في وقت تتجه الأنظار صوب العاصمة الإدارية التي تستعد الحكومة المصرية للانتقال إليها خلال أشهر، يبدو أن القاهرة التاريخية بسنواتها الألف ينتظرها مستقبل يبدو في لحظات مشرقًا وفي أخرى ضبابيًا. ينتظر المدينة مشروعات تتبناها الحكومة المصرية، تبدو طموحة لكنها تثير الأسئلة حول فلسفة تطوير مدينة ذات طبقات تاريخية متعددة، يمتزج فيها البشر والحجر، ليكونوا معًا لوحة لا يمكن فصل مكوناتها، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة حول مفهوم التطوير لمدينة تعاني من العشوائية ولا شك، لكنها تنبض بالحياة ولا يمكن التفريط في تفاصيلها بسهولة.
أعلنت حكومة مصطفى مدبولي، عن خطة واسعة لتطوير العديد من المناطق ذات البعد التاريخي في قلب القاهرة الإسلامية، تشمل الخطة الواسعة والتي تعد الأضخم في التعامل مع المدينة الإسلامية، تطوير حديقة الفسطاط الملاصقة لمسجد عمرو بن العاص، غير بعيد عن أطلال مدينة الفسطاط أول عاصمة إسلامية لمصر، وبالقرب من التطوير الذي طال عين الصيرة والمنطقة المحيطة بها. كما تشمل عمليات التطوير منطقة المدابغ الملاصقة لسور مجرى العيون بعد نقل سكانها لمنطقة أخرى، ومنطقة الحطابة العشوائية بجوار قلعة الجبل. أما أهم أجزاء خطط التطوير فهي المتعلقة بتطوير مناطق تقع في قلب المدينة القديمة.
يبدو المشروع الحالي أكثر طموحًا وتأثيرًا على شكل الحياة في مناطق واسعة تشكل مراكز الثقل في القاهرة الفاطمية-المملوكية
تشمل الخطة التي بدأت على الأرض بالفعل، محيط جامع الحاكم بأمر الله (الجامع الأنور) بمساحة 14 فدانًا، ومنطقة جنوب باب زويلة بمساحة 8.5 فدان، ومنطقة حارة الروم وباب زويلة على مساحة 8 أفدنة، والمنطقة المحيطة بجامع الحسين بمساحة 11 فدانًا، ومنطقة درب اللبانة بمساحة 10.5 فدان. نحن أمام أكبر مشروع لتطوير قلب القاهرة القديمة منذ مشروع فاروق حسني لتطوير شارع المعز مطلع الألفية، لكن يبدو المشروع الحالي أكثر طموحًا وتأثيرًا على شكل الحياة في مناطق واسعة تشكل مراكز الثقل في القاهرة الفاطمية-المملوكية، لذا يطرح مشروع التطوير الحالي الكثير من الأسئلة في ضوء تجارب سابقة لم تحترم خصوصية المدينة العتيقة.
المخاوف لها ما يبررها فقد سبق أن تعرضت القاهرة لتدخلات من قبل السلطة على مدار 200 عام، لم تكن في صالح المدينة في المجمل، فبداية من عصر محمد علي باشا (1805-1848) مع بدء خطط التحديث، عرفت المدينة تدخلات أثرت على وحدتها المعمارية وخصوصيتها، فمن المعروف أن القاهرة لم تعرف الشوارع العرضية واعتمدت على شارع القصبة الكبرى (المعز حاليا) الطولي، والذي يشق المدينة من شمالها إلى جنوبها، ولم تعرف المدينة الشوارع العرضية المتسعة من الشرق إلى الغرب إطلاقا، لذا جاء شق طريق السكة الجديدة الذي يربط الأزهر والحسين بالموسكي تغييرًا كبيرًا في فلسفة المدينة، وتواصلت عملية شق الشوارع التي انتصرت للفكر العملي بشق شوارع تتناسب مع الواقع الاقتصادي وتطور وسائل النقل على حساب معالم المدينة، التي اختفت الكثير من معالمها بقرارات غريبة مثل إزالة مدرسة الظاهر بيبرس لفتح شارع بيت القاضي في بين القصرين.
