سيأتون إليك مهنئين وهم يخفون خناجرهم خلف ظهورهم، أو في طيات ثيابهم، ويقولون لك أنك بعد معركة «سيف القدس» بت طرفًا أصيلاً في المعادلة، وأنك ندٌ لنا، وسنتحدث معك، وننقل غزة من الحصار والفقر ونحولها إعمارًا وميناءً إلى دبي أو هونج كونج جديدة.
سيأتون إليك كما أتوا لأخوتك المصريين بعد حرب العبور 1973، ويقولون نحن الآن معترفون بقدراتكم وسنقوم بحل صراعكم مع عدوكم، وهم يخططون لتحويل نصرك العسكري إلى هزيمة سياسية، وتحويل قبولك الحل السياسي إلى عملية استسلام وتخلٍ عن استقلال قرارك.
سيأتون إليك كما أتت إلى القاهرة هيلاري كلينتون بعد ثورة 25 يناير لتقول إننا مع الثورة، وهي لا تخطط سوى لاحتوائها وإبقاء تغييرها في الأشخاص والحكومات وليس في السياسات، أو باختصار منعها من إحداث أيّ تغيير في قواعد النظام التابع لواشنطن الملتحق بالنظام الرأسمالي العالمي.
هذه محاولة للتنبؤ بأخطاء أو مزالق، سيعمل الذين كرهوا نتائج معركة الأحدى عشر يومًا، لكي يحولوا انتصارك إلى فرصة ضائعة أخرى في أن تكسب الحرب كلها
سيأتي إليك أيها الشعب الفلسطيني بلينكن وغيره، ليحولوا على المدي الطويل أداءك المذهل، ونصرك كمقاومة مدنية في الداخل الفلسطيني والضفة ومسلحة من غزة إلى هزيمة وانكسار فلا تصدقهم ولا تقع في أفخاخهم.
هذه محاولة للتنبؤ بأخطاء أو مزالق – سيعمل الذين كرهوا نتائج معركة الأحدى عشر يومًا، وعلى رأسها إحداث تصدع رهيب في نظرية الأمن الإسرائيلي- أن يستغلوا وقوعك فيها، لكي يحولوا انتصارك إلى فرصة ضائعة أخرى في أن تكسب الحرب كلها.
المبالغة في حجم وطبيعة النصر
يريد أعداء الشعب الفلسطيني في إسرائيل والطبقة الحاكمة في واشنطن وبعض المطبعين الجدد في العالم العربي، أن يسكر الفلسطينيون والعرب عموما بنشوة النصر، ويبالغون في وصفه، وقد بدأ البعض منا في الوقوع في هذا السياق.
قرأت وشهدت تعليقات خاصة تتحدث عن الانتصار على إسرائيل وانهيار جيشها وفشل قبتها الحديدية ودنو تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وبالغ البعض وقال إن القضاء على إسرائيل وزوالها بات في مرمى البصر. هذه كلها تخاريف لا تقل عن تخاريف نتنياهو ووزير دفاعه جانتس عن أن إسرائيل انتصرت في هذه المعركة، وأنها تمكنت من تدمير البنية التحتية العسكرية للمقاومة.
نعم انتصر الشعب الفلسطيني، ولكنه انتصار نسبي وليس مطلقًا بالنقاط وليس بالقاضية، وفي معركة وليس في الحرب كلها، ومن زاوية حرمان العدو من تحقيق أهدافه في الحرب وليس من زاوية أننا استرددنا أرضنا أو أنجزنا حق العودة.
هذا في حجم النصر، أما في طبيعته فمن أكبر الأخطاء أن يقبل الفلسطينيون خاصة حركات المقاومة أن النصر كان (عسكريًا) حتى مع التطور الإيجابي والمبهر في عدد الصواريخ، وتزامن إطلاقها والتحسن النوعي في مداها، وفي دقتها مقارنة بمعارك 2008 و2014، فتوحد الشعب الفلسطيني من حدوده الشمالية حتي حدود الضفة الغربية (الداخل الفلسطيني لفلسطينيي 48) مع بقية الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع أرعب الإسرائيليين مثلما أرعبتهم صواريخ القدس وتل أبيب، إن لم تكن أكثر فقد قضت تمامًا على كذبة «عرب إسرائيل» وكذبة «التعايش بين الفلسطينيين الحاصلين على الجنسية الإسرائيلية ومحتليهم».
