بحسب التقديرات الرسمية تبلغ نسب عمالة الأطفال في مصر مايقرب من مليوني طفل، كما أن عدد ساعات العمل التي يقضيها هؤلاء الأطفال في العمل تتعدى أكثر من 9 ساعات يومياً في المتوسط، و أكثر من ستة أيام في الأسبوع بشكل يتجاوز عدد ساعات العمل للكبار.
وبالرغم من تجريم عمل الأطفال في كافة دساتير العالم، وبينما يتم الاحتفاء بمواجهة هذه الظاهرة عالميا في 12 من يونيو من كل عام، تشير الأرقام إلى تفاقمها في ظل أزمات اقتصادية لا تنفك أن تنتهي إحداها، حتى تبدأ أخرى، وفي الدستور المصري وفي مادته الـ 80 تحديدا.
عمالة الأطفال في الدستور المصري.. المادة 80
“تلتزم الدولة برعاية الطفل وحمايته من جميع أشكال العنف والإساءة وسوء المعاملة والاستغلال الجنسي والتجاري. كما يحظر تشغيله قبل تجاوز سن إتمام التعليم الأساسي. ويحظر تشغيله في الأعمال التي تعرضه للخطر”.
وبحسب الناشط في حقوق الطفل هاني هلال، يعد عمل الأطفال في مصر ثاني أكثر الظواهر التي تهدد وتنتهك حقوق النشء في مصر، مشيرًا إلى عدم اعتراف المجتمع المدني بالأرقام الرسمية التي تقول إن عدد الأطفال العاملين مليون ونصف طفل. نظرًا لأنه يستثنى قطاعات كبيرة غير منظورة من عمل الأطفال. بينما هناك دراسات تتحدث عن 3.5 مليون طفل عامل.
أما رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال المحامي أحمد مصيلحي يقول إن الأرقام الرسمية خفضت الرقم من مليون و800 ألف إلى مليون و200 ألف. وفي كل الأحوال فإن الأرقام غير دقيقة نتيجة عدم رصدها للأطفال العاملين في الريف. كذلك المنضوين للعمل في مشاريع خاصة تخص الأسرة نفسها. لافتًا إلى أن الطفل لا يعد ملكية خاصة للعائلات وفقًا لنصوص القانون نفسه.
جريمة متكاملة الأركان
تروي الأرقام التي تتباين من جهة إلى أخرى قصة جريمة متكاملة الأركان، تتكرر أحداثها بشكل يومي. قرر فيها المجتمع التسامح أو التغافل عنها. ليصبح مشهد “الواد بلية” ذلك الصبي الذي تجده في الورش الحرفية من المشاهد المعتادة.
يروي لنا محمد البالغ من العمر 19 عامًا قصته مع العمل مبكرًا. “أبويا مريض وأمي ست بيت ومتعلمتش، عندي ست أخوات. أنا الكبير مقدرتش أكمل تعليمي، واشتغلت في محجر وأنا عندي 10 سنين. جالي ربو على صدري، ولما جه وقت الجيش اكتشفت أني هقضي 3 سنين فيه فهربت. لأن مين هيصرف عليا التلات سنين دول، ومن هيسأل في أخواتي. دلوقتي 3 منهم خرجوا من المدرسة كمان، وبقيت خايف في أي وقت اتحبس”.
أما “أ. ع” الذي فضل عدم الكشف عن اسمه فقال: “عندنا ورشة نجارة في البيت، أبويا كان بينزلني فيها من عمر 9 سنين. خلصت الابتدائية وقالي أنت مش نافع في تعليم. كفاية عليك اقعد ساعدني”. معقبًا: “انتهت علاقتي بالتعليم والعملية كلها من بدري”.
