توزّع إرث المستعمرة الفرنسية السابقة على بقية اللاعبين الدوليين في القرن الأفريقي، حتى باتت جيبوتي الدولة الأفريقية الصغيرة نموذجًا لسياسة الاستثمار والاستعمار معًا.
لجيبوتي حالة خاصة عن بقية دول القرن الأفريقي، تلك الحالة التي تفسِّر تحوِّلها لملعب دولي تتصارع على أرضيته قوى كبرى بأهداف واسعة المدى عن أزمة آنية، أو خلاف يمكن للزمن تجاوزه.
في مايو الماضي، أصبح عبد الفتاح السيسي أول رئيس مصري يزور جيبوتي في التاريخ. وهي الزيارة التي استهدفت تعزيز العلاقات الثنائية في المجالات الاقتصادية، والأمنية، والعسكرية. وظهر السيسي وإسماعيل عمر جيلة، مندمجين في الحديث ويتبادلان الابتسامات وكأنهما يعرفان بعضهما البعض جيدًا.
قبل أسبوعين من زيارة السيسي، تحدث الرئيسان المصري والجيبوتي هاتفيًا، وأكدا ضرورة تسوية قضية سد النهضة لتفادي تأثيرها السلبي على أمن واستقرار المنطقة بالكامل. ثم وصلت شحنة مساعدات غذائية وطبية مصرية لجيبوتي قبل أيام من الزيارة.
وجيبوتي هي خامس دولة مجاورة لإثيوبيا، بعد السودان وأوغندا وبوروندي وكينيا، تعزز معها مصر تعاونها العسكري خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
أبعاد الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي
وتقع جيبوتي على مفترق طريق استراتيجي دولي، وتتحكم في مضيق باب المندب على مدخل البحر الأحمر الجنوبي، الذي تعبر منه سنويًا نحو 12 مليون حاوية من البضائع، إضافة لناقلات النفط، ولأنها دولة صغيرة، بلا موارد طبيعية، فتحت ذراعيها للقوى الأجنبية منذ عشرين عامًا للاستفادة من موقعها الجغرافي بالغ الأهمية الاستراتيجية.
الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي ذات أبعاد متعددة، ففي حين أنها تسمح بمراقبة مضيق باب المندب، حيث يعبر حوالي 9% من الحركة البحرية العالمية، و25 ألف ناقلة نفط وأكثر من 6 آلاف ناقلة حاويات سنويًّا.
وفضلاً عن كونها حلقة وصل حيوية بين آسيا وأوروبا، تشكل جيبوتي مرصدًا مثاليًا للمراقبة والوصول إلى الشرق الأوسط وشرق أفريقيا وآسيا الوسطى.
جيبوتي.. ثكنة العالم العسكرية
هذا التموقع دفع دول العالم لإنشاء قواعد عسكرية فى جيبوتي، حتى باتت مقرًا لـ9 قواعد عسكرية عاملة بالفعل هي: 6 قواعد للولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والصين، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا، و3 قواعد فرنسية (قاعدة بحرية، ومطاران)، وثلاث قواعد تحت الإنشاء لإثيوبيا والسعودية.
بفكر المتاجرة بالقواعد العسكرية، نظرًا للمردود المادي الناتج عن إيجار الأرض لإنشاء تلك القواعد، أصبحت جيبوتي بمثابة “محمية عسكرية” فريدة من نوعها في العالم، بحكم أنها تضم أهم القواعد العسكرية على وجه الأرض، وسوقًا تنافسية لإقامة قواعد بشكل دائم؛ وهو ما جعلها واحدة من الملاعب الدولية المهمة لغيرها، بحكم اعتبارها باتت رأس حربة للمساومات.
تجارة التأجير
هذه القواعد العسكرية الأجنبية تشكِّل مصدر دخل مباشر وأساسي؛ حيث تؤجر الدولة الأراضي لإقامة القواعد العسكرية؛ فبينما بلغت الإيرادات السنوية للقاعدة العسكرية اليابانية حوالي 3 مليارات يورو؛ فإن إيرادات نظيرتها الصينية بحوالي 17 مليون يورو فحسب، والإيطالية بحوالي 22 مليون يورو، و30 مليون يورو للقاعدة الفرنسية، و56 مليون يورو للقاعدة الأمريكية، في حين أن المملكة العربية السعودية ستدفع ما لا يقل عن 125 مليون يورو مقابل إنشاء قاعدتها العسكرية.
ورغم تلك الأموال الطائلة، فإن غالبية السكان لا يستفيدون منها. فنسبة الفقر مرتفع، والبلد احتل المرتبة 170 من بين 187 بلداً في “مؤشر التنمية البشرية”، الذي يقيس عوامل الفقر المختلفة، وفقا لإحصائيات الأمم المتحدة لعام 2014.
التنافس الأمريكي الصيني
لكن التنافس الأمريكي الصيني يبقى هو العلامة الأبرز في الصراع على أرض جيبوتي، ففي حين أنها المقر الرئيسي للقيادة الأمريكية الإفريقية (أفريكوم)، فإنها تضم القاعدة العسكرية الدائمة الوحيدة للصين خارج أراضيها، على بعد سبعة كيلومترات فقط من القاعدة العسكرية الأمريكية.
انتقلت المنافسة التقليدية بين واشنطن وبكين إلى أرض جيبوتي، ففي 2018 أرسل البنتاغون شكوى رسمية إلى بكين تستنكر إصابة طيارين أمريكيين بجروح طفيفة نتيجة استهداف القاعدة العسكرية الصينية بجيبوتي لطائراتهما بأشعة الليزر، وقتها ردت الصين بأن الطائرات الأمريكية تقوم بمهام تجسس على المنشأة الصينية.