الأخطر من ذلك أن المعركة الأخيرة جعلت الصراع بمثابة حرب مدنية يومية في البيوت والساحات في قلب دولة الاحتلال.
إن توصيف المعركة ونصر الفلسطينيين فيها على أنه نصر عسكري يعيد الحياة إلى الكذبة (الإسرائيلية – الأمريكية) من أن الصراع هو بين دولة تدافع عن نفسها ضد منظمات مسلحة إسلامية متطرفة، وهي الكذبة التي محقها اندلاع المعركة مدنيا وعسكريا في وقت واحد وفي كل عموم فلسطين.
فخ تحويل الصراع إلى صراع بين غزة وإسرائيل أو بين الإسلام السياسي واليهود
أستطيع هنا أن أذكر مائة عنوان على الأقل في الصحافة والإعلام الغربيين وطبعا الإسرائيلي، يصف معركة «سيف القدس» على أنها معركة بين غزة وإسرائيل، أو بين حماس وإسرائيل، خذ عندك مقال رأي بـ«واشنطن بوست» بعنوان «حرب غزة»، وفي «وول ستريت جورنال» مقال آخر تحت عنوان «الحرب بين إسرائيل وحماس».. ألخ.
وهذا بالضبط الفخ الذي نساق إليه؟.. هل انسقنا إليه؟.. نعم انساق إليه بعضنا من العرب – على الأقل من المنتمين لتيار الإسلام الحركي- وبدأنا نسمع ها هي الحركات الإسلامية تثبت أن الحركات الإسلامية هي التي ستحرر فلسطين بعد أن ضيعها العلمانيون الناصريون والبعثيون والشيوعيون – لا أعرف متى ولا كيف ضيعوها!!- وغردت زميلة عزيزة من أفضل الإعلاميات العرب في سؤال برئ: «هل فعلت القوى العلمانية – طبعًا مقارنة بالقوي الإسلامية- أي شيء من أجل تحرير فلسطين؟».
كارثة قبول هذا التصوير للمعركة الذي يُصدِّره العدو والقسم الأكبر من الإعلام في الغرب لنا وللرأي العام العالمي، أولاً وأساسًا أنه مخالف للحقيقة فلأول مرة منذ ثورة 1936 تكون الحرب مقاومة شاملة مدنية وعسكرية وعلى كامل الجغرافيا الفلسطينية وتأثير المقاومة المدنية مع المستوطنين وجنود شرطة وجيش الاحتلال في اللد والقدس وحيفا ومدن وبلدات الضفة.. الخ، لا يقل أهمية عن أثر الصواريخ المنهمرة على دولة الاحتلال، ومخالف للحقيقة أيضًا فإنه حتى الصراع العسكري لم يكن مقصورًا على حماس -وإن كان وزنها الأكبر- بل شمل أيضًا «سرايا القدس» التابعة لحركة الجهاد الإسلامي ذات البعدين القومي والإسلامي وليس الإسلامي فقط بتأثير قائديها التاريخيين الشقاقي وشلح، وشمل وهذا هو بيت القصيد كتائب «أبو علي مصطفى» التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهي حركة ماركسية بأفق عروبي. كما يظل الجناح العسكري لحركة فتح (من العاصفة إلى كتائب شهداء الأقصى) الذي له فضل الريادة في بدء الكفاح المسلح 1965 قبل «حماس» بعقدين ونصف -1991- هو رصيد عسكري للمقاومة في حال تحرره من سلطة أوسلو الغارقة في التنسيق الأمني.
ولكن الأخطر في هذا التصوير الخاطئ أنه يُنتج ثلاث مشكلات أو أخطاء ضخمة:
الأولى مشكلة فلسطينية:
من شأن قبول الشعب الفلسطيني لتصوير الصراع علي انه (حمساوي غزاوي / إسرائيلي) أن يقضي علي حالة الوحدة الفلسطينية التي بدت في المعركة الأخيرة، وتحويلها إلي لحظة أو لقطة نادرة وانتهت، ومن ثم يعيد الانقسام الفلسطيني الرأسي بين (فتح وحماس) و(الضفة وغزة) و(المقاومة والسلطة) إلي نقطة الصفر، بل ستتأجج بفعل التآمر الذي سيتم لإلقاء مزيد من الزيت علي النار، فلنسمع ماذا يخطط الإسرائيليون والأمريكيون في اتجاه واحد مُنسق الحركة بعد الصفعة التي تلقوها في المعركة الأخيرة.
