لا تمثل المسئولية المجتمعية للشركات الخاصة مجرد مبلغ مالي للتبرع ترصده جمعياتها العمومية كما يحدث في كثير من المؤسسات المصرية. لكنها أسلوب لتطوير المجتمعات بالكامل وأحد حلول مواجهة مشكلاته المزمنة.
ووفق البنك الدولي، فإن المسئولية المجتمعية للشركات هي التزام أصحاب النشاطات التجارية بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل. ذلك العمل الذي يجري مع موظفيهم وعائلاتهم ومجتمعهم المحلي لتحسين مستوى معيشة الناس. لكن بأسلوب يخدم التجارة وأهداف التنمية في آن واحد.
وتظهر التجارب العالمية الدور الكبير الذي تلعبه الشركات في دعم المسئولية متجاوزة الحدود الجغرافية التقليدية. على سبيل المثال تتبنى “جنرال إلكتريك” الأمريكية مبادرات لدعم أطفال التوحد. وتعنى “إيكيا” السويدية بحملات دولية لبناء المدارس وتوصيل المرافق للمناطق المأزومة.
كما تتبنى “بي أم دبليو” الألمانية مبادرات عالمية لتعليم مهارات الكمبيوتر واللغات الأساسية في المناطق الفقيرة. بينما تتولى “ديل” الأمريكية تدعيم تعليم تكنولوجيا المعلومات مجانًا. كذلك تتحمل تكلفة تعليم 3 آلاف طالب في إثيوبيا سنويًا.
كما سبق لشركة “فايزر” عملاق صناعة الأدوية الأمريكية تبني مبادرات لزيادة الوعي بالأمراض غير المعدية. كذلك تعهدت مقاهي “ستاربكس” بتوظيف 25 ألف شخص من ذوي الإعاقة و10 آلاف لاجئ خلال 5 سنوات.
في شهر رمضان الماضي، سيطرت شركات العقارات على سوق الإعلانات بحملات بملايين الجنيهات. تتحدث عن الرفاهية والحياة الرغيدة التي سيتمتع بها قاطنوها. بينما لم تشارك أي منها بأي جهود في إطار تنمية المجتمعات المحلية في خارج الإطار المعتاد “التبرع”.
خلط كبير في مفهوم المسئولية الاجتماعية للشركات
تخلط بعض الشركات المحلية بين الإعلان والمسئولية المجتمعية. كإحدى شركات التطوير العقاري التي أعلنت تطوير حديقة بمحافظة بورسعيد تضم تمثالًا أيقونيًا بارتفاع 17 مترًا. واعتبرت ذلك في إطار المسئولية المجتمعية لها إزاء المجتمع.
ووفق المجلس العالمي للأعمال من أجل التنمية المستدامة، فإن المسئولية الاجتماعية تتعلق بالتزام مؤسسات الأعمال المتواصل بالسلوك الأخلاقي. كما تساهم في التنمـية الاقتصادية وفي الوقت ذاته تحسين نوعية حياة القوى العاملة وأسرها فضلاً عن المناطق المحلية التي تعمل فيها، والمجتمع عامة.
تجمع التعريفات الأكاديمية للمسئولية الاجتماعية للشركات ضمان توظيف موظفين دائمين أو موظفين بموجب عقود. كذلك توفـير المـوارد والمشتريات لتحفيز التنمية الاقتصادية، والاسـتثمار المالي. بجانب الأعمال الخيرية والاستثمار في المجتمع المحلي، كالتدريب بغـرض الإعداد للتوظيف. بالإضافة إلى توفير السكن بتكلفة معقولة، وتطوير وتوسيع مؤسسات الأعمال التجارية الصغيرة.
كما لا تركز غالبية الشركات المصرية في جهودها إلا على عنصر التبرع فقط. ولا تهتم بباقي النقاط رغم أن توفير الوظائف هو الهدف الأسمى والأكثر تأثيرًا على الاقتصاد الكلي. باعتباره يوفر دخلًا لأفراد يتحول إلى قوى شرائية بالمجتمع، تنعكس على الصناعات والإنتاج المحلي.
