منذ استقرار الإنسان في جماعات بشرية صغيرة أو كبيرة، كان هناك محاولات للسيطرة على جموح الفرد، لصالح هذه المقتضيات الاجتماعية، التي تحددها مجموعة من القائمين على أمر الجماعة/المجتمع، بما يسمح بإعادة إنتاج المجتمع/الجماعة لذاته، وبما يسمح للجماعة بالتمايز عن غيرها من الجماعات البشرية المماثلة، والتي أحيانًا ما تكون مجاورة، وفقًا لمجموعة من الخبرات التي حدثت في الماضي، ثبت قدرتها على مواجهة العقبات التي تعوق استمرار الجماعة، وتهدد مسيرتها، وعبر مؤسسات تعددت وتطورت على مر العصور، وصولًا إلى العصور الحديثة والمعاصرة، والتي شغلت فيها المدرسة (المؤسسة التعليمية) حيزًا مهمًا في هذا المجال الحيوي بالنسبة للمجتمعات الحديثة، وعلى اختلاف درجات تقدمها وحضورها في العصر.
اقرأ أيضًا.. الخوف من المستقبل
إن منظومة المعارف والمهارات التي تهدف المدرسةـ بوصفها الوسيط في العملية التعليمية ـ إلى توصيلها، هي تلك المعارف التي أنتجها الماضي، والتي اختبر المجتمع (صحتها/صدقها) من خلال الخبرات التي حدثت في الماضي، ويقوم القائمون على العملية التعليمية في المدرسة (معلمون، أخصائيون، إداريون) بنقل هذا الإرث المعرفي للأطفال.
أما منظومة القيم فإنها تتكون كذلك من المعايير السلوكية التي تكونت في الماضي، ويصبح على المدرسة بناء عادات السلوك لدى الأطفال وفقا لها، فعن طريق المدرسة يتم الاتصال بين علم الماضي وحكمته وبين التلاميذ، ومن خلال التنظيم المدرسي تفرض قواعد السلوك عليهم، فإذا كان الهدف الأساسي للمؤسسة التعليمية هو تأهيل الأطفال لتحمل مسئولية المجتمع في المستقبل، وإذا كانت مجموعة المعارف والمهارات والقيم الواجب تعلمها والمتضمنة في المناهج والمقررات التعليمية المؤدية لهذا الطريق، هي تلك التي انحدرت من الماضي، يصبح من الواجب على التلاميذ تقبلها واحترام مكوناتها كما وصلت إليهم، ويصبح موقفهم من معلميهم هو موقف التقبل والطاعة.
إن جل الخبرات التي يتعلمها الأطفال هي خبرات غير حاضرة، خبرات حدثت على الجانب الآخر، تمامًا مثلما يحدث مع الأمطار والجبل، فالمطر عادة ما يسقط على جانب واحد من الجبل، أما الجانب الآخر فيقع في ظل المطر، وبقدر ما يكون الجانب الأول ممتلئ بالحياة والحيوية، يكون الجانب الآخر جدبًا.
يحيا الأطفال إذن خبرات ليست ملكهم، ويواجهون مشكلات لا تعنيهم، ويتعلمون مهارات ومعارف لا تنتمي إلى الواقع الذي يحيونه، وتقدم إليهم جميعها بوصفها الوسيلة الوحيدة للنجاح والتفوق، ومن ثم يتنافس جميع التلاميذ على تحصيل هذه المعارف، واكتساب تلك المهارات، والظهور بمظهر الحافظين لتلك القواعد السلوكية، ويتنافسون من أجل التفوق للحصول على المهن المتميزة والوظائف العليا، أما الذين لا يتمكنون من تحصيل واكتساب تلك المعارف، والمهارات، والقيم، فيتم إقصائهم خارج المنظومة، من خلال نظام تقويمي صارم، لا يسمح بالتواجد لغير القادرين على التحصيل، مثلما لا يسمح بالتواجد للمتمردين وغير القادرين على التكيف.