يقول الاسرائيليون أن سنوات من إهمال نتنياهو واليمين المتطرف الحاكم لللسطة الفلسطينية ورئيسها أبو مازن وإغلاق باب المفاوضات -الذي لا يفعل سوي استهلاك الوقت- ولكن يوحي بحركة ما كما كان يحدث أيام أولمرت وليفني لابد أن تنتهي، وأن تعود الحكومة الإسرائيلية إلي مغازلة أبو مازن وسلطته وإنهاء المضايقات والتأخيرات في وصول الأموال، وهو الأمر الذي سيقويه ويضعف حماس.
الأمريكيون وبلينكن تحدثوا عن جهود غير محددة لإحياء مفاوضات حل الدولتين وعن دعم مالي للسلطة يتم التأكد من أنه لن يصل لحماس.
وأبو مازن يستجيب ويقع في الفخ ويقول إنه ضد المقاومة العسكرية ومع المقاومة السلمية فقط، وهو أكثر من يعرف أنهما لا ينفصمان ولا تنجح أحداهما بدون الأخرى، ولنفس الاتجاه ذهبت دول التطبيع الجديدة.
المهم أن قبول وصف الصراع علي النحو المذكور سيؤدي إلى إنهاء الوحدة وقطع الطريق في المستقبل على موقف ناضج مثل موقف السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة الذي قال بعد المعركة بأيام: «إن كل انتصار تحققه المقاومة هو انتصار للسلطة والشعب الفلسطينيين».
الثانية الدخول في بؤرة استقطاب الصراع الإقليمي الزائف:
إذا قبلت كفلسطيني أن الصراع (حمساوي / إسرائيلي) فأنت قبلت أن تعطي لإسرائيل هدية على طبق من ذهب، كانت المعركة الأخيرة قد هشمت هذا الطبق تهشيما ألا وهو إعادة السردية الإسرائلية المدعاة من أن الصراع القائم الآن هو صراع إقليمي بين «المتطرفين» أي إيران وحلفائها في حزب الله في لبنان وحماس والجهاد في فلسطين والحوثيين في اليمن وبين «المعتدلين» أي إسرائيل ودول عربية مطبعة معها. بعبارة أخرى أنت تقبل أن تعيد القضية إلى أسر استقطاب إقليمي زائف، ولكنه قيد حركتها وجعلها منسية وشبه غائبة في السنوات السبع الماضية، إذا أنت أيضًا تعيد رفع الحرج والخزي الذي أحاط بدول التطبيع العربي الجديد المندفعة -كما لم تفعل مصر والأردن -في علاقات تحالف وليس مجرد تطبيع مع العدو.
باختصار يتحرك الأمريكيون في اتجاه عنوانه: أنهم لن يسمحوا لإيران بالفوز بالنفوذ في الإقليم وكأنهم يدعون هنا أن نصر الشعب الفلسطيني -كله وليس حماس – كان انتصارا لإيران وبتدبير منها.
الثالثة مشكلة هوية الصراع:
الصراع (العربي / الإسرائيلي) ليس صراعا بين الإسلام واليهودية وليس بين متطرفين إسلاميين ومتطرفين يهود، الفكرة والحركة الصهيونية حركة علمانية وليست دينية -عارضتها حينها الأغلبية اليهودية- لكن تلقفتها وطورتها ودعمتها الإمبريالية الغربية لخلق كيان وظيفي في مركز العالم القديم وموطن الثروات الذي يسمي العالم العربي لضمان استمرار آليات النهب والإضعاف ومنع الوحدة للأمة التي تسكنه وهي الأمة العربية.
ومن شأن قبول توصيف الغرب والصهيونية للصراع الذي يحوله من صراع وجودي إلى صراع ديني استبعاد أغلبية مكونات الأمة من المعركة. فأنت ساعتها ستكون قابلا باستبعاد المسيحيين العرب من النزاع، وباستبعاد كل القوي العربية المدنية والديمقراطية واستبعاد كل هذا الدعم المذهل غير المسبوق الذي آتاك من الرآي العام العالمي وتيار حقوق الإنسان الدولي بما في ذلك اليهود الشبان المعادين للصهيونية الذين ساندوا الحق الفلسطيني.
