لا تزال جريمة الثأر تلقي بظلالها على المجتمع من حين لآخر. رغم الثورة المعلوماتية وارتفاع نسب التعليم إلا أنها مازالت الجريمة الأكثر فتكًا خاصة في محافظات الصعيد. حيث التمسك بالعادات وتعاليم الآباء والأجداد.
الثأر كان يحمل شعار “النفس بالنفس” لكن مع التطور، أصبحت لـ”الوجاهة الاجتماعية” يدًا في القصة. الكثيرون بدأو يتفاخروا بحصد أكثر من روح مقابل “قتيل العائلة”. بل أن الجريمة طالت الأطفال والنساء. إذ تعمدت بعض العائلات حصد أكبر عدد من الأرواح.
الحادث الأخير .. العنف واقحام الأطفال والنساء في المشهد
الحادث الأخير بمحافظة قنا أعاد الحديث عن الثأر مرة أخرى، لكونه أحد أكثر عمليات الثأر عنفًا في صعيد مصر. إذ أسفر عن قتل 11 شخصًا بينهم نساء وأطفال. كما أدى لإصابة آخرين في قرية أبو حزام التابعة لمركز نجع حمادي.
قصة الحادث الأخير سببها صراع بين عائلتي “السعدية” و”العوامر” نتيجة مقتل شخص بطلق ناري. على خلفية نزاع مع شريكه بسبب خلاف على تجارة غير مشروعة بينهما. وبينما كانت عائلة القتيل في طريقها للأخذ بثأرها. عرف أهل القاتل ونصبوا لهم كمينًا أدى لتصفية الأسرة الأولى كاملة. وحدثت المفاجأة حينما تم كشف هوية الركاب من الأطفال والنساء. إذ اتضح أنهم ينتمون لعائلات أخرى. ما جعل الأمر ينذر بكارثة ثأر جديدة بين عدد أكبر من العائلات.
ورغم أن الواقعة وفقًا لرواية الأهالي تمت نتاج خلاف على تجارة غير مشروعة. إلا أن الأبناء يصروّن على الثأر دون مراعاة لعدد القتلى الذين وقعوا حتى الآن. ما دفع الأمن للدفع بقوات إضافية لتطويق القرية في محاولة لمنع تجدد الاشتباكات بين العائلات.
مفهوم الثأر وأسبابه
يرتبط الثأر بأولياء الدم “من أقارب القتيل” الذين يرغبون في الحصول على القصاص من القاتل أو ابناءه أو أقاربه انتقامًا له. لكن دون مراعاة للقانون ولا الأحكام القضائية.
ويشرح استشاري الطب النفسي، الدكتور جمال فرويز، بعض الأسباب التي تدفع الأشخاص للحصول على الثأر. أو الانتقام وفي مقدمتها “المعايرة” بين العائلات التي قد تجعل الأمر يشتعل. كما أضاف أنه شاهد بنفسه على أحد القصص في الصعيد تمثلت في وقوف ابن القتيل في أحد المحلات التجارية لتناول مشروب غازي. فقال له المارة “لك نفس تشرب البارد ودم أبوك التراب مشربهوش لسة”. بعدها ذهب الشاب ليحرق 7 أشخاص في كوخ بأرض زراعية انتقامًا منهم.
وأضاف فرويز أن توافر السلاح وانتشاره في الصعيد منذ حرب 1967 حتى الآن أحد أهم العوامل التي تسببت في زيادة معدل الثأر. معتبرًا أن قوات الأمن تداركت ذلك الأمر وسعت بكامل طاقتها لمنع تداول السلاح. إذ يدعي الكثير من الأشخاص أنه موجود للحمايتهم من المطاريد.
أسباب دخول النساء والأطفال في المشهد وغلبة المصلحة والانتهازية على قضايا الثأر
اعتبرت أستاذ علم النفس الإكلينيكي بجامعة الأزهر، دكتورة هناء أبو شهبة، أن إقحام المرأة في الثأر يرجع إلى التغير الاجتماعي في محافظات الصعيد. الكثير من البنات أصبحن يذهبن للجامعات بما قد يصل إلى 80% في بعض المحافظات. كذلك يشغل بعضهن مناصب كبيرة.
وأضافت هناء أن التحول في القوة قد يكون أحد الأسباب التي دفعت للثأر من المرأة. فبعض البنات يعولن أسرهن، كما يعتبرن مصدر الإنفاق عليها. وبعض الرجال قد لا يكونوا ذوي شأن، وبالتالي الثأر منهم لا يعتبر ثأرًا حقيقيًا.
بينما أكد فرويز، أن قتل المرأة والطفل في جرائم الثأر نتاج مسخ ثقافي وارد إلى الصعيد ولا علاقة له بالتكوين النفسي للصعايدة. كما اعتبر أن الأصل في الثأر هي حرمانهم من العنصر الأقوى لديهم. ويبدو أن لقتل النساء والأطفال في الآونة الأخيرة هذا التأثير ما جعل التخلص منهم أمرًا مطروحًا.
وسرد فرويز أنه سبق ورأى بعينة كارثة ثأر قتل فيها 32 شخصًا من فترة طويلة بدون وجود امرأة أو طفل أو مُسن. وهو المتعارف عليه وأساس عملية الثأر بين العائلات الكبرى. مؤكدًا أن قوة العائلة تتحكم في عدد الثأر فالبعض يحصد أمام النفس 7 أنفس وآخرون يعصفون بالقواعد وقد يطيحوا بقرية كاملة. كما أنه من الممكن أن تحدث النتيجة العكسية فقوة العائلة قد تجعل الطرف الآخر أكثر خوفًا ويتنازل عن الثأر لقتيله حقنا لدماء باقي أفراد الأسرة.
