تسابقت عدسات المصورين لالتقاط صورة لدموع “مودة الأدهم” المعروفة بفتاة “تيك توك” خلف قضبان القفص الحديدي داخل قاعة الدائرة 15 جنايات جنوب القاهرة. دموع “مودة” انهمرت من عينيها لحظة النطق بالحكم عليها و3 شبابًا بالسجن 6 سنوات في اتهامهم بالإتجار في البشر. لكن رغم الدموع رفعت الأدهم أصبعيها بعلامات النصر، قائلة: “لا إله إلا الله”.
وقضت المحكمة بمعاقبة “حنين حسام” بالسجن المشدد 10 سنوات غيابيًا وتغريمها 200 ألف جنيه، في القضية المتهمة هي الأخرى بالإتجار في البشر.
المتهمون رجال ونساء
اللافت أن قضية مودة الأدهم تضم شبابًا “ذكور” واجهوا التهم نفسها، حيث قضت المحكمة بمعاقبة كل من مودة الأدهم، ومحمد عبدالحميد، ومحمد علاء، وأحمد صلاح بالسجن المشدد 6 سنوات، وغرامة 200 ألف جنيه. كما ألزمتهم بالمصاريف ومصادرة أدواتهم وأموالهم المضبوطة.
الحكم أثار ردود أفعال كبيرة في المجتمع المصري، بين من رأى أنه مبالغ فيه تجاه فتيات يبدأن حياتهن، ومن الوارد أن يخطأن. بينما رأى فريق آخر أن الأمر خرج عن “طيش الشباب” ويستوجب “عقوبة تكون عبرة لمن يفكر أن يسير على الدرب”.
حكم المحكمة كتب نهاية لقصة فتيات الـ”تيك توك” التي استمرت لأكثر من عام كامل. دموع “مودة” كانت المشهد الأخير في تلك النهاية. لكن الجدل الذي أثارته القصة لن يتوقف قريبًا.
حتى خبراء القانون والاجتماع لم يكن لهم رأي واحد في القضية، هناك من يقول إن حبس فتيات الـ”تيك توك” جزء من اضطهاد المرأة في مجتمع ذكوري بالأساس. بينما قال آخرون إنه في النهاية لا يمكن أن يترك المجتمع في حالة انهيار دون محاكمة أو عقاب.
ويبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في مصر 40.9 مليون مستخدم بنسبة انتشار 48%، أي ما يقرب من نصف تعداد السكان البالغ عددهم 101.168 مليون. ما يصعب معه وضع معايير ثابتة للمحتوى الذي يُبث عبر الإنترنت.
بداية القصة
كانت البداية في أبريل 2020، حين أصدرت النيابة العامة أمر ضبط وإحضار لحنين حسام بعدة تهم. إذ تحركت النيابة بعد بلاغ من أحد المحامين عقب تخطي فيديوهات “حنين” لملايين المشاهدات. بالإضافة إلى مخاطبة عاجلة قدمها الإعلامي نشأت الديهي، عضو المجلس الأعلى للإعلام للقبض على “حنين”. كذلك ألقت السلطات القبض عليها بالفعل بعد يومين فقط من مناشدة الديهي.
بعد أقل من شهر في يوم 14 مايو 2020 ألقي القبض على مودة الأدهم لتنضم إلى نفس قضية حنين.
بعدها صدر أول حكم قضائي على الفتاتين و3 آخرين في يوليو 2020، في الدعوى الجنائية رقم 479 لسنة 2020 جنح المحكمة الاقتصادية بالقاهرة. إذا حكمت المحكمة بالحبس لمدة عامين مع تغريم كل منهما مبلغًا ماليًا قدره 300 ألف جنيه بدعوى تهديد القيم الأسرية. بينما حكم حوكم باقي المتهمين الرجال بموجب مواد قانون العقوبات. ونسبت لهم جرائم الاتفاق والاشتراك والمساعدة في تنفيذ ما هو منسوب إلى المتهمتين.
في 12 يناير 2021، وبعد ما يقرب من 9 أشهر حكمت الدائرة الاستئنافية بالمحكمة الاقتصادية حكمها النهائي ببراءة حنين حسام واثنين آخرين. بينما ألغت حكم حبس مودة الأدهم ومدير صفحتها أحمد سامح، مع تأييد تغريم كل منهما 300 ألف جنيه عن تهمة نشر فيديوهات فاضحة.