بداية القصة في مصر
أطلق الدكتور محمود محيي الدين، وزير الاستثمار، المؤشر المصري للمسئولية الاجتماعية للشركات بالبورصة المصرية قبل 11 عامًا. كذلك ضم 30 شركة مقيدة في البورصة يساهم في زيادة روح المنافسة بين الشركات في إطار احترام قواعد المسئولية الاجتماعية. بقواعدها الأربعة احترام حقوق البيئة والإنسان والعاملين. بالإضافة إلى البعد عن أي معاملات بها شبهة فساد.
وتظهر إفصاحات غالبية الشركات تركيز فكرة المسئولية في التبرع دون تحديد حتى وجهته. وفي خضم أزمة كورونا لم يتغير الأمر، فكانت البوصلة توفير مساعدات غذائية مباشرة، أو دخل مؤقت لبعض القطاعات.
صحيح أن التبرع للأعمال الخيرية موجود لدى الشركات العالمية مثل “ديزني” التي تخصص قدرًا كبيرًا من أرباحها. للعائلات الأكثر احتياجًا على مستوى العالم، لكنه عنصر من باقي العناصر.
فارق شاسع
في خضم أزمة كورونا، ظهر الفارق بين المستويين المحلي والأجنبي، فالشركات الغربية طوعت قدراتها لمساعدة الحكومات دون انتظار. من خلال تغيير خطوط إنتاجها صوب إنتاج أقنعة أو أسطوانات تنفس. مثل شركة “سيمنز” الألمانية التي وجهت قدرًا من أنشطتها لتوفير المعدات الطبية للمؤسسات الصحية.
الشركات المحلية نفذت الأمر ذاته لكن بهدف الربح. ولم تكتف بذلك بل رفعت سعر منتجاتها كالكحول الذي بيع اللتر منه في بداية الأزمة بثلاث أضعاف تكلفة إنتاجه. أو بيع كمامة من القماش لا تتكلف إلا 7 جنيهات بما لايقل عن 25 جنيهًا.
تحقيق المصلحة المالية لأصحاب المنفعة من المستهلكين والموظفين
تؤكد الدراسات الأكاديمية أن الشركات ــــ في ظل ما تحققه من ربحية ـــــ يجب عليها تحقيق المصلحة المالية لأصحاب المنفعة من المستهلكين والموظفين. بالإضافة إلى البيئة التي تعمل فيها وأجهزة الإعلام والمجتمع بصفة عامة وليس فقط الأعمال الخيرية. ولكي تكون الشركة مسئولة فعليها المشاركة الفعّالة في البرامج التعليمية والالتزام بحماية البيئة. كذلك المشاركة بالوقت والجهد لتحسين ظروف المجتمعات التي تعمل فيها.
ترتبط المسئولية العمل وفقًا لمبادئ الشفافية والمسؤولية، وإنتاج السلع والخدمات الآمنة ذات الجودة العالية الخالية من الفساد، ومساعدة الدول على إقامة المؤسسات، ومساعدة الأفراد على رفع مستوى معيشتهم، وحماية حقوق الإنسان، ومساعدة الدول في إقامة أسواق حرة، ووضعها على طريق النمو الاقتصادي المستدام والاستقرار السياسي.
تجربة “بروكتر آند جامبل”
تبدو تجربة شركة “بروكتر آند جامبل” ملهمة في مجال المسئولية المجتمعية بعدما تعهدت بالوصول إلى 300 مليون طفل من خلال برنامج “احيا.. تعلم”. وتوصيل 2 مليار لتر من المياه النقية ومنع 80 مليون يوم من المرض. كذلك إنقاذ 10 آلاف من الوفاة بسبب نقص الموارد. بينما تؤكد استراتيجية الشركة لعبها على كل المجالات الممكنة بداية من الصحة والتعليم وخدمات المياه والتوظيف.