في العام نفسه، اتهم مستشار الأمن القومي جون بولتون بكين بمحاصرة الدول الأفريقية في علاقات استعمارية جديدة تعتمد على التبعية الاقتصادية. وحذر بولتون من أن القادة الذين لم يدعموا واشنطن دبلوماسياً لا ينبغي أن يتوقعوا الكثير من المساعدات الأمريكية
لكن يبدو أن البصين سبقت الولايات المتحدة بمسافات في جيبوتي، باعتبارها ركزت عندما وضعت قدمها هناك على التنمية، بينما كان التواجد التقليدي لواشنطن عسكريًا، عندما كانت تستخدم القواعد العسكرية لشن غارات على جماعات متطرفة في أفريقيا.
جيبوتي والعمق الإثيوبي
ومهما استأجر القادمون من بعيد أراضي وقواعد ونفوذا، لكنه لا يضاهي المتماهي الحاصل بين جيبوتي وإثيوبيا، باعتبار الأولى شريان أديس أبابا التجاري، بحكم واجهتها البحرية.
لذلك، فإن أكثر من 80% من السلع التي تستوردها إثيوبيا (غير الساحلية) يتم إفراغها في ميناء “دوراليه”، أحد أكبر موانئ المياه العميقة في شرق أفريقيا. كما أبرمت إثيوبيا في 2019 اتفاقاً لبناء خط أنابيب غاز بطول 765 كم، لينقل الغاز الإثيوبي المكتشف في حوض أوجادين الإثيوبي عام 2014، إلى موانئ جيبوتي لتسييله وتصديره بحراً بعد سد كل الاحتياجات الجيبوتية من الغاز.
في فبراير 2018، أعلن الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي، أن بلاده أنهت عقدًا مع موانئ دبي لإدارة ميناء “دوراليه”، وهو المنفذ الرئيس لأغلب تجارة إثيوبيا مع العالم، وقتها وقعت جيبوتي اتفاقا مع أديس أبابا للتطوير المشترك للميناء واستحوذت إثيوبيا على حصة في الميناء مقابل حصول جيبوتي على حصص في الشركات الإثيوبية المملوكة للدولة (شركتي الكهرباء الإثيوبية والاتصالات إثيوتليكوم)، وهو ما يعنى أن إثيوبيا أصبحت مالكة للميناء الجيبوتي.
وقبل أسبوع، افتتحت إثيوبيا الطريق السريع “أداما- أواش”، بطول 60 كم، ليكون جزءًا من ممر النقل الاستراتيجى الذي يربطها بجيبوتي بتكلفة 154 مليون دولار. كما أنشأت الصين عام 2017، خط سكة حديدية بين جيبوتي وإثيوبيا، ودشنت منطقة إثيوبية للتجارة الحرة هي الأكبر على مستوى أفريقيا.
في المقابل، فإن جيبوتي التي يبلغ عدد سكانها بالكاد مليون نسمة، توفر احتياجاتها المائية من خلال مشروع إثيوبي جرى تدشينه بتمويل صيني قدره 300 مليون دولار عام 2017، كما تم الاتفاق مع إثيوبيا على البدء فى مد خط نقل الطاقة الكهربائية من “سد النهضة” إلى جيبوتي لتصبح مصدرها الرئيسي من الطاقة الكهربائية.
البلد الذي لا يرفض أحدًا
اللافت للنظر أن جيبوتي باتت تضم قواعد عسكرية لبلدان متباينة المصالح، وحتى متناقضة، وهو ما جعلها تمتلك دورًا فريدًا على الصعيد الدولي. لذلك، يمكن لجيبوتي تطوير علاقاتها الدبلوماسية على كافة الأصعدة، مستغلةً غياب الانسجام في الأيديولوجيات بين الدول المؤجِّرة.
هذا التوجه يفسره، زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد إلى جيبوتي بعد زيارة الرئيس السيسي مباشرة، كما أن المفارقة أن الزيارتين شهدتا اتفاقا على تعاون استثماري وأمني وعسكري.
وفيما كان آبي أحمد يدشن ممرًا بريًا ويتفق على مشروعات إضافية، سبقه السيسي بالاتفاق على الإسراع في الإجراءات الخاصة بإنشاء المنطقة اللوجيستية المصرية فى جيبوتي، لتيسير تصدير مختلف البضائع المصرية، وإنشاء مستشفى مصري، فضلاً عن التعاون بمجال الاستزراع السمكي، وافتتاح فرع لبنك مصر.
وفي سياق ذلك، تجدر الإشارة إلى تشابك الملفات في القرن الأفريقي، خاصة مع وجود مشاكل حدودية بين جيبوتى وإريتريا الحليف الحالى لرئيس وزراء إثيوبيا آبى أحمد. هذا التشابك مفاده، الاعتراض على التقسيم الإنجليزي، فجيبوتي تريد ضم منطقة العفر بإثيوبيا، وتريد إريتريا ضم إقليم تيجراي، وتريد السودان ضم إقليم بنى مشقول، وتريد الصومال ضم إقليم الأوجادين.
قالوا عن جيبوتي
يقول مايكل اشكنازي من “مركز الأبحاث الدولي للتحويل” في بون، إن “أي شخص يُحكم السيطرة على جيبوتي فسيلعب دورًا حاسماً في المنطقة“.
وترى أنيت فيبر من المؤسسة الألمانية للأبحاث الاقتصادية والسياسية (SWP) في برلين. أن “جيبوتي هي على الأرجح حاليًا أهم دولة في مجال تأمين طرق التجارة وكنقطة انطلاق لمكافحة الإرهاب في منطقة القرن“.