إن حق الطفل أو الحدث في الحماية حق تفرضه الفطرة السليمة، وتحفظه الغريزة، وتحميه التعاليم السماوية، وتحثّ عليه المواثيق والاتفاقيات الدولية وتنظِّمه القوانين. ومن هذا المنطلق يكتسب موضوع الحماية الجنائية للطفل أهمية بالغة بالنظر إلى خصوصية وضع الطفل في المجتمع، وتعكس السياسة الجنائية المصالح الواجب حمايتها في الدولة والقانون هو الذي يحدد المصلحة الجديرة بالحماية من بين المصالح المتناقضة.
ولما كانت السياسة الجنائية هي السياسة التشريعية في مجال القانون الجنائي وتوجّه المشرع في اختياره للمصلحة الواجب حمايتها، لكوّن السياسة الجنائية بصفة عامة تشكل مجموعة الوسائل والتدابير التي تحدثها الدولة في حقبة زمنية معنية لمكافحة الجريمة وحفظ الأمن والاستقرار.
لذا فإن السياسة الجنائية تعني بالمرحلة التي تسبق ارتكاب الجريمة بوضع سياسة وقائية شاملة من شأنها أن تحول دون وقوع الجرم. وهذا الأمر يقتضي من الدولة اعتماد خطة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحسين مستوى المعيشة لكافة المواطنين.
فعلى سبيل المثال فإن مجانية التعليم من شأنها أن تحد من ظاهرة الأميّة وانعدام الشعور بالمسؤولية والوعي لدى الناس، وتوفير السكن اللائق من شأنه هو الآخر أن يساهم في معالجة ظاهرة الإجرام. إذ أن الإحصائيات تفيد بأن الجريمة تنبع من الأحياء المهمشة التي لا تتوفر فيها أدنى شروط الصحة، ومحاربة الإدمان على الخمور والمخدرات والقضاء على دور الدعارة والفساد والقمار التي تعتبر سببًا رئيسيًا في استفحال ظاهرة الإجرام.
كذلك الاهتمام بالأطفال واليافعين لتحصينهم من الانحراف والانزلاق إلى عالم الرذيلة، أسوة بالمختلين عقليًا وما يشكلونه من مخاطر على المجتمع حيث ينبغي التكفل بهم وتتبع حالاتهم إلى حين تماثلهم للشفاء الكامل.
تنتشر جرائم الأطفال في كافة دول العالم، وهي آخذة في الانتشار على الرغم من محاولات تصدي هذه الدول في محاولات للحد منها، ولهذه الجرائم عوامل وأسباب وأكثر هذه الأسباب متشابهة في الدول، وتوجد مسميات لهذه الجرائم منها جنوح الأطفال أو الصغار.
وتفيد كلمة “جنوح” بالتقصير أو الإهمال، وبعد التطور التكنولوجي ومن إفرازاته “العولمة” وظهور تحديات كبيرة واجهت مؤسسات التربية: “الأسرة والمدرسة ودور العبادة في دول العالم وأدى ذلك إلى تغيير في القيم الاجتماعية لدى الأطفال والمراهقين فما يراه الكبار من سلبيات وانحرافات أخلاقية يراها الأحداث والمراهقون سلوكيات طبيعية ومعبرة عن رأيهم ومعنونة لشخصياتهم، ولعل ذلك من أسباب سلب دور مؤسسات التربية أن المراهقين والشباب لا يتأثرون بهذه المؤسسات وإنما بالدلائل المطروحة من إفرازات العولمة وتتشكل الشخصية الإجرامية للحدث في هذه المرحلة العمرية إذا لم يتلق العلاج المدروس”.
ولكن في القانون المصري لم يزل الطفل يًعامل من الزاوية الإجرائية في أغلب الجرائم مثله مثل الشخص البالغ، منذ لحظة القبض عليه، وحتى تمام محاكمته، مرورًا بعرضه على النيابة، والتي ربما لا تكون هي نيابة الطفل المتخصصة، ولكن الأكثر خطرًا هي بداية مرحلة التعامل مع الطفل الذي في حالة تماس مع القانون، إذ أن الحاصل فعليًا أنه يتم القبض عليه واحتجازه في أماكن غير مخصصة للأطفال وبرفقة متهمين بالغين، وهو الأمر الذي يعرض الطفل لصدمة قد تكون ذات تأثير بالغ الدلالة على معظم حياته المقبلة، لكوّن تجربته الأولى أوقعته رفقة من هم أكبر منه وربما يكون غالبيتهم ممن اعتادوا على الإجرام، وهو الأمر الذي قد يضفي صفات مستقبلية ذات دلالة على الطفل.