أطاحت خطة الخديو إسماعيل لإنشاء مدينة أوروبية على ضفاف النيل بمعالم منطقة الأزبكية وكل ما فيها من آثار إسلامية، كما تم شق شارع الأزهر في عصر الملك فؤاد، والذي قطع شارع المعز إلى شارعين منفصلين
وأطاحت خطة الخديو إسماعيل لإنشاء مدينة أوروبية على ضفاف النيل بمعالم منطقة الأزبكية وكل ما فيها من آثار إسلامية، كما تم شق شارع الأزهر في عصر الملك فؤاد، والذي قطع شارع المعز إلى شارعين منفصلين، ودمر الوحدة التي عاشتها المدينة على مدار قرون، وكل هذا بلسان الحداثة. ولم يختلف الوضع في عصر جمال عبد الناصر عندما تم شق طريق صلاح سالم والذي دمر وحدة مدينة الموتى (قرافة المماليك) وفصلها عن القاهرة ودمر تجانسها العمراني، وفي مطلع الألفية الجديدة ارتكبت حكومة مبارك جريمة إزالة مقابر الصوفية خارج باب النصر لشق محور مروري.
التجارب السابقة تلقي بظلها عندما نسمع عن خطط لتطوير القاهرة التاريخية، لذا يصحبنا الأمل ويطاردنا القلق على مصير المدينة، خشية أن تكون الخطة بنت فكر المطورين العقاريين الذين لا يرون في الآثار إلى مساحات يمكن إقامة مشروعات تجارية عليه، دون فهم أو تقدير لأهمية الأثر وعلاقته بمحيطه العمراني، ففلسفة الجوامع والمدارس الإسلامية تقوم على ضخمة البنيان في محيط من المنازل الصغيرة التي تتجاوز الثلاثة أدوار، من أجل توصيل رسالة بصرية متعددة منها التأكيد على عظمة الديني على حساب الدنيوي، والتأكيد على طابع الرهبة عند التطلع لبناء الضخم بمئذنته المحلقة في الفضاء، فهل هذه الفلسفة التي ينطلق منها مشروع التطوير الحالي؟
هناك تخوفات حقيقية من أن عمليات الإزالة للعشوائيات التي تحاصر بعض الآثار الإسلامية سيعقبها إنشاء مجموعة من المقاهي ومطاعم الوجبات الجاهزة، بما يعني عزل الأثر عن محيطه وتحويله إلى قطعة “أنتيكة” يأتي السائح لزيارتها والدوران حولها فقط، مع إنهاء الدور الاجتماعي والتفاعلي لمعظم الآثار الإسلامية؛ كونها في الغالب مساجد يقام فيها شعائر الصلاة؟ هل سيتضمن مشروع التطوير حلا للمشكلة الأزلية حول الإشراف على المساجد الأثرية بين وزارتي الأوقاف والآثار؟ ويعرف المتابعون لملف الآثار الإسلامية جيدًا كم الجرائم التي ارتكبت تحت مظلة تنازع الاختصاصات بين الوزارتين، وتبادل إلقاء المسؤولية بينهما بعد وقوع أي جريمة سرقة أثرية.