قيم الأسرة المصرية.. “المادة 25”
القضية أثارت أزمة فيما يتعلق بالماد 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. وهي التي يقع تحت طائلتها كل محتوى ينشر على الإنترنت، وبموجبها قد توقع عقوبة على كل صانع محتوى. إذ يفسر على أنه “اعتدى على القيم والمبادئ الأسرية”. الأزمة تعود إلى عدم وجود معايير يمكن من خلالها تحديد صور التعدي على القيم الأسرية. فضلًا عن أن قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لم يضع تعريفًا جامعًا مانعًا للقيم الأسرية.
المادة 25 صدر على أساسها الحكم بالسجن والغرامة على “حنين” و”مودة” لاستخدامهما تطبيق “تيك توك”. ونشر فيديوهات فاضحة، حسب نصوص المواد 22/25/27 من قانون مكافحة الجرائم التقنية.
في هذا الوقت تقدّمت مؤسسة “مسار” (مجتمع التقنية والقانون)، بدفعٍ إلى محكمة جنح مستأنف القاهرة الاقتصادية. إذ قال بعدم قانونية جريمة الاعتداء على قيم الأسرة المصرية. وفي القلب منها المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات. في الدعوى المنظورة أمامها برقم 246 لسنة 2020، أي الدعوى المقامة بحقّ مستخدمات تطبيق “تيك توك”.
حكم البراءة ليس كافيًا
لكن حكم البراءة الذي صدر بحق “حنين” و”مودة” في يناير الماضي لم يكن كافيًا لإسدال الستار على القضية قانونيًا أو مجتمعيًا. لذلك قررت النيابة العامة أن تحيل الفتاة إلى محكمة الجنايات بتهمة الاتجار في البشر. هكذا بدأت حلقة جديدة من مسلسل التقاضي.
قيل في أمر إحالة حنين حسام إنها “تعاملت بحق أشخاص طبيعيين هن المجني عليهن الطفلتين ملك س وحبيبة ع. اللتان لم تتجاوزا الثامنة عشر من العمر. وروان س وسارة ج وأخريات، بأن استخدمتهن بزعم توفير فرص عمل لهن تحت ستار عملهن كمذيعات في أحد التطبيقات الإلكترونية “لايكي”. إذ حمل في طياته بطريقة مستترة دعوات للتحريض على الفسق والإغراء على الدعارة. يلتقين فيها بالشباب عبر محادثات مرئية وإنشاء علاقات صداقة خلال فترة العزل المنزلي. بقصد الحصول على نفع مادي”.
كما نص الأمر: “المتهمة (حنين حسام) استغلت كل من الطفلتين المذكورين استغلالًا تجاريًا. بأن حرضت وسهلت لهن الانضمام لأحد التطبيقات الإلكترونية التي تجني من خلالها عائد مالي. نظير انضمام الأطفال وإنشاء مقاطع فيديو لهن”.
“قضية الإتجار في البشر”
لم تنتهِ الملاحقة القضائية لحنين ومودة، بانقضاء الدعوى التي نظرتها المحكمة الاقتصادية، حيث أعادت النيابة العامة إحالتهما إلى المحاكمة. لكن هذه المرة أمام محكمة الجنايات، لاتهامهما بالإتجار في البشر. وبإيهام فتاتين لم تتجاوزا 18 عامًا، بتوفير فرص عمل لتحقيق ربح مادي عن طريق استخدامهما لخاصية البث المباشر. كذلك التواصل مع مستخدمين آخرين، وهو ما وصفته حنين بمساحة للتعارف وتكوين الصداقات. الأمر الذي لا يوجد ما يمنعه في القانون. لكن في التشريع المصري، يوجد قانون خاص بمكافحة الاتجار في البشر، لكنه لا يشمل تعريفًا لماهية الجرائم من خلال وسيط إلكتروني. بمعنى آخر لا يوجد في القانون 64 لسنة 2010، أي إشارة إلى محددات الإتجار في البشر عبر الإنترنت.