يصبح المنتج النهائي من هذه العملية في صورته المثالية: هو ذلك الشخص القادر على تقبل مع الوضع السائد، وليس القادر على تغييره وتطويره، بما يتناسب والشروط الاجتماعية الموضوعية والذاتية الطارئة على المجتمع، الشخص القادر على إطاعة وتنفيذ القرارات المطلوبة، والصادرة إليه، وليس القادر على اتخاذ القرارات التى تناسب المواقف الجديدة والطارئة، الشخص القادر على تذكر الخبرات الماضية التي تبدو متشابهة، ومن ثم إعادة إنتاجها، وليس القادر على مواجهة خبرات جديدة حاضرة يحياها ويتعامل معها بأفاق مفتوحة، وعقل مرن، قادر على استيعابها والتفاعل مع مفرداتها دون خوف يقيده أو انبهار يجرفه، تقوم المدرسة على إنتاج أفراد قادرة على التعايش مع حياة سابقة، بشروطها الموضوعية، وظروفها المادية، وخبراتها الحياتية، بدعوى إعادة إنتاج المجتمع، وضرورة تكيف أعضائه الجدد مع معطياته، فتشبع أفرادها بالثقافة المسيطرة، وتدخلهم في نسيج النظام الاجتماعي السائد، فيصبحون أكثر تقبلا لمعطياته، ويعيشون وفقا لقواعده.
مبدأ بيتر
يؤكد هذا المبدأ على أن العمليات النظامية والإجراءات الروتينية تساعد الموظفين من ذوي الكفاءة “الاعتيادية” على الترقي، إلى أن يصلوا إلى المواقع القيادية، مزيحين كل من أصحاب الكفاءة العليا، والأشخاص من ذوي الكفاءة المتدنية، لنعطي مثالا على هذا من العملية التعليمية: من المؤكد أن المدارس ستطرد المدرسين الكسولين الذين يتناسون الجداول، والذين لا يعرفون شيئا عن موضوع المقرر الدراسي، ولكنها ستطرد أيضا وعلى نفس النهج، المدرس المتمرد، الذي يغير من المقرر الدراسي بعمق، وهذا الذي قد يفيد الطلاب الذين يعانون من صعوبات التعلم ليلحقوا بأفضل الطلاب، وبالطريقة نفسها.
ستقوم المدارس بطرد المدرس الذي يساعد الطلاب على الوصول إلى معارف ومهارات مقرر لها ثلاثة أعوام لينهونها في عام واحد. ففي هذه الحالة الأخيرة فإن “المدرس” –وفقا لبيتر، وهال- ملام لأنه قد أربك نظام التعليم/التقويم (التقليدي/المعتاد)، ذلك لأنه قد تسبب في إرباك المدرس ذو الكفاءة الاعتيادية، مثلما أربك النظام الاعتيادي/الروتيني الذي تضعه المدرسة. والذي عادة ما ينتج هذا الشخص “المتوسط الكفاءة” الذي يطلق عليه “إينزينسبرجر”: الشخص “الأمي ثانويا”.
وهذا الشخص (الأمي ثانويًا) متوسط الكفاءة، هو نتاج نظام اعتيادي/ تقليدي، يخشى الابتكار والإبداع، يعتبر نفسه عالما بالأمور، يمكنه أن يتعامل مع: التعليمات، والرسوم التخطيطية، والشبكات، فهو شخص قادر على التعامل مع المعارف العملية، دون أن تقوده هذه المعارف إلى الرؤية التي تستند عليها تلك المعارف العملية المزود بها، ولا يستطيع بالطبع مساءلتها، وفي النهاية، عادة ما يحيط هذا الشخص نفسه بوسط/سياق يحميه مثل “سور عازل”، في مواجهة أية أفكار أو رؤى قد تخترق وعيه (الاعتيادي).
