هذا سؤال لم يطرح من قبل في حدود علمي
وهو سؤال مهم في اعتقادي؛ للأسباب التي سأبينها توًا، ولكن بعد أن ألفت الانتباه إلى أنني لا أقصد مقارنة الأيام أو السنوات القليلة الأولى بعد هزيمة الثورة العرابية والاحتلال البريطاني بالأيام والسنوات القليلة الأولى بعد الهزيمة أمام إسرائيل واحتلالها سيناء في يونيو عام 1967، وإنما أقصد مقارنة مجمل التطور السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي في البلاد بعد الهزيمة الأولى، والذي من خلاله أمكن للمصريين تجاوز عقدة الهزيمة، بنظيره بعد الهزيمة الثانية عبر نصف القرن الذي أعقب كلا من الهزيمتين، بما أننا نجتر في هذه الأيام آلام الذكرى الرابعة والخمسين لهزيمة 67، دون أن نتمكن من تجاوز عقدتها.
من أوجه الشبه بين تلكما النكبتين أن طموحات وتفاؤل المصريين بالمستقبل قبلهما كانت تطاول السماء، وأن الهزيمة في المرتين حدثت بأسرع وأشمل من أكثر التوقعات تشاؤمًا، وبالتالي فقد كانت الصدمة مزلزلة للنخبة وللشعب على السواء، مع تحفظ لا يقدِّم ولا يؤخر، وهو أن الإدراك الشعبي لهول الصدمة عام 1967 احتاج بضعة أسابيع لكي يكتمل، ويعبر عن نفسه في حملة سخرية مريرة من القيادتين السياسية والعسكرية في ذلك الوقت، ومن أوجه الشبه أيضا أن الشعب- أكرر الشعب – كان الأسرع رفضًا للهزيمة من نخبته، وكان القوة الدافعة لاستئنا المقاومة، وهنا سيتجلى الفرق الذي يتساءل عنه عنوان المقال، والذي سيحدد مجمل التطور السياسي وملحقاته في البلد طيلة العقود التالية.
طموحات وتفاؤل المصريين بالمستقبل قبلهما كانت تطاول السماء، وأن الهزيمة في المرتين حدثت بأسرع وأشمل من أكثر التوقعات تشاؤمًا، وبالتالي فقد كانت الصدمة مزلزلة للنخبة وللشعب على السواء
بعد هزيمة 67 اقتصر دور الشعب، أو أريد له أن يقتصر ، على تجديد شرعية جمال عبد الناصر القائد السياسي المهزوم ونظامه، وهذا ما كان باستثناء تقلصات جماهيرية تحتج على عدم الجدية في بحث أسباب الهزيمة ومحاسبة المسئولين عنها، أو للضغط على الرئيس الجديد أنور السادات لإنهاء حالة اللاحرب واللاسلم بقيادة الحركة الطلابية في المقام الأول، وصولا إلى حرب أكتوبر 1973، ولا شيء أكثر من ذلك، بمعنى أن هذا الدور الحاسم للشعب وللحركة الطلابية لم يتطور أو بالأحرى لم يسمح له بالتطور نحو تأسيس مجتمع سياسي ديناميكي فاعل ومشارك في اختيار أو تغيير السلطة، وصنع السياسات ومراقبة المسئولين ومحاسبتهم، فضلاً عن تفريخ القيادات الطبيعية للمكونات الاجتماعية والقوي السياسية، بما يعني على المدى الطويل النهوض بالمجتمع والدولة إلى الحداثة بكل مشتملاتها، وهو ما يقتضي أولاً وقبل كل شيء اجتثاث الجذور أو الأسباب العميقة للهزيمة، تلك المتمثله في سيادة قيم وعلاقات وأعراف ما قبل عصر القانون والعلم والصناعة والتكنولوجيا.
باختصار علينا أن ندرك أن تلك القيم والعلاقات غير الموضوعية وغير الرشيدة هي التي أنتجت ظاهرة عبد الحكيم عامر وازدواجية السلطة بينه وبين ناصر إلى حد الصراع، دون قدرة، لا من المجتمع ولا من قيادات النظام، على ضبط هذه العلاقة، وهي نفسها القيم والعلاقات التي رسخت الأنماط المملوكية في عصر انحطاطها، مشبعة بمفاهيم أعيان الريف حول الشهامة الشخصية في إدارة المؤسسة العسكرية، حيث الولاء الشخصي يحل محل الكفاية الاحترافية، وحيث كل صاحب نفوذ ملتزم بحماية رجاله، على طريقة شيوخ الخفر كما قال ناصر ذات مرة لعامر في واقعة محددة لم يتبعها تغيير النمط، اكتفاء بتسوية تلك الواقعة الجزئية جدا وحدها ، وحيث التواكلية والغيبية والثقة الجاهلة بالنفس هي منهج التفكير والعمل.