ولدى اتحاد الصناعات المصرية، وحدة لتعزيز المسئولية الاجتماعية يفترض أن تقوم بتعزيز ورفع الوعي بمبادئ وممارسات المسئولية المجتمعية. بالإضافة إلى دعم مبادرات الشركات المتعلقة بتطوير المجتمع المصري في كافة مستويات التنمية المستدامة. بالإضافة إلى دعم الفئات الأكثر احتياجًا. لكنها لا تصدر تقارير إحصائية حول الحجم الإجمالي لما تقوم به الشركات الصناعية من جهود.
إشكالية ضخمة
تبدو الإشكالية الكبيرة في عدم إعلان الكثير من الشركات العاملة بالسوق المحلية حجم وطبيعة أنشطتها المجتمعية باستثناء التبرع. وتكتفي بعبارات واسعة فضفاضة على شاكلة تطوير برامج تعليمية لزيادة الوعي. حول تدابير الصحة والسلامة بين طلاب المدارس المهنية لمساعدتهم على حماية أنفسهم. وتزويدهم بالمهارات اللازمة للانضمام إلى القوى العاملة، دون تحديد ماهية تلك البرامج ولا مستهدفاتها ولا حجم الملتحق بها.
في الشركات العالمية مثل “إنتل” تضع قائمة مفصلة بكل الجوانب التي تغطيها مجتمعيًا. ففي التنمية البشرية تبرع نصف العاملين بها بمليون ساعة كخدمة في المدارس والمؤسسات غير الهادفة للربح. وفي الاهتمام بالأطفال خصصت مليار دولار خلال 10 سنوات لتحسين العملية التعليمية. وفي مجال البيئة ركزت على إنتاج أجهزة منخفضة استهلاك الطاقة.
وتختلف جهود الشركات العالمية العاملة في مصر في الخارج عن الداخل، مثل سلسلة متاجر فرنسية شهيرة. قدمت الدعم لبرنامج تطوير المدارس في تايلاند. كذلك دعم برنامج للتدريب المهني للشباب في بيونيس أيرس بالأرجنتين، وبرنامج للرعاية المدرسية بعنوان “المدارس جزء من حياتنا” في كولومبيا. وتخصيص 1.7 مليون يورو تبرعات لصالح ضحايا فيضانات تسونامي. وتقديم منتجات بقالة للأسر الفقيرة في اليونان، وإنهاء مشروع في الصين يساعد الفلاحين على تسويق محاصيلهم. وتوفير 2.2 مليون يورو لمساعدات الطوارئ ومشاريع إعادة الإعمار في أعقاب زلزال سيشوان في الصين.
وفي مصر، ركزت المجموعة جهودها على التوعية بالأكياس القابلة للتحلل الحيوي، ومبادرة للتدريب لتوفير فرص التدريب للطلاب في جميع متاجرها. بالإضافة إلى تعزيز المساواة بين الجنسين.
شركات صغيرة الحجم
يقول الدكتور وليد جاب الله، الخبير الاقتصادي، إن الشركات المصرية صغيرة الحجم مقارنة بعدد الشركات في الاقتصادات الأكبر حجمًا. وبالتالي تكون المبالغ المخصصة للمسئولية الاجتماعية أقل على مستوى التأثير.
يضيف جاب الله أن الاقتصاد غير الرسمي أحد المشكلات التي لا تظهر حجم المسئولية المجتمعية للشركات. فالأعمال التي يقوم بها تحسب على أنها مبادرات فردية. وهذا الأمر سيتغير مع التحول الرقمي الذي سيلغي الاقتصاد الموازي. كما يجعل الشركات تستفيد من الخصم الضريبي بصورة تشجعها للانفاق الاجتماعي بأشكاله المختلفة.