مازالت المسألتان الهامتان محل النقاش الضمني في تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني حاضرتان، المسألة الأولى تلك التي تتعلق بطموح الفلاسفة بأن يصبح كل أعضاء المجتمع سمتلكون الوعي، ويمتلكون الفهم والإدراك لكل قضايا مجتمعهم، والمسألة الثانية تلك التي تتعلق بعدم القدرة على التعامل مع تجليات “الذوق” ورؤى الحدس (الفردي) الذي يمتاز به أصحاب الطريق من المتصوفة.
اقرأ أيضًا.. ابن رشد (2) التهافت.. الغزالي في مواجهة الفلاسفة
وضع الغزالي كتابه الشهير في مواجهة الفلاسفة، للتشهير بهم، وبيان تناقضهم، وفي مواجهة العقل وبيان نقصانه، وعجزه عن الوصول إلى المعرفة اليقينية “منفردا”، وأسماه “تهافت الفلاسفة”، كي يؤكد على تناقض الفلاسفة وتهافت منطقهم، وتعامل الغزالي بقسوة وحدة طبع مع الفلاسفة، فليس أكثر من التهافت لإظهار التناقض، والهوان، للدلالة على سخف الفكرة وضآلتها، حتى قيل: إنه طعن الفلسفة -في المشرق العربي- طعنة لم تقم لها بعدها قائمة، يقول الغزالي موجها حديثه إلى الفلاسفة: ” ما ذكرتموه تحكمات، وهي على التحقيق ظلمات فوق ظلمات، لو حكاها الإنسان عن منام رآه، لاستدل به على سوء مزاجه، أو لو أورد جنسه في الفقهيات، التي قصارى المطلب قيها تخمينات، لقيل إنها ترهات، لا تفيد غلبات الظنون”. ويقول في موضع آخر محفزا المتلقي ضد الفلاسفة: “أما بعد. فإني قد رأيت طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب، بمزيج من الفطنة والذكاء، وقد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين من وظائف الصلوات… يفنون من الظنون، يتبعون فيها رهطا يصدون عن دين الله، يبغونها عوجا… ولا مستند لكفرهم غير بحث نظري، صادر عن التعثر بأذيال الشبه الصارفة عن صوب الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كلا مع السراب، كما اتفق لطوائف من النظار في البحث عن العقائد والآراء، من أهل البدع والأهواء”.
فلما جاء “ابن رشد” ليرد على “تهافت الفلاسفة” دفاعا عن الفلسفة، وإعلاء لقيمة العقل، وتقديمه على أية أدوات معرفية أخرى، أراد أن يكون أشد قسوة، فوضع كتابه في الرد على “كتاب الغزالي” وتفنيد حججه، والكشف عن قيمة العقل والبراهين العقلية، وأسماه “تهافت التهافت”، ليؤكد على تناقض الأفكار التي طرحها “الغزالي” في كتابه، وضعف منطقه، فنراه يقول ردا على تهافت الفلاسفة: “لا يبعد أن يعرض مثل هذا للجهال من العلماء، وللجمهور مع الخواص، كما يعرض لهم ذلك في المصنوعات، فإن الصناع إذا أوردو صفات كثيرة من مصنوعاتهم على العوام، وتضمنوا الأفعال العجيبة عنها، هزئ بهم الجمهور، وظنوا أنهم مبرسمون” (مصابون بالهذيان، ويعني أنهم يهذون، ويقولون كلاما غير عاقل وبلا منطق).
يتفق “ابن رشد” كثيرا في المعضلة الأولى (التي تتعلق بالرغبة في نشر الوعي بين أفراد المجتمع) مع رأي “الغزالي”، فهو يرى –مثله- أن الحديث إلى العامة لا ينبغي له أن يتطرق إلى العلوم الكلية، والبراهين العقلية، بل هو نقاش خاص بالعلماء “المخصوصين” بالعلم، والعقل، بعيدا عن جمهور العامة. فنحن أمام سيجال فكري، شديد الوطأة والقسوة، يستخدم فيه كل منهما ما يتمتع به من فطنة، وذكاء، ومعرفة، للتأكيد على تهافت الطرف الآخر، ومازالت المسألة الأولى تمثل معضلة كبيرة، فما بين الرغبة في تقديم الفكر والوعي، وما بين الشعور بالتفوق والتمايز عن جمهور العامة والدهماء، يجعل الفلاسفة يفضلون العزلة، ويخشون من مخالطة الناس، والإفضاء إليهم بمعارفهم، ويفضلون الاحتفاظ بها في داخل (أبراجهم العاجية)، وبين جنبات جدرانهم الوهمية التي تحيط بهم (افتراضيا). يقول “ابن رشد”:
“فالكلام في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات، التي تلك الأشياء سموم لها، فإن السموم إنما هي أمور مضافة، فإنه قد يكون سما في حق حيوان شيء هو غذاء في حق حيوان آخر، وهكذا الأمر في الآراء مع الإنسان، أعني قد يكون رأي هو سم في حق نوع من الناس، وغذاء في حق نوع آخر، ولكن إذا تعدى الشرير الجاهل فسقى السم من هو في حقه سم على أنه غذاء، فقد ينبغي على الطبيب أن يجتهد في شفائه”.