وأضاف استشاري الطب النفسي جمال فرويز، أن سوء الأوضاع الاقتصادية له تأثير مباشر في الضغوط التي يعاني منها أهل الصعيد. فالفقر عادة ما يجعل الإنسان يفقد اتزانه “ولا يبقى على شئ لأنه لا يملك سبب يردعه”. كما أن التلاعب بالقانون ووجود أحكام مخففة من وقت لآخر تتراوح من “3 لـ7 سنوات”، تجعل أسرة القتيل تحتد وتُصر على انتزاع ما تعتبره حقًا لها بيدها. بالإضافة إلى حرارة المناخ وجفافه وما لها من تأثير في حدة تكوين الشخصية الصعيدية.
المرأة العنصر القوي والأكثر احتياجًا للتوعية في عملية الثأر
“ابحث عن المرأة” مقولة بدأت بها الدكتورة هناء أبو شهبة، أستاذ علم النفس في جامعة الأزهر حديثها. إذ أكدت أن المرأة هي العنصر الأقوى في معادلة الأخذ بالثأر في صعيد مصر. كما اعتبرتها تختلف كثيرًا عن نظيرتها في مختلف أنحاء الجمهورية من حيث القوة والحدة والصلابة فيما تعتقد.
وأضافت هناء أبو شهبة أن المرأة الصعيدية هي الأكثر احتياجًا للتوعية لأنها مصدر كل الأزمات والأكثر حرصًا على الأخذ بالثأر. في الوقت الذي يمكن للرجل فيه التراجع والتأثر بالأسباب التي قد تحول دون إتمام الثأر. إلا أن المرأة لا تعدل عن هذا التوجه الجاف والجامد الذي نشأت عليه. باعتبارها العامود الأقوى في الأسرة الصعيدية وصاحبة النفوذ والتأثير الكبير على جميع أفرادها.
فيما أكد فرويز أن المرأة في صعيد مصر عادة هي التي تشعل نيران الأخذ بالثأر خاصة إذا كان القتيل ابنها. بينما لا تجعل أفراد الأسرة يهنئون لحظة واحدة دون الأخذ بالثأر. كذلك اعتبرتها شرارة النيران التي لا تخمد قبل الاتيان بحق القتيل وفقاً لما تعتقده.
التشريح النفسي للراغب في الثأر “يدخل دائرة عنف لا تنتهي بتحقيق رغبته”
اعتبرت المعالجة النفسية، الدكتورة نهى النجار، أن الأمر في بدايته يرتبط بمشاعر حزن عميقة تم كبتها لفترة. وتتحول مع الوقت لحالة عنف عامة صوب هدف الثأر أو الانتقام. لافتة إلى أن هناك عوامل تحفيزية تتم لزيادة حدة هذه المشاعر في مقدمتها الامتناع عن “العزاء” وهو مساحة لتفريغ المشاعر وتذويب كبتها.
والثأر هو تلبية للاحتياج النفسي الذي يظن صاحبه أنه سينتهي تمامًا بعد تحقيق رغبته وهو أمر لا أساس نفسي له على الإطلاق. فبعد تحقيق ذلك الهدف والثأر للقتيل يجد الشخص نفسه أمام أزمة حقيقية. ترتبط ببقاء المشاعر السلبية والعنيفة في الوقت نفسه، وهو ما يجعله مستمر في عدوانيته تجاه الآخرين.
ويدخل الباحث عن الثأر حتى بعد الحصول عليه في دائرة من العنف تجاه الآخرين سواء في أسرته أو خارجها. قد يتحول بشكل أو بآخر إلى مجرم كل ذلك يأتي نتيجة مباشرة لكبت المشاعر وحرمان صاحبها من تفريغها عقب صدمته الأولى.
كيف عالجت الدراما القضية
اعتبرت الناقدة الفنية، ماجدة خير الله أن الدراما تناولت القضية في الصعيد بشكل كاشف. معتبرة أن معالجة الواقع ليست من اختصاص الفن هو فقط يشير لما هو موجود ويسلط الضوء عليه. كما يحدث في قضايا العنف ضد المرأة وختان الإناث فكلها أمراض مجتمعية تعالج درامياً بطرحها وكشف الستار عنها.
ولفتت ماجدة إلى أن النيران لا تنطفئ في صدر المرأة إلا بأخذ ثأرها وهو أمر ظهر جليًا في فيلم “أغنية الموت” التي جسدت بطولته الفنانة فاتن حمامة. التي تدور أحداثه حول سعي الأم خلف ابنها لينتقم لوفاة أبيه وكيف أخفته ليشتد ساعده لهذا الغرض متحملة آلام البعد. بل وتغامر بقتله في نهاية الفيلم بعد تنفيذ إرادتها والأخذ بثأرالعائلة. كذلك نجد “خالتي صفية والدير” والسعي وراء الثأر الذي تقوم ببطولته “صفية” وحجم الصمود والجفاء الذي سيطر عليها في سعيها وراء ماتبغيه.
واعتبرت خير الله أن المرأة الصعيدية تسعى بكامل طاقتها نحو تحفيز الأسرة على الثأر. وإن وصل الأمر إلى الهلاك باعتباره شرف العائلة. مضيفة أن هناك العديد من الأعمال منها فيلمين لوحيد حامد. وهما “الإرهاب والكباب” الذي جسد فيه أحمد راتب دور الشاب الهارب من الانتقام. كذلك “الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة”. كذلك أشارت إلى أن تاريخ السينما والدراما المصرية حافل بالأعمال الكاشفة عن جذور قضايا الثأر والأزمات القابعة في صعيد مصر.