وفي حين أن عدم الكفاءة ربما تصبح عائقًا أمام مزيد من الترقي، فإن الكفاءة المتدنية، والكفاءة الفائقة تمثل أسبابًا واقعية للفصل، ففي كلتا الحالتين “فإن هؤلاء يميلون إلى تعطيل التسلسل الهرمي”، أحد الأمثلة على الموظف ذو الكفاءة الفائقة (غير المرغوب فيه) هو معلم الأطفال من ذوي الإعاقة، والذي كان فعالًا لدرجة كبيرة في تعليمهم، للحد الذي تمكنوا فيه – بعد عام واحد- من أن يتجاوزوا جميع التوقعات في القراءة والحساب، لكن هذا المعلم لا يزال مطرودا، لأنه أهمل تخصيص وقت كاف لـلأنشطة المقررة سلفًا مثل: “لضم الخرز”، “ولوحة الأرقام المجسمة”، وهو نشاط (مقرر) مدرسي يجب الانتهاء منه في حينه.
وهؤلاء الأشخاص لا يفكرون لأنفسهم، ولأغراض الترقي الوظيفي، يفوضون القيادات العليا، للتفكير نيابة عنهم، ويدعون قواهم العقلية جانبا، مرددين: “التافه هو من ينجو، للتفاهة فرصا أكبر في النجاح” على حد قول: “ألكستدر زينوفييف”. أما هؤلاء الأشخاص من ذوي الكفاءة العالية، وغير الاعتيادية، فالأمر منوط بهم، هل يمكنهم تعلم كبح جماح كفاءتهم؟!، هل يستطيعون الحد من نشاطاتهم ووضعها في إطارهم الضيق؟! إنه أمر يعود إليهم، وإلى أهدافهم الشخصية، ورغباتهم الملحة في الترقي الوظيفي من عدمه، والانخراط في سياق الأطر والمعايير التي تضعها مؤسساتهم لتحديد طبيعة النجاح الوظيفي، والنموذج المثالي للشخص الناجح.
ديلبرت ودوجبرت
هنا يتداعي التساؤل من خلال منتج قصص هزلية مصورة يدعى: “سكوت ريموند أدامز” وهو يتساءل عما إذا كان يمكن للبشرية البقاء على قيد الحياة على المدى الطويل، أم ستنقرض عند الوصول إلى مستوى عدم كفاءتها مع تقدم التكنولوجيا؟! فأنتج قصة فكاهية مصورة وأسماها “ديلبرت”، وقد لاقت نجاحا عظيما، وتدور حول: “ديلبرت” وكلبه الأليف “دوجبرت” في منزلهم، حيث دارت عديد من المؤامرات المبكرة حول طبيعة المهندس “ديلبرت” واختراعاته الغريبة. وكانت المؤامرات بارزة على أساس (جنون العظمة) وطموحات المهندس غريب الأطوار. وفي وقت لاحق، انتقل موقع الأحداث (في معظمها) إلى مكان عمل “ديلبرت” -موقع مكان العمل هو وادي السيليكون- وبدأ البرنامج في التهكم على التكنولوجيا، ومكان العمل، وقضايا الشركة.
ديلبرت يصور ثقافة الشركة على أنها “كافكا” عالم البيروقراطية، لعدم مراعاتها لمصالحها، ولسياسات المكتب التي تقف في طريق الإنتاجية، حيث لا تكافأ مهارات الموظفين وجهودهم، ويظهر كثير من الفكاهة في هذا الصدد، وعندما يرى الجمهور أن الشخصيات تتخذ قرارات سخيفة بشكل واضح، والتي هي ردود فعل طبيعية لسوء الإدارة، ينتج في نهاية المطاف “مبدأ ديلبرت” -وكأن هذا المبدأ يحدث فعليا في كل مواقع عمل- ويدور حول مفهوم أنه في كثير من الحالات يتم ترقية الأشخاص الأقل كفاءة، والأقل ذكاء، وذلك ببساطة لأنهم الأشخاص الذين لا تريدهم للقيام بالعمل الفعلي، تريدهم أن يطلبوا الكعك، ويصرخون على الناس لعدم قيامهم بمهامهم. إن جراحي القلب ومبرمجي الكمبيوتر – والأشخاص الأذكياء – في معظم الأحوال ليسوا في الإدارة.