الحالة العامة للمجتمع والدولة كانت الأقل صلاحية لخوض حرب شاملة ضد دولة وجيش حديثين بكل معنى الكلمة، فقد كان الجندي والضابط عندنا أقل تعليمًا وتدريبًا من نظيريهما الإسرائيليين
فإذا تقدمنا في البحث خطوة أخرى لوجدنا أن الحالة العامة للمجتمع والدولة كانت الأقل صلاحية لخوض حرب شاملة ضد دولة وجيش حديثين بكل معنى الكلمة، فقد كان الجندي والضابط عندنا أقل تعليمًا وتدريبًا من نظيريهما الإسرائيليين، ولنتذكر فقط المفارقة بين تغيير موشي ديان المنتصر في حرب 1956 وكل هيئة أركانه، وبين تثبيت عامر وجنرالاته المهزومين، وليس هذا فقط، فبينما ذهب ديان وكثير من زملائه للدراسة من جديد في جامعات أمريكا وأوروبا، ثم التدريب مع الضباط الأمريكيين على حرب العصابات في فيتنام، تفرغ “مشيرنا” وكبار ضباطه لسهرات الأنس وملاحقة نجمات السينما، كما كانت المقارنة في اللياقة البدنية والحالة الصحية ضدنا، وكما كتب قادتنا العسكريون في مذكراتهم فيما بعد فقد حالت ظروف سوء التغذية والأمراض المتوطنة بين مصر كثيفة السكان وبين مجاراة إسرائيل قليلة السكان في تخريج العدد الكافي من الطيارين الحربيين.
فإذا تذكرنا أن تلك السنوات كانت هي سنوات الفشل في إنجاز الخطة الخمسية الثانية للتنمية بسبب نقص التمويل ونزيف حرب اليمن، وأنها كانت سنوات اضطراب سياسي داخلي عميق داخل النظام وخارجه، إذ تغيرت الحكومة ثلاث مرات في أقل من عامين، وفِي تلك السنوات وقع الصدام الثاني مع جماعة الإخوان أو ما يسمى بتنظيم القطبيين، وتفاقمت سياسات القمع وتفاقم معها السخط الداخلي حول ما عرف وقتها بلجنة تصفية الإقطاع، وإذا أضفنا إلى كل ذلك وجود عدد كبير من قواتنا المسلحة في اليمن، واضطراب علاقات مصر الإقليمية والدولية إلى درجة التأزم الحاد مع الولايات المتحدة وأغلب دول أوروبا والنظم الملكية العربية، فقد كان هذا هو أقل الأوقات مناسبة للدخول في حرب مع عدو وصفناه سابقًا بأنه يملك دولة وجيشا حديثين، ويحظى بحلفاء دوليين أقوى اقتصادا وأكثر تصميما من حلفائنا.
مفهوم أنه لولا الاستبداد، وحكم الفرد، وارتجالية القرارات، وغياب دور مراكز البحث والتخطيط وجمع المعلومات الموثوقة، وانعدام الرقابة والتوازن والمراجعة داخل النظام ذاته، إلى جانب تغييب مشاركة المجتمع ورقابته، ما كان لعاقل أن يتصور اتخاذ قرارات تقود إلى الحرب في ظل تلك المعطيات.
لأسباب أظنها مفهومة لن نستفيض في إثبات أن حرب أكتوبر لم تؤد إلى التغيير الذي كان منشودًا في قيم وعلاقات وأعراف ما قبل الحداثة والصناعة والقانون في النظام العام في البلاد، ولا في الأوضاع التي كرستها وتكرسها تلك القيم والعلاقات في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم والاجتماع والصحة وغيرها، والتي قلنا توًا إنها أنتجت الإسباب البنيوية للهزيمة، وهو ما يظل ساريًا حتي اليوم، وهذا هو السبب الذي من أجله نتفق جميعًا على أننا لم نتجاوز -بعد -هزيمة 1967.
نعود إلى المقارنة مع رفض الشعب المصري لهزيمة الثورة العرابية، وأساليب مقاومته للهزيمة، والقضاء على أسبابها.
نعرف أن الشعب والنخبة أصيبا بحالة ذهول بسبب سرعة الهزيمة واستسلام قادة الثورة لجيش الاحتلال ومحاكمته ونفيهم، وبمجرد الإفاقة من حالة الذهول تلك دخل الرأي العام والنخبة في حالة من لوم الذات وانعدام اليقين، بل والندم على المشاركة في الثورة أو تأييدها، وفاقم من تلك الحالة أن حاكم البلاد وقتها الخديوي توفيق كان هو الداعي لدخول القوات البريطانية، وأن السلطان العثماني صاحب السيادة الاسمية أعلن عصيان عرابي وأيد التدخل البريطاني، واتفق ذلك مع حدوث تحولات مشينة في مواقف بعض الكبار وقتها، وحملات مسمومة ضد رموز الثورة ومناصريها.
