عادة ما يكون الجانب الأكثر أهمية لأيِّ حكم قضائي هو تفسيره من الناحية القانونية. يعني ذلك أن نتساءل عن نصوص المواد التي استخدمها القضاة، وكيف رأوا مطابقتها لوقائع القضية، ومن ثم أصدروا حكمهم بالعقوبات التي تنص عليها هذه المواد. ليس هذا هو الحال مع الحكم الذي أصدرته محكمة جنايات القاهرة صباح الأحد 20 يونيو الجاري. قضت هذه المحكمة برئاسة المستشار محمد أحمد الجندي بمعاقبة كل من حنين حسام ومودة الأدهم وآخرين بالسجن المشدد 10 سنوات للأولى و6 سنوات للثانية ولثلاثة آخرين متهمين بنفس القضية، كما قضت بتغريم كل من المتهمين مبلغا قدره 200 ألف جنيه، إضافة إلى مصادرة الأموال والأدوات محل الدعوى.
هذه الإدانة تستند إلى نفس الوقائع والأدلة والتحريات التي سبق لمحكمة مستأنف القاهرة الاقتصادية أن أصدرت حكمها على أساسها بتبرئة حنين حسام حينها من الاتهامات الموجهة إليها بالاعتداء على قيم الأسرة المصرية والتحريض على الفجور
الاتهام الذي أدانت به المحكمة حنين ومودة، ومن معهما، في القضية المشهورة إعلاميا باسم “فتيات التيك توك”، هو “الإتجار بالبشر”. هذه الإدانة تستند إلى نفس الوقائع والأدلة والتحريات التي سبق لمحكمة مستأنف القاهرة الاقتصادية، قبل عدة شهور وتحديدا في 2 فبراير 2021، أن أصدرت حكمها على أساسها بتبرئة حنين حسام حينها من الاتهامات الموجهة إليها بالاعتداء على قيم الأسرة المصرية والتحريض على الفجور.
وأكدت المحكمة حينها أنه “ثبت لها أن حنين، لم تحرض على استقطاب الفتيات للأعمال المنافية للآداب”، مؤكدة أن “وسائل الإعلام اختزلت الفيديو الخاص بها لدعوة الفتيات للعمل كمذيعات بإحدى التطبيقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي”. وأضافت محكمة مستأنف القاهرة الاقتصادية في حكمها أيضا أن “تحريات المباحث والتي جاء فيها أن المتهمة دعت الفتيات لتكوين علاقات صداقة مع الشباب، ومارست التحريض على الفسق والفجور، جاءت بدون دليل بالأوراق ومخالفة لعبارات المتهمة بالفيديو، والتي تدعو للعمل فقط، كما أن المحكمة لا تطمئن لتلك التحريات ولا لشهادة مجريها”.
تحريات المباحث والتي جاء فيها أن المتهمة دعت الفتيات لتكوين علاقات صداقة مع الشباب، ومارست التحريض على الفسق والفجور، جاءت بدون دليل بالأوراق ومخالفة لعبارات المتهمة بالفيديو
هذا الحكم قبل شهور، يكفي تمامًا لإغلاق باب النقاش في حكم محكمة الجنايات حول نفس الوقائع والأدلة والتحريات، فإذا لم تكن تلك كلها كافية لإدانة حنين ومودة بالاتهامات التي وجهت إليهما سابقا، فهي لا تكفي أساسا لبناء إدانة باتهام أكثر خطورة ترتب عليه تلك العقوبات الثقيلة التي صدر بها الحكم الأخير، ومن ثم لا يكون أمامنا إلا البحث عن (حيثيات) هذا الحكم خارج نطاق القانون، ويمكننا في بحثنا هذا أن نبدأ بمنطوق الحكم، الذي نقله من قاعة المحكمة تسجيل فيديو نشرته المواقع الإخبارية وتداوله مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعى، والذي كان كل تركيزه على تهمة “الاعتداء على قيم المجتمع والأسرة المصرية”، فقد افتتح المستشار الجندي نطقه بالحكم بالآية القرآنية “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (النور-19) ثم أضاف:
“إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، أخلاقنا جزء من أمتنا. وأن وسائل التواصل الاجتماعى سلاح ذو حدين. السعى الحثيث الأعمى للربح فى الشركات القائمة عليها، يحكمها أن الغاية تبرر الوسيلة، فكانت الرذيلة والفاحشة دأبها لتحقيق المعدلات القصوى لمتابعيها، وهدم قيمنا غايتها، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى تؤثر فى أبنائنا وسلوكنا، غابت الرقابة الأسرية وسارت الغفلة لبعض الأسر قائدة لهم فى الانهيار”.