أما المعضلة الثانية فهي معقدة جدا، اختلف “ابن رشد” جملة وتفصيلا مع “الغزالي”، وقدم العقل على النقل، رغم إيمانه العميق، ولكنه رفض قطعيا أن يكون هناك تفسيرا واحدا للنص المقدس، وأوصى بضرورة التأويل المتفق مع العقل، وإن كان قد جعله قاصرا على “الراسخون في العلم”، فالقدرة على فهم العالم، والوصول إلى الحقيقة، تستلزم طريقا طويلا من المعرفة، نحن أمام “نص” قابل دوما للتفاعل الإنساني، قابل للدخول في “جدل” مع معطيات الحياة الإنسانية، وما يطرحه “شخص ما” في مرحلة من مراحل التاريخ، هو تعبير دقيق حول ما توصل إليه في علاقته بالنص المقدس، وحول ما يمكن أن يكون النص قد كشف له / عنه وفقا للتطور (العلمي/ الثقافي / الاجتماعي …الخ) الذي تشهده لحظة التفسير/ التأويل التي قدمها هذا (الشخص) وهوما لايمكن بأي حال من الأحوال أن نتعامل معه بوصف هذا المعنى الذي يشكل طرحا إنسانيا، ومنتجا إنسانيا، ليصبح (ما قصده الله في نصه).
إذن. ما الذي حدث من تطورات اجتماعية وثقافية وعلمية.. إلخ في مجتمعاتنا؟! جعل البعض يظن أن هذا المنتج الإنساني هو (عين الحقيقة ومآلها الأخير)، وهو أمر يمكن أن ينحو بنا منحا مغايرا للغرض منه منذ بداية التفاعل الفكري مع (النص المقدس) على مدار العصور، والتي كانت تنظر للمنتج الإنساني بوصفه ( اجتهادا) يؤجر عليه صاحبه، ولكن لم تتعامل معه بوصفه (منتجا نهائيا)، وهو الأمر الذي يبدو جليا من تكرار المحاولات في تقديم (فهما آخر) أو السعي إلى تقديم (تأويلا/تفسيرا) جديدا للنص المقدس.
يحكي “سلافوي جيجيك”: كان هناك رجل يعتقد أنه حبة قمح، فاصطحبوه إلى مصحة حيث سعى الأطباء جاهدين حتى أقنعوه أنه ليس حبة قمح بل “إنسان”. وعندما تمكنوا من علاجه، واقتنع أنه ليس حبة قمح بل إنسان، سمحوا له بمغادرة المستشفى، وعندما خرج إلى خارج باب المستشفى، عاد سريعًا وهو يرتجف، هناك دجاجة خارج الباب ويخشى أن تأكله.
قال طبيبه: “يا صديقي العزيز، أنت تعلم تمام العلم أنك لست حبة قمح بل إنسان”. فأجابه المريض: “بالطبع أعرف ذلك، ولكن هل هذا هو ما تعرفه الدجاجة”؟
المسألة هنا لا تتعلق بمحاججة وإقناع، بل بهذا الوعي الخفي الذي يمارس ألاعيبه معنا، والذي لا يوجد في عقلنا، بطريقة أننا ندرك الواقع (أو نسيء إدراكه)، ولكن نتعامل معه/به في واقعنا الاجتماعي نفسه. ربما نعرف الحقيقة، ولكننا نتصرف وكأننا لا نعرفها، في حياتنا الواقعية نتصرف كالدجاجة المذكورة في النكتة.
يحكي أحدهم أن “نيلز بور” عالم الفيزياء الشهير الذي حاز “نوبل”، والذي قدم الإجابة الصحيحة على عبارة “ألبرت أينشتاين” التي صاح بها غاضبا: “الله لا يلعب النرد” بعبارة هادئة وذات دلالة: “لا تخبر الله ما الذي عليه أن يفعل”، قد قدم أيضا نموذجا مناسبا حول كيف يعمل العقل في سياق الإيمان بمعتقد ما، إذ فوجئ أحد زائريه بوجود حدوة حصان على بابه، قال له إنه لم يكن يعتقد أن بور يؤمن بالفكرة الخرافية التي تقول إن حدوة الحصان تجلب الحظ السعيد للناس، فرد عليه سريعا: “قطعا، أنا أيضا لا أؤمن بها؛ إنما أعلقها لأنه قيل لي إنها تجلب الحظ السعيد سواء آمن بها الشخص أم لا”.