وإذا ما انتقلنا إلى مرحلة الاحتجاز القانوني، فعلى الرغم من كون قانون الطفل المصري لا يجيز احتجاز من هم دون الخامسة عشر، ويجيز وضعهم بدور الرعاية الاجتماعية. ولكن هذه الدور على قلة عددها، لا تستوعب الأعداد المتزايدة في السكان وبالتالي زيادة نسبة الأطفال فيها، وهو ما يعني بداهة زيادة نسبة جريمة الأطفال، وهو ما يجعلهم في حالة تماس مع القانون.
كما أن القانون الحالي لا يمنع وضع الأطفال فوق الـ15 في أماكن احتجاز تكون أكثر قربًا وتشابهًا مع أماكن البالغين، هذا إضافة إلى كونهم في حالات الحكم على من هم فوق الـ15 سنة فيقضون مدة حبسهم داخل أماكن هي أقرب للسجن من دور الرعاية، وهذه المعاملات لا تتوافق مع حالة الأطفال والرعاية الواجب تقديمها لهم حتى ولو كانوا قد اقترفوا جرمًا، حيث يجب التعامل معهم على أساس كونهم في حاجة إلى الإصلاح وليس العقاب، في حاجة للتوجيه وليس للردع، في حاجة للتبني والانتماء وليس للزجر.
فهل هذا يدفع بنا إلى المطالبة أولًا ومن الناحية القانونية إلى صياغة قانون إجرائي خاص بالأطفال دون غيرهم، يحرص فيه لمشرع على تبني النظريات الإصلاحية منذ لحظة القبض على الطفل، يوجب حينها عرضه على أطباء متخصصين قبل وضعه في أي أماكن احتجاز، من بينهم النفسي والبدني والمشرف الاجتماعي، على أن يودع كل منهم تقريرًا بحالة الطفل خلال 24 ساعة، ثم أن تكون بنايات نيابات الأطفال ومحاكمهم بعيدة عن أماكن محاكمات البالغين ومنفصلة تمامًا عنهم، وأن يتولاها أعضاء نيابة متخصصون، وحاصلون على إجازات علمية مرتبطة بعملهم مع الأطفال.
كذلك الأمر بخصوص قضاء الأطفال، فليست سياسة الندب أو النقل لفترات التي يتبناها المشرع أو النظام القضائي المصري إيجابية في هذا الخصوص، وإن كنت أحلم أن يكون لدينا مدونة عقابية خاصة بإجرام الأطفال تتناول محاولة عقابهم بطرق تتناسب ومراحلهم العمرية، ولا يكون اللجوء فيها لعقوبة الحبس أو بالأحرى الإيداع إلا في الحالات شديدة القسوة والخطورة، كما أنه قد لوحظ خلال السنوات التي أعقبت ثورة يناير لسنة 2011 أن قامت الدولة بالتوسع في بناء السجون، حتى قارب عددهم ثلاثين سجنا جديدا ما بين سجون مركزية وليمانات، ولكن لم تلتفت الدولة بأجهزتها المتشعبة والكثيرة على مدى الحاجة على بناء دور رعاية على نسق علمية وأماكن احتجاز متخصصة للأطفال تكون أكثر تجاوبا مع التطورات العلمية الحديثة من ناحية السياسات الجنائية وتبنيها للنظريات الإصلاحية، والتي يكون الأطفال في حاجة إليها أكثر من البالغين، على أن يراعى في هذه الأماكن على اختلاف مسمياتها الدور التعليمي والتقويمي والمهني والتقني اللازم نحو إخراج الأطفال من حالة التوجه للجريمة إلى عناصر شابة مستقبلية قابلة على التعايش السليم مع المجتمع تحمل من القيم التربوية ما يجعلها قادرة على تخطي مرحلة الانحراف، فلعل هذه الرسالة تكون قادرة على الوصول لأولي الأمر حتى نتلافى ما هو حاصل الآن بخصوص ظاهرة انحراف الأطفال وكيفية التعامل معها.