ولا أبوية في الطريقة التي تنتهج بها سياساتها الجندرية. بل هي انتهازية، تتصرف بطريقة ميكيا فيلية. فكل ما يصب في مصلحة بقاءها تقوم به، وهذا قد ينعكس بالسلب أو الإيجاب على واقع المرأة والسياسيات المتعلقة بها.
فبسبب فقدانها للشرعية، تعقد النخب الحاكمة تحالفات آنية مع جماعات محافظة لضمان سيطرتها على السلطة. كما توظف ظاهرة الإسلام السياسي، فنجدها تؤيد جماعات إسلامية معينة دون غيرها، وتعقد معها تحالفات سياسية. والهدف هو توظيف دعم هذه الجماعات الإسلامية كوسيلة لإضفاء الشرعية على حكم هذه النخب بالمعنى الديني و/ أونزع شرعية منافسيهم.
لهذه الاستراتيجيات تداعيات من منظور النوع الاجتماعي. فغالبًا ما كانت الحقوق والسياسات المتعلقة بالمرأة رهينة لهذه الصفقات السياسية. ولأن الحركات الإسلامية لها مواقف واضحة ضد حقوق المرأة وفقاً للمعايير الدولية، فإن الخاسر عادة من هذه المساومات والتحالفات، عادة ما تكون المرأة.
ولازال هذا النمط السياسي قائما في عدد من الدول العربية، وإن كان الدورُ الفاعل للمجتمع المدني، وحملات ُ الحركات النسوية يلعبان اليوم دوراً هاماً في مواجهته.
الملاحظة الثالثة تتعلق بواقع المرأة في مناطق الحروب والأزمات في الدول التي انهارت بعد الانتفاضات العربية.
تجارب النساء في مناطق النزاعات عالميا تظهر زيادة نسبة العنف الذي تتعرض له، ولا يختلف الأمر في مناطق الأزمات العربية. فالعنف المنزلي، الاختطاف، الاغتصاب، التحرش الجنسي في الأماكن العامة، والزواج المبكر، كل هذه ظواهر تعاني منها المرأة في دول كاليمن، سوريا وليبيا. وتواجه الناشطات والمدافعات عن حقوق الإنسان ترهيباً مستمرا، لاسيما وسط تقلص مساحة المجتمع المدني. تماماً كما أن تصاعد الخطاب الديني الأصولي المتطرف وزيادة تأثير الفاعلين الإسلاميين الأصوليين ترك أثره المباشر على حياة النساء ومساحات الحرية المتاحة لهن.
رغم ذلك، هناك مفارقة مهمة.
واقع الحروب والأزمات يدفع المرأة دفعاً إلى كسر الأدوار التقليدية لها، في ظل غياب الرجال والأبناء، وإلى الخروج للعمل وتدبير أمور الأسرة، وفي أحيان كثيرة تصبح العائل الأساسي للأسرة. كما تلعب دوراً أساسيا في تقديم استجابة إنسانية محلية على أرض الواقع.
هذا لا يعني أن أدوار المرأة داعمة دائما للسلام. في بعض الأحيان نجدها طرفاً فاعلاً أيضا في النزاع. رغم ذلك نجد غيرها ممن تساهم بشكل مباشر في مد جسور السلام في مناطقها المحلية. ورغم أهمية هذا الدور، فإنه من النادر ما يتم تمثيل المرأة في عمليات السلام أو المفاوضات الخاصة بترتيبات الحوكمة وبناء مؤسسات الدولة.
الملاحظة الرابعة والأخيرة، وبالرغم من كل ما سبق، يمكن القول أن هذه التغييرات والأدوار الجديدة للمرأة في العقد السابق، قد تركت بصماتها في الوعي النسوي. فرؤية المرأة لنفسها، لمقدراتها ولدورها، تبدلت لتعكس وعياً بقوتها وتمكينها. وهو ما يمهد لتغييرات مجتمعية على المدى البعيد.
التاريخ نادراً ما يعيد نفسه. فكل محاولات الإقصاء، لم تؤد إلى عودة الناشطات إلى بيوتهن. لقد حدث العكس في الواقع. بدأت ملامح لتغيير مجتمعي تطور لوعي جندري جديد في الظهور: يتحدى “الأعراف الاجتماعية الراسخة” في الأمور المتعلقة بالسلوك الاجتماعي والعلاقات بين الجنسين.
واختتمت: “نراها اليوم في حملات حقوقية ضد الولاية الذكورية، ضد التحرش، وما يسمى جرائم الشرف، والمطالبة بالزواج المدني، في حملات حقوقية تقاطعية تدافع عن حقوق المواطنين والمواطنات السود، والمثليين والمثليات، والحقوق الاقتصادية للنساء في الريف والمهمشات في المجتمع. وفي كتابات تكسر التابوهات المتعلقة بالجنس والدين والسياسة”.