المجتمع ككل أضعف من أن يحمي نفسه بنفسه أمام الأجانب سواء كانوا جيش احتلال، أو مؤسسات نهب اقتصادي، أو كانوا جمعيات استلاب ثقافي
لكن ما هي إلا بضعة أشهر حتي بدأت الإفاقة من الدوار ، وبدأ شباب الثورة يتلمس طريقًا للمقاومة، فتشكلت جمعية اليد السوداء لاغتيال جنود وضباط الاحتلال، لكن -وهذا هو بيت القصيد- سرعان ما اكتشف أولئك الشباب بإرشاد من بقي من الزعماء في الداخل أو في المنفي عدم جدوى أسلوب المقاومة العنيفة والجزئية، ليس فقط في إخراج المحتل البريطاني، ولكن أيضًا وأهم في علاج الأسباب العميقة للهزيمة والاحتلال، التي هي نفسها أسباب فشل المطلب الديمقراطي للثورة العرابية، حيث اكتشف الإمام محمد عبده -الذي كان من قادة الثورة – وتلاميذه مبكرا أن العلة تكمن فيما يسمي حاليا بالقابلية للاستعمار أو الهزيمة، بمعنى أن المجتمع ككل أضعف من أن يحمي نفسه بنفسه أمام الأجانب سواء كانوا جيش احتلال، أو مؤسسات نهب اقتصادي، أو كانوا جمعيات استلاب ثقافي، وبمعنى أن أعضاء هذا المجتمع فرادى وجماعات غير واعين بحقوقهم وسبل الحصول عليها والدفاع عنها، بل هم غير واعين بما يكفي بهويتهم الوطنية، وبمعنى كونهم مجتمعًا سياسيًا.
ولما كان الحكم القائم، هو أصلا الذي ثار ضده المجتمع، في إطار الحزب الوطني الأول بجناحيه المدني و”الجهادي“ بقيادة العرابيين، ولما كان هذا الحكم بقيادة الخديوي نفسه قد خضع بالكامل لسلطة الاحتلال، فلن ينتظر منه أن يبادر بمعالجة أسباب تلك القابلية للاستعمار أوالهزيمة، وعلى ذلك فهذه مسؤولية وواجب المجتمع نفسه، أو بالأحرى مسؤولية وواجب نخبة المجتمع المتجاوزة بوعيها وحسها الوطني هذه الحالة المرضية المزمنة، من هنا وقبل أن ينقضي العقد الأول علي الهزيمة والاحتلال كان قد ظهر الجيل الأول من قادة ومنظمات المجتمع المدني (أو الأهلي بلغة تلك الأيام )، فتوالى تأسيس جمعيات النفع العام (الجمعيات الخيرية بلغة أيامها أيضا).
تأسست الجمعيات والنوادي والصالونات الثقافية، ليتولد منها تيارات وأفكار سياسية واضحة المعالم، ورؤي للنهضة والاستقلال، سرعان ما تطورت إلى زعامات وأحزاب سياسية تمتلك أدواتها ومنابرها وكوادرها
وتركزت أولوياتها المطلقة في البداية في ميداني التعليم والصحة، كما تشهد بذلك تجربة الجمعية الخيرية الإسلامية والجمعية الخيرية القبطية، وجمعيات المساعي المشكورة والمبرة والمواساة والإسعاف الخ، كما تأسست الجمعيات والنوادي والصالونات الثقافية، ليتولد منها تيارات وأفكار سياسية واضحة المعالم، ورؤي للنهضة والاستقلال، سرعان ما تطورت إلى زعامات وأحزاب سياسية تمتلك أدواتها ومنابرها وكوادرها، ويمتد تأثيرها إلى كل شبر على الأرض المصرية.
منذ تلك البدايات وحتي ثورة 1919 التي تزعمها الجيل الأول والثاني من قادة ذلك المجتمع الأهلي كان الدور الوطني الحداثي للمنظمات والجمعيات المدنية قد تعاظم علي نحو جدير بالإعجاب، وامتد إلى كل مجالات الحياة المصرية، فكان من ثمراته اليانعة الجامعة الأهلية وبنك مصر والنوادي الرياضية الوطنية بدءًا بالنادي الأهلي الذي أسس بهدف كسر هيمنة الأجانب على الأنشطة الرياضية وقطاع الشباب، وعشرات الصحف الوطنية، وعديد الجمعيات العلمية والثقافية المتخصصة، وصولا -وعلى سبيل المثال -إلى نادي الموسيقى الشرقية، وجمعية أنصار التمثيل، بل وجمعية الرفق بالحيوان، ثم النقابات المهنية، والغرف التجارية واتحاد الصناعات، فالنقابات العمالية في مرحلة لاحقة.