عندما تفعل ذلك ايضا فانت تترك المقاومة وحيدة أمام وحش الآلة العسكرية للاحتلال الذي جعلها الانحياز الأمريكي الأقوي نوعيا في المنطقة ومهما بلغ صمود المقاومة وهو صمود عظيم فأنها من غير إطار سياسي وعسكري إقليمي وعربي داعم وتعاطف أخلاقي دولي ستكون في خطر الزوال وهو خيار لا يجب أن يكون مطروحا من الأصل لأنها السلاح الأهم الباقي بيد الشعب الفلسطيني.
الاستهانة برد فعل إسرائيل وأمريكا ودول التطبيع الجديدة
من أكبر الأخطاء التي يمكن أن نرتكبها كفلسطينيين وعرب هو أن نتجاهل حجم السخط والكراهية التي ولدتها مفاجأة النصر لدى إسرائيل وأمريكا وقوى التطبيع العربي الجديدة.
فكما قررت واشنطن وتل أبيب أن يجعلا الأداء العسكري العربي المذهل على الأقل في الأسبوع الأول من حرب أكتوبر العظيمة آخر حرب نظامية بين جيوش دول المواجهة العربية بشعار «حرب أكتوبر هي آخر الحروب الذي تبناه السادات ومبارك بعده» ستعمل الأطراف الثلاثة (أمريكا وإسرائيل ودول التطبيع الجديدة) علي الحيلولة دون حدوث سيناريو السبع سنوات بين معركة 2014 على غزة ومعركة «سيف القدس 2021» مرة آخري والتي خرجت فيه المقاومة كطائر الفينيق أقوي من أي وقت مضي، بعبارة أخرى سيحاولون منع المقاومة من تعويض خسائرها العسكرية ومنعها من تطوير بنيتها التحتية العسكرية وتطوير دقة ومدى وتزامن إطلاق صواريخها على إسرائيل في المستقبل.
من هذه المحاولات التي بدأت فعلا منع وصول أموال ومواد إعادة إعمار غزة إلى يد سلطة حماس في القطاع، إحداث ربط شرطي في مفاوضات فيينا لإعادة الاتفاق النووي مع طهران بتوقف الأخيرة أو على الأقل تخفيف دعمها لحركتي الجهاد وحماس، التضييق علي حزب الله ومنع تواصله مع المقاومة في فلسطين وربط المعونة الأمريكية للجيش اللبناني بمواجهة (لبنانية – لبنانية) بين الدولة وسلاح المقاومة، تعميق الضغينة القائمة بين السلطة وغزة.. الخ.
قد يكون من المفيد وقف المؤتمرات والاستعراضات وتعريض شخصيات من وزن السنوار أو ضيف أو القادة العسكريين لـ«الجهاد» و «كتائب أبو علي مصطفي» إلى خطر الاستهداف الإسرائيلي
نفسيا يدفع هؤلاء ما هو أكثر من الشعور بالهزيمة عند الأمريكيين والإسرائيلين والشعور بالخزي والعار أمام شعوبهم بالنسبة للمطبعيين الجدد، تدفعهم أيضا المزايدة اليمينية المتطرفة على نتنياهو والسخرية من فشله في تحقيق أهدافه في معركة القدس والتي قد تجعل أي حكومة إسرائيلية تسعى لانتهاز الفرصة لشن ضربة خاطفة مفاجئة علي سلاح المقاومة قبل أن تعوض خسائرها.
هنا قد يكون من المفيد وقف المؤتمرات والاستعراضات وتعريض شخصيات من وزن السنوار أو ضيف أو القادة العسكريين لـ«الجهاد» و «كتائب أبو علي مصطفي» إلى خطر الاستهداف الإسرائيلي الذي لن يهمد ثانية واحدة في اقتناصهم.
بعبارة أوضح، فإن من أكبر الأخطاء التي قد ترتكب فلسطينيًا هو الركون إلى الانتصار وعدم التحسب والتأهب لهجمات انتقامية تستهدف تدمير المنظومة التسليحية للمقاومة وقتل أهم قادتها وكوادرها العلمية التي تتولى الإشراف على التطوير والتصنيع العسكري.