هل نحن أمام مشروع لاستعادة الوجه الحضاري أم مشروع تجاري يستهدف التعامل مع المناطق الأثرية بنفس منطق التعامل مع أسفل الكباري؟
وتقول الحكومة إن المشروعات المتعلقة بالقاهرة الفاطمية تتضمن إعادة إحياء المباني التراثية ذات القيمة، وإعادة توظيفها ودمجها في النسيج العمراني التاريخي، والاستعانة بالصور القديمة في إعادة بناء المناطق الخربة، مع التأكيد على عدم تهجير أهالي المنطقة من منازلهم، وإعادة ربطهم بنسيجها الحضاري، وهي نقاط مبشرة، لكن المشروعات ستتضمن إنشاء جراج متعدد الطوابق بالقرب من باب زويلة، وهو ما سيتكرر بالقرب من جامع الحاكم بأمر الله، فيما سيقام موقف للسيارات بالقرب من درب اللبانة، ما يطرح السؤال حول تأثير هذه المنشآت الملوثة للبيئة على الآثار المحيطة بها؟ كما تتضمن المشروعات تخصيص مساحة للمطاعم والأنشطة السياحية، فهل نحن أمام مشروع لاستعادة الوجه الحضاري أم مشروع تجاري يستهدف التعامل مع المناطق الأثرية بنفس منطق التعامل مع أسفل الكباري؟
رغم النية الطيبة للحكومة ومناقشة المشروعات المقترحة للعديد من المخاوف التي يعرضها محبو المدينة، إلا أن القلق لا يزال له ما يبرره، فلا نعرف ما إذا كانت ستجرى حفريات في المناطق الأثرية التي ستتعرض لعمليات التطوير، فمثلا المنطقة المحيطة بمسجد جامع عمرو بن العاص، وخاصة منطقة “أبو قرن” العشوائية، والمقرر إزالتها، مقاومة بالكامل فوق منطقة كانت مركز النشاط الاقتصادي لمدينة الفسطاط في وقت ازدهارها قبل ألف سنة، خاصة أن المشروع يتضمن إقامة أماكن لاستضافة الحفلات الفنية وسلاسل مطاعم ومقاهي وفنادق، كما أن عمليات الإزالة في المناطق الداخلية لمدينة القاهرة الفاطمية، يمكن قبل أي منشآت جديدة أن تقام حفريات قد تكشف عن تفاصيل أثرية جديدة تميط اللثام عن تفاصيل المدينة ذات الطبقات التاريخية المتعددة.
نية الدولة للاهتمام بالقاهرة الإسلامية شيء إيجابي، لكننا نحتاج إلى خطة واضحة المعالم وشديدة الدقة والفهم لخصوصية المدينة وطبقاتها التاريخية ونسيجها الحضاري، مع تحديد النطاق الخاص لكل أثر والمنطقة المحيطة به للحفاظ عليها من التعديات
نية الدولة للاهتمام بالقاهرة الإسلامية شيء إيجابي، لكننا نحتاج إلى خطة واضحة المعالم وشديدة الدقة والفهم لخصوصية المدينة وطبقاتها التاريخية ونسيجها الحضاري، مع تحديد النطاق الخاص لكل أثر والمنطقة المحيطة به للحفاظ عليها من التعديات، ومع الإيمان بأن التطوير ضرورة وأمر تحتاجه معظم المناطق في القاهرة، فإن هذا يجب ألا يكون على حساب روح المكان وطابعه الأثري، فضلا عن وضع خطة قائمة على حوار مجتمعي حقيقي لإعادة بناء المنازل العشوائية على طراز يتماشى مع محيط المنطقة، وينقل من روحها ويستعيد زخم المشربيات كجزء من هوية المكان، وترميم المنازل ذات الطابع المتميز والاحتفاظ بها، مع ربط نشاط الأهالي الاقتصادي بنسيج المنطقة في وضعها المستقبلي إذا أمكن.
أظن أن ملف تطوير أجزاء ضخمة من القاهرة القديمة بكل ما تحمله من تراث أثري وثقافي واجتماعي، وهو أكبر مشروع من نوعه في تاريخ المدينة في العصر الحديث، يجب أن يخضع للكثير من النقاش وأن نتأكد من أن كل تفصيلة فيه قد تم نقاشها بشكل مفصل ومعمق، لأننا أمام فرصة ذهبية لتطوير المدينة لكن يجب ألا يكون هذا التطوير على حساب تراث المدينة وهويتها وتحويلها إلى متحف مفتوح بمعنى الكلمة، يذخر بالآثار المنتصبة في الفراغ في مدينة بلا بشر، أن يكون التطوير هدفه خدمة المواطن المصري وليس السائح الأجنبي.