ومن المفارقات المؤلمة لأجيالنا الحالية أن كل تلك التنظيمات لم تكن ديكورًا أو هياكل كرتونية كما صار إليه حال ما تبقي منها بعد استيلاء ضباط يوليو على السلطة، وحتى أجل لا يعلمه إلا الله، بل كانت فائقة الفاعلية والتأثير ، ومثلت في آن واحد الهيكل العظمي والجهاز الحركي للمجتمع والدولة المصريين، وأخصبت الأرض لثورة 1919، وأمدتها بقياداتها الكبرى والوسطى وكوادرها الشعبية والمحلية، ووطنت وعممت بفضل تلك الثورة مفاهيم الحداثة السياسية الرئيسية، وفِي صدارتها الإقرار بأن الأمة هي مصدر الشرعية وصاحبة السيادة وإقرار مبادئ المواطنة المتساوية غير القائمة على العقيدة الدينية والنظام الدستوري وحكم القانون، وألقت بذور تحرير وتعليم وعمل المرأة.
بعد هزيمة الثورة العرابية استمر توسع ونضج الحركة الشعبية ودور المجتمع المدني، ورسوخ مفاهيم وعلاقات العلم والحداثة وحكم القانون، وإدراك قضية العدالة الاجتماعية ووضعها على أجندة الحركة السياسية
وعلى الرغم من الإخفاق في إجلاء الاحتلال العسكري، ومن الانتكاسات الدستورية بسبب رجعية المؤسسة الملكية، فقد مكن هذا الدور الكبير للمجتمع المدني المصريين من تجاوز عقدة هزيمة العرابيين نفسيًا وفكريًا، كما أوضحنا، لا سيما إذا تذكرنا أن إنجازات كبيرة بمعايير زمنها تحققت على طريق الاستقلال كتمصير الإدارة بالكامل بالتخلص من هيمنة المستشارين البريطانيين في الوزارات (ونصيحتهم الملزمة)، وتمصير قيادة الجيش الوطني، وإلغاء الامتيازات الأجنبية والقضاء المختلط، وحصر الوجود العسكرى البريطاني في منطقة القناة، وهو ما يشبه -إلى حد كبير- القيود المفروضة على الوجود العسكري المصري في سيناء في اتفاقية السلام مع إسرائيل، غير أن الأهم من كل ذلك في سياق مقارنتنا بين مصر بعد هزيمة 1976 ومصر بعد هزيمة الثورة العرابية هو استمرار وتوسع ونضج الحركة الشعبية ودور المجتمع المدني اللذين تطورا بعد هزيمة العرابية، ورسوخ مفاهيم وعلاقات العلم والحداثة وحكم القانون، وإدراك قضية العدالة الاجتماعية ووضعها على أجندة الحركة السياسية، وقد ظل ذلك كله فاعلا وقويا ومحددا لوجهة التطور السياسي للبلاد في كل تلك المراحل، بما يقضي على الأسباب البنيوية للهزيمة والتبعية، وأهم دليل على صحة هذه المقولة أن ضباط يوليو أنفسهم استمدوا شرعيتهم في البداية من تبني هذه الوجهة في المبادئ الستة المشهورة، قبل أن يلتفوا عليها.
في حين أن اجترارنا الدائم لذكرى هزيمة 1967 رغم مرور أكثر من نصف القرن عليها يعني أننا لم نستطع بعد تجاوز عقدتها ومرارتها، ولم نستطع التخلص من أسبابها الحقيقية، وذلك لأنه أريد للمصريين -كما سلف القول -إن يقتصر دورهم فقط على تجديد شرعية النظام المهزوم، ثم يعود كل شيء إلى ما كان عليه، فلا مشاركة في تحديد وجهة ومعالم تطورنا السياسي، ولا مساءلة عن شيء، بما في ذلك اختيار التنفيذيين من أدناهم إلى أعلاهم، وتحصين الجميع وليس فقط القيادات العليا، وما يعرف بالجهات السيادية، بذريعة هيبة النظام!.
بعد الهزيمة العرابية إذن، تطور المجتمع السياسي حتى صار أقوى من السلطة التي أضعفها الاحتلال ورجعية القصر الملكي، حتى صار هذا المجتمع هو القوة الرئيسية في مواجهة الاحتلال والرجعية، وبعد هزيمة 67 بقيت السلطة أقوى من المجتمع، وكانت ولا تزال حريصة على إضعافه، فكانت النتيجة هي الضعف الشامل، وعلى الأخص في مواجهة متطلبات تنمية القوة الوطنية الشاملة، وفِي مواجهة الاستراتيجيات الدولية والإقليمية حولنا، بغض النظر عن الاستقواء في الداخل.