عدم استثمار عوامل النصر السياسي والأخلاقي:
من أكبر نجاحات معركة سيف القدس أنها بدأت مدنية سلمية قاوم فيها الشباب والكبار عاريو الصدر من فلسطينيي القدس وداخل الخط الأخضر استفزازات المستوطنين وقوات الاحتلال لإخلاء بيوت الفلسطينيين في حي الشيخ جراح ولمنع المسيحيين من الوصول لكنيسة القيامة ولمنع وصول المصلين المسلمين إلى المسجد الأقصي في شهر رمضان، ثم الهجوم عليهم بالغاز المسيل للدموع والأسلحة داخل حرم الأقصي فتوفر تراكم متزايد من التعاطف الدولي غير المسبوق ساعد على ذلك مجموعة من العوامل بالغة الأهمية:
أ -الاتساع المتزايد لحركة وثقافة حقوق الإنسان خاصة عند الاجيال الجديدة وبالتحديد لمبدأ عدم التفرقة عندما يتم الانتهاك علي أساس «الجندر» أو العرق أو الدين وكان انتهاك الإسرائيليين الوحشي لحقوق الإنسان مفزعا لدرجة صعب فيها إغماض العين مجددا وإعطاء إسرائيل ميزة الهروب المستمر من تحمل نتائج جرائمها ضد الفلسطنيين والتي وصفت من خلال يهود تقدميين بأنها أطول عملية تطهير عرقي عنصري في التاريخ.
ب-الدور الخارق لـ«السوشيال ميديا» في كشف الجريمة العنصرية لدولة الاحتلال ضد فلسطينيي الداخل والضفة ومجازر القتل والتدمير ضد المدنيين في غزة . هنا لعب الشباب الفلسطيني والعربي البديع في فلسطين والعالم العربي وفي المهجر دورا لا يقل أهمية عن المقاومين السلميين أو المقاومين العسكريين ليس فقط في نقل أحداث العدوان الإسرائيلي شرطته وجيشه ومستوطنيه لحظة بلحظة ووقت حدوثها ولكن أيضًا في إنتاج مواد عوضت عشرات السنين الضائعة من محاولات العرب شرح الحق الفلسطيني. إن فيلما كالذي انتجته الفلسطينية فرح نابلسي عن قصة فلسطيني وولده يريدون شراء هدية عيد الأم بعبور حاجز الفصل العنصري، أو فيديو لـ«انفلونسر» مصرية شابة (إيمان عسكر) تحكي قصة النكبة بالغناء بالإنجليزية، أو فيديو بودكست للممثل البريطاني الشهير راسل براند يستضيف فيه شخصيات يهودية معادية للجرائم الصهيونية، أو فيديوهات التمسك بالحياة في غزة رغم التدمير بمتابعة الحياة اليومية من حلاقة إلى غناء إلي الذهاب لشاطئ البحر، فعلت فعلها في صنع الصورة الحقيقية لشعب مثقف ومقاوم ومحب للحياة وليس محبًا للعنف والقتل كما صُور باستمرار من الآلة الاعلامية الإسرائيلية.
ج- التأثير العظيم الذي أحدثته في الرأي العام الأمريكي خصوصا والدولي عموما حركة «حياة السود مهمة أو غالية»، إذ إن كل عناصر التفرقة العنصرية والتمييز علي أساس الهوية التي كثفتها وأظهرتها عملية قتل فلويد في «مينيا بوليس» قبل عام تقريبا هي ما تمارسه كل يوم وكل دقيقة سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.
لقد أعادت حركة حياة السود غالية من قبل الأمريكيين الأفارقة الصلة التي كانت قد تقطعت أو وهنت بين حركتهم وبين حركة التحرر الفلسطيني وكانت عاملا حاسما في صورة التأييد المعنوي والأخلاقي العظيم الذي حازه الفلسطينيون في معركة القدس.
د- نمو الجناح التقدمي في وسطين مهمين جدًا سياسيًا وثقافيًا، الوسط الأول هو وسط اليهود الشبان في أمريكا وفي الغرب عموما الذي بات يشعر بأنه أقل ارتباطا بإسرائيل من آبائه وأجداده والذي بات يشعر بالاحراج والخزي من استمرار تأييده لإسرائيل، والوسط الثاني هو الوسط الفني والثقافي وأنصار الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس بايدن الذين وجدوا تناقضا معيبا بين القيم الليبرالية التي ينادون بها ويميزون بها أنفسهم عن اليمين الشعبوي الذي سيطر على منافسيهم الجمهوريين وبين استمرار تأييدهم السابق الأعمى لإسرائيل.