يعرف هاني هلال عمل الأطفال كجريمة “بكل عمل ضار بصحة الطفل أو بنموه أو رفاهيته، فيضع أعباء ثقيلة على الطفل. و يهدد سلامته وصحته ورفاهيته ويستفيد من ضعف الطفل وعدم قدرته على الدفاع عن حقوقه” بينما يقسم المسألة إلى 3 أقسام جميعها يحظرها القانون الدولي ويصفها بالأسوأ ومنها: “التي عرفت دوليًا بالاستعباد والاتجار بالبشر والعمل سدادًا للدين و سائر أشكال العمل الجبري. إلى جانب توظيف الأطفال جبرًا لاستخدامهم في النزاعات المسلحة وأعمال الدعارة والأعمال الإباحية والأنشطة غير المشروعة، أو العمل الذي يؤديه طفل دون الحد الأدنى للسن المخول لهذا النوع من العمل بالذات. والعمل الذي من شأنه إعاقة تعليم الطفل ونموه التام. كذلك العمل الذي يهدد الصحة الجسدية والفكرية والمعنوية للطفل أكان بسبب طبيعته أو بسبب الظروف التي ينفذ فيها. أي ما يعرف بمصطلح العمل الخطر” .
خطيئة المجلس القومي للطفل الذي فقد استقلاله
هلال يلفت إلى أن ملف حقوق الطفل واحد من الملفات الاجتماعية والاقتصادية التي تأثرت كثيرًا بالأحداث التي مرت بها مصر بعد ثورة يناير. فبعد أن كانت القضية على رأس الأولويات، تراجع الاهتمام بها.
يتجلى هذا التراجع في فقدان المجلس القومي للأمومة والطفولة استقلاليته بعد أن أصبح مجرد تابع لإشراف وزارة الصحة، الأمر الذي أضعف دوره التنسيقي في كافة مجالات حماية الطفل المصري وحقوقه المنصوص عليها في التشريعات الوطنية والدستور.
بينما يشير هلال إلى محاولات إعادة النظر في الوضع القانوني لهذا المجلس داخل البرلمان حاليًا. يشدد رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال المحامي أحمد مصيلحي إلى ضرورة أن يتبع هذا الكيان مؤسسة الرئاسة بشكل مباشر. حتى يستعيد قوته في مواجهة مختلف الوزارات بما فيها وزارة القوى العاملة.
خط نجدة الطفل خارج الخدمة
ويرثى مصيلحي لحال المجلس القومي الذي تحول لمجرد رد فعل، يقتصر دوره على متابعة جريمة هنا ورأي عام هناك. فيباشر عمله عبر مجموعة من البيانات، بينما عمله الأساسي يتمثل في رسم سياسات وخطط استراتيجية تهدف إلى حماية الطفل، والرقابة على مختلف الوزارات.
أما الناشطة في حقوق الطفل منى فتح الباب فتشير إلى تهاون يشوب عمل المجلس القومي. فحتى فيما يخص خدمة خط نجدة الطفل، الذي يعد بمثابة خط ساخن. يخص الإبلاغ عن أي انتهاك يمس بحق الطفل قد ننتظر أشهر حتى يتم الرد علينا أو الاستجابة لطلبات المواطنين” على حد قولها.
البطء في الإجراءات من قبل المجلس يصل إلى حد التقارير المطلوبة منه بخصوص قضايا الطفل في المحاكم. التي تضطر النيابة معها أحيانًا إلى مخاطبة المجلس بنفسها لاستعجال الأمر، وفق ما شهدته فتح الباب بنفسها.
الفقر.. كفاعل أساسي في عمالة الأطفال
تشير دراسات إلى أن الفقر هو السبب الرئيسي في انخراط الأطفال في سوق العمل على أمل زيادة دخل الأسرة كوسيلة للبقاء على قيد الحياة. وتوضح الأرقام الرسمية تفشيه بين كل من المرأة، والطفل بنسب أعلى انطلاقًا من وضعهما كحلقة أضعف في المجتمع.
تشير بيانات ما قبل كورونا، إلى معاناة 10 ملايين طفل من الفقر المتعدد الأبعاد في مصر. ترتفع في الريف عنها في الحضر. وفي ظل الوباء قاومت الأسر تصاعد حدة الفقر، عبر عمل الأطفال. ظهر ذلك في التسرب من التعليم الإعدادي، والثانوي، الذي كان على أشده بدءا من العام 2018.