وبحسب ورقة بحيثة قدمتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير: “استندت النيابة في قضية الاتجار بالبشر إلى نفس المقطع المصور. إذ حصلت فيه حنين على البراءة من المحكمة الاقتصادية”.
كما أن المادة الأولى من قانون مكافحة الاتجار بالبشر ينص على أن الجماعة الإجرامية المنظمة تلك المؤلفة وفق تنظيم معين من 3 أشخاص على الأقل. للعمل بصفة مستمرة أو لمدة من الزمن بهدف ارتكاب جريمة محددة أو أكثر. من بينها جرائم الاتجار بالبشر من أجل الحصول على منفعة مادية أو معنوية.
لا مسئولية على الـ”تيك توك”
إلا أن السلطة القضائية المصرية أسقطت أية مسؤولية جنائية على الشركة الصينية المالكة للتطبيق. بينما اعتبرته النيابة العامة المنصة التي اتخذتها “حنين حسام” لارتكاب جريمتها. رغم أنه في حال صحّت الاتهامات الموجهة، سيكون من المنطقي اعتبار الشركة عضوًا أو حتى مؤسسًا للجماعة الإجرامية. بسبب وجود تعاقد مثبت بينها وبين حنين حسام، الأمر الذي يعطي انطباعًا بأن المحاكمة القائمة ليست منعًا لجريمة الاتجار بالبشر. بينما يمكن اعتبارها عقابًا على نشاط رقمي مختلف وغير مفهوم للسلطات.
“حكم ثقيل للغاية”
المحامي محمود حيدر من المركز الإقليمي للحقوق والحريات. هو الموكل بالدفاع عن حنين حسام قال: “تم الاستناد في تهمة الاتجار بالبشر لبعض الفيديوهات التي تم طرحها من قبل في قضية الاعتداء على قيم الأسرة المصرية. كما لفت إلى أن الأحراز الخاصة بمودة فيديوهات مع فتيات صغار تتحدث معهم وتطالبهم بدخول التطبيق (لايكي). نحن ننتظر حيثيات الحكم لمعرفة على أسسه”.
كذلك يضيف: “الحكم الصادر على الفتيات حنين 10 سنوات وغرامة 200 ألف غيابيًا. ومودة و3 شباب بـ6 سنوات سجن وغرامة 200 ألف لكل واحد حضوريًا هو حكم نهائي. لكن لا يزال هناك درجات تقاضي للقضية خلال 60 يومًا. من الوارد تخفيف الحكم أو تأكيده”. كذلك يوضح أن حنين حصلت على حكم غيابي وبالتالي لديها درجتين من التقاضي وإعادة الإجراءات. أما مودة فلها درجة تقاضي واحدة وهي النقض”.
بحسب حيدر: “استعمال مواد قوانين من نوع هدم الأسرة المصرية كان صادمًا. خاصة أن هذه مواد لم يكن استخدامها شائعًا. القضية من أول القضايا التي استندت على قانون تقنية المعلومات، سبقتها قضية سما المصري فقط. كان عرض الأمر جديدًا على القضاء المصري. وبالتالي وبنسبة كبيرة سيتم الاستناد لهذه الأحكام في المستقبل فيما أصبح معروف بقضايا فتيات التيك توك”.
مادة غير دستورية
ويتابع: “المادة 25 مادة فضفاضة وغير دستورية وتتعارض مع مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات. هذا ما توضحه أحكام محكمة النقض والمبادئ الدستورية في ضرورة أن تكون المواد القانونية التي يعاقب على أساسها المتهم واضحة وضوحًا تامًا ولا تحتمل الشك. وبالنسبة إلى المادة 25 فتهمة الاعتداء على قيم الأسرة المصرية غير واضحة كما تقبل الشك. نظرًا إلى اختلاف الثقافة من مجتمع إلى آخر أو من فئة إلى أخرى”.
ويعتبر حيدر أن المادة 25 حديثة التطبيق ومبهمة وفيها الكثير من الغموض وهو ما يجعلها غير دستورية. إلى جانب أن هذه المادة تضمن الاعتداء على الحريات الفردية التي يكفلها الدستور.