ساهم في ذلك التطور الأخير النمو الحادث في قوة الجناح اليساري للحزب بقيادة بيرني ساندرز وتواجد نائبات ديمقراطيات من أصل عربي وإفريقي تبنين صراحة ضرورة أن تكف أمريكا ورئيسها الديمقراطي عن منح سلاح لإسرائيل تقتل به أطفال غزة.
دون هذه التطورات ما كنا لنري «نيويورك تايمز» تنشر صور مايزيد عن 60 طفلا قتلتهم إسرائيل في غزة علي صفحتها الأولى تحت عنوان «ذنبهم أنهم أطفال» أو فيديو لأحد أهم معلقي أمريكا السياسيين هو توماس فريدمان «بايدن قد يكون آخر رئيس ديمقراطي ينحاز لإسرائيل»، ما كنا لا نري الصحف والإعلام الأمريكي يتحدث عن «تحول تاريخي» في مواقف ومشاعر فناني هوليود أكبر قوة ناعمة أمريكية وهي التي ساهمت بأفلامها من قبل في الترويج لخرافة عودة الشعب اليهودي.
هل كنا لنرى في عواصم أوروبا وفي العديد من ولايات أمريكا هذه المظاهرات الشعبية الحاشدة بمئات الآلاف لنصرة فلسطين يتقدمهم رموز من وزن جيريمي كوربين وغيره؟
والأهم من كل ما تقدم هل كنا لنرى في عواصم أوروبا وفي العديد من ولايات أمريكا هذه المظاهرات الشعبية الحاشدة بمئات الآلاف لنصرة فلسطين يتقدمهم رموز من وزن جيريمي كوربين وغيره؟.
ألا نستثمر كل هذه التحولات ونحولها لثقافة وواقع مستمر يخدم أعدل قضية في العالم، وربما في التاريخ وينهي آخر نظام عنصري على الكرة الأرضية سيكون خطيئة وليس خطأً.
إن واجب الوقت هو بناء تحالفات أخلاقية ومبدئية ذات طابع كوني مع مؤثري «السوشيال ميديا» ومنتجي المحتوي عليها، ومع حركة الأفارقة الأمريكيين المقاومة للاستعلاء العنصري والتفوق الأبيض ويمينه الشعبوي المسلح والمخيف، مع الشعوب والدول الأفريقية التي تري نفسها وتاريخ الظلم العنصري الذي تعرضت له من المستعمر الأبيض .والذي لخصه ببراعة رئيس جمهورية جنوب إفريقيا [رامفوزا] في خضم المعركة الأخيرة «لا نملك إلا أن نصطف مع فلسطين فكل مايمارس ضدهم يذكرنا بما تعرضنا له من نظام الفصل العنصري السابق»، ومع نواب وأعضاء في حكومة دولة إيرلندا الذين ذهبوا لجلسة برلمانهم بكمامات عليها علم فلسطين، لنواب ومثقفين في دول اسكندنافيا، ..الخ
الانتقال من الحماس الكبير إلى الفتور والغياب
من عيوبنا نحن العرب بلا استثناء هو قصر النفس السياسي نبدأ الأشياء بفورة حماس تصل إلي عنان السماء حضورا واحتجاجا ودعما ،ثم بعد أن ينتهي الحدث الساخن تبدأ حماستنا في الفتور، وتعود السردية الفلسطنية العادلة إلى الغياب.
لاحظ كيف مر قيام إسرائيل بالقبض علي عشرات الشبان الرائعين الذين تظاهروا في اللد وحيفا وأم الفحم.. الخ، لأنهم تظاهروا من أجل الشيخ جراح أو القيامة أو الأقصي دون رد فعل قوي كالذي حدث في شهر رمضان الماضي .لاحظ كيف تركنا بعض من وقفوا معنا مثل نجم هوليوود الكبير مارك رافالوا للهجمة المضادة الصهيونية التي طالبت بمقاطعة أفلامه وعدم التعاقد معه علي أفلام جديدة فاضطر لنوع من الاعتذار.
لهذا كان من أجمل التحركات الواعية علي «السوشال ميديا» نداء أو حملة «لا تتوقفوا عن الحديث عن فلسطين»، أو نداء «احموا حي الشيخ جراح».
فلنحذر الهجمة المرتدة المضادة إعلاميا وسياسيا وعسكريا التي تخطط لها إسرائيل والطبقة الحاكمة الامريكية ومن غاصت قدماه من العرب في وحل تطبيع يرتقي إلي تحالف استراتيجي مع العدو الإسرائيلي.