الناشط هاني هلال عامل يضيف إلى الفقر، عامل تخلف المناهج التعليمية إلى أسباب توجه الطفل للعمل. وبحسب الدراسات بلغت نسبة تسرب الأطفال من التعليم 25% نظرًا لطبيعة المناهج التعليمية الطاردة. كذلك ارتفاع سن القبول بالتعليم.
ورغم ذلك يفاجئنا هاني هلال بحقيقة أن عمل الأطفال يزيد فقر الأسرة لأنه يحرم الطفل من فرصة تعليم مناسبة قد تخلق له فرصة عمل أفضل. كما يجعله سلعة رخيصة الثمن ما يجذب أصحاب العمل لاستخدامهم. ما يسبب ارتفاع نسبة البطالة بين الراشدين.
التأثير السلبي لعمالة الأطفال
في الصورة الأكبر، يحذر المحامي أحمد مصيلحي من الآثار الشرسة لعمالة الأطفال على المجتمع، معتبرًا أن كل طفل تحت الـ15 سنة يضطر للخروج إلى سوق العمل بمثابة فرد فقد مشاعر الانتماء إلى هذا الوطن.
الباحثة منى فتح الباب تلفت إلى الآثار النفسية التي يصعب مداوتها، من إحساس بالتمييز والظلم المبكر، ليصبح الطفل فرد ناقم على أسرته ومجتمعه.
أما هاني هلال فأشار إلى ارتفاع معدلات الإصابة والوفيات بين الأطفال الذين لا يتم تأمين ظروف عملهم أو حتى تنقلاتهم.
عمالة الأطفال.. والمجتمع المدني المستهدف
لعب المجتمع المدني المصري دورًا مهمًا في مكافحة أسوأ أشكال عمل الأطفال على مدار عقود طويلة. وابتكر العديد من التجارب المهمة في تحويل مسار العمل من العمل الخطر إلى عمل أقل خطورة. وكان دائمًا ما يقف عاجزًا أمام توفير نسبة الدخل الذى يوفرها الطفل لأسرته والتي تبلغ 30% من دخل الأسرة بحسب الإحصائيات. بحسب هاني هلال.
لكن في ظل الهجمة على عمل منظمات المجتمع المدني وإبعاده عن أنشطته المعتادة تفاقم وضع الأطفال وزاد التسرب من التعليم. ومع ذلك يستمر دور هذا المجتمع في تدريب الكوادر القضائية الخاصة بالعمل مع الاطفال، بحسب الباحثة منى فتح الله.
أما أحمد مصيلحي فيشير إلى الضغوط التي يتعرض لها عمل المجتمع المدني، وتحجيم وجوده عبر الجهات الحكومية. إلى الحد الذي تتم فيه المحاسبة على التقارير النابعة عن تلك المؤسسات، في حال مخالفتها للتوجهات الرسمية.
عمالة الأطفال.. نواقص القانون
أفرد المشرع الباب الخامس من قانون الطفل لحماية الأطفال العاملين تحديدًا من مادة (64) إلى المادة (69). شروط تشغيل الأطفال من سن وساعات عمل. كذلك التسجيل لدى مكاتب القوى العاملة إلى جانب الرعاية الصحية. كما حظر في مادة (65) المهن التي لا يجوز تشغيل الأطفال فيها.
لكن رغم أن قانون الطفل يسري على جميع قطاعات العمل دون استثناء. إلا أنه لايزال تفتيش العمل يتقيد باستثناءات قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 للأطفال العاملين بالزراعة البحتة، والفتيات العاملات بالخدمة بالمنازل.
ويقترح هلال توحيد المواد المعنية بحقوق الأطفال العاملين في قانون الطفل، وفي قانون العمل دون استثناء. فمن ناحية إلغاء الفقرة الثانية من مادة 64 التي تتيح تشغيل الأطفال من سن 12: 14 بقرار من المحافظ في أعمال موسمية. وكذلك تشديد العقوبة على مخالفة أحكام باب تشغيل الأطفال.
إلى جانب مد الحماية التشريعية لتشمل الأطفال العاملين في الزراعة وضرورة تنظيمها من خلال اللائحة التنفيذية لقانون الطفل والقرارات المنظمة له، أسوة بالقرارات التى تنظم عمل البالغين العاملين بالزراعة.