هذه القضية بحسب حيدر، تم تصنيف الأشخاص الـ5 المتهمين فيها كجماعة منظمة. بينما لا يوجد رابط بين “حنين” و”مودة” والـ3 شباب الآخرين في القضية. كما أن حنين لا تعرف باقي الشباب، ومودة وأحمد صلاح لا يعرفون الباقين. كذلك تم التحقيق مع اثنين من مديري “لايكي” التنفيذيين (صينيين الجنسية). قبل استبعادهما من القضية ولا يزال مقر عملهما في مصر موجود ومستوفى التراخيص.
يصف حيدر العقوبة بـ”الثقيلة” فالتعامل بهذا الشكل مع القضايا يحمل اتجاه غير مفهوم. خاصة أن هذه التطبيقات تعمل من سنوات فلماذا هذا الوقت تحديدًا!. كما أن المادة 25 المتعلقة بقيم الأسرة يشوبها عدم الدستورية ومطلقة لتأخذ على الهوى.
استخدام المرأة للإلهاء
الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية، يتحدث عن البعد الاجتماعي للقضية. إذ قال: “يجب أولًا أن نتحدث عن مؤشر الفجوة بين الجنسين في العالم. إذ تحتل فيه مصر المركز الـ134، وبالتالي يمكن القول إنه معدل أشبه بمعدل متدني للغاية”.
ويتابع: “في مصر يتم استخدام المرأة للإلهاء السياسي لذلك نجد الإعلام والسوشيال ميديا يسيطر عليه مواضيع وقضايا بهذا النوع بمبدأ بص العصفور. مثل التحرش بفستان رانيا يوسف والتربص والقبض على فتيات التيك توك وهكذا”.
يضيف: “لم يعد هناك نغمة مصر تحارب الإسلام السياسي في ظل بناء أكبر جامع والقبض على اللي بترقص أو اللي صوتها عالي. وكأنه رد فعل على من يتهمون الحكومة بمحاربة الإسلام السياسي. لأن الحرب الذي شنتها السلطات المصرية كانت على الإسلام السياسي وليس الإسلام المجتمعي”.
وضع المرأة في مصر “شكليات”
وبحسب صادق، فإن ما يسمى بوضع المرأة في المجتمع شكليات يتم تقديمها ويروّج لها في الإعلام. مثل التمثيل البرلماني للنساء وأكبر كوتة نسائية في الحقبة الوزارية وغيرها. لكن بالنظر لأمن المواطنة العادية في الشارع فهو معدوم.
ويوضح: “لدينا ثقافة ذكورية معادية للنساء في مصر بصفة عامة. إذ يمكن قياس ذلك جيدًا عند رؤية رجل يضرب سيدة في الشارع الناس تقف متفرجة. وإذا تدخل أحد يعرض عليه ضربها في المنزل وليس أمام الناس”. لافتًا إلى أن أي سيدة في الدنيا ترغب في أن تكون جميلة. لكن في مصر ترغب النساء في التخفي حتى يمررن بأمان في الشارع دون تحرش أو اعتداء.
ويختتم: “الهوس باللباس الذي أنتج الثقافة الذكورية وتسمية المختلف عن ذلك ديوث، سيطرة الإسلام المجتمعي الوهابي المناهض للمرأة. والرغبة المُلحة بعودة سي السيد صاحب القوة الاقتصادية والاجتماعية التي انتهت. وتفوق المرأة جعل الشباب يجدّن في التفسيرات الدينية وسيلة يستعدون بها سلطتهم وشعورهم بذواتهم”.
ازدواجية مجتمعية
من ناحية أخرى، يعلق الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي على ما أسماه بـ”ازدواجية المجتمع المصري” تجاه النساء. لكنه قال إن المجاهرة بالرقص أمام كاميرات الموبايل في بث مباشر جعل الجميع يتسابق لجذب عدد أكبر من المشاهدات. وفي كل مرة تزداد التنازلات بينما يزداد تقليد المراهقات لنجوم الـ”سوشيال ميديا” من ناحية أخرى. “كل هذا يصل بالمجتمع لمرحلة انهيار أخلاقي تام لو تم تركهن بلا عقاب”.
كذلك علق أن المجتمع المصري مازال مجتمعًا ذكوريًا. نفتخر أحيانًا كثيرة بتجاربه مع النساء. لكن لو أخطأت سيدة علقنا لها المشانق لأن هناك “ازدواجية مجتمعية”.