من يقرأ العبارات السابقة سيتصور أن المتهم الأصلي المدان هنا هو وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدا الشركات صاحبة تطبيقاتها، وإذا ما كان ثمة شريك ثانوي لها فهو الأسر التي أهملت في ممارسة الرقابة المطلوبة على بناتها. ولكن الحقيقة بالطبع أن الإدانة والعقوبة كانتا من نصيب هؤلاء البنات، أو من مثلهن في هذه القضية؛ حنين ومودة. ولا يمكن تفسير العلاقة بين الغرض من الحكم كما تبرزه العبارات السابقة وبين العقوبات الثقيلة التي عوقبت بها الفتاتان، إلا بأن الهدف هو أن يكون مصيرهما عبرة لتلك الأسر الغافلة حتى تفيق فتمارس رقابة أكبر على سلوكيات بناتها على شبكة الإنترنت.
لا علاقة لأي مما سبق بجريمة الإتجار بالبشر وفق أي توصيف قانوني لها سبق استخدامه في مصر أو أي بلد آخر
لا علاقة لأي مما سبق بجريمة الإتجار بالبشر وفق أي توصيف قانوني لها سبق استخدامه في مصر أو أي بلد آخر. الجريمة التي سعت النيابة العامة لتكييف وقائع قضيتها لتوجه الاتهام بها، لا يمكننا إلا أن نستنتج أن الاختيار قد وقع عليها لتكون العقوبات الموقعة قاسية بالقدر الكافي لجعل هاتين الفتاتين عبرة لغيرهما. مثل هذه القسوة لا يتسع لها أي تطبيق اعتيادي للقانون تمارسه السلطة القضائية، ولا يمكننا أن نتبين مصدرها إلا بالعودة إلى وقائع سبقت الملاحقة القانونية لحنين أو مودة أو غيرهما ممن أطلق عليهن لقب “فتيات التيك توك”، هذه الوقائع كانت سلسلة من تعليقات ومنشورات وفيديوهات التشهير والإساءة للسمعة والسب المباشر أغرقت مختلف تطبيقات التواصل الاجتماعي طوال شهور خلال العام الماضي.
لقد أصدر المجتمع حكمه على حنين ومودة ومن تشبهنهن بالفعل قبل أكثر من عام، وليس الحكم القضائي إلا استجابة لإرادة مجتمعية قضت بضرورة أن تكون هاتان الفتاتان عبرة لمن يعتبر. وعلى خلاف ممثليه القانونيين، لم يكن ممثلو المجتمع على وسائل التواصل الاجتماعى في حاجة إلى تكييف سلوكيات هؤلاء الفتيات وفق أي صياغات قانونية، ومن ثم فقد وصفوها كما هي، وأدانوها على طريقتهم. لم يتحدث أي من هؤلاء عن الإتجار بالبشر أو التحريض على الفسق والفجور إلخ. لقد تحدثوا عما ترتديه هذه الفتاة أو تلك من ثياب، وعن جرأتهن في الحديث، وعن رقصهن أمام الكاميرا في بث مباشر يراه الجميع. في الحقيقة، لم يختلف حديث هؤلاء فيما يخص فتيات التيك توك، وما صدر عنهن فاستفزهم، عن حديثهم هم أنفسهم عن كثير من الفنانات المشهورات، عن ثيابهن، وعن ظهورهن على السجاجيد الحمراء للمهرجانات الفنية، وعن تصريحاتهن للبرامج التليفزيونية. ما اختلف هو أنه في حال فتيات التيك توك، طالب المجتمع من خلال ممثليه هؤلاء بتوقيع عقاب قاس ورادع، ووجد في النهاية آذانا صاغية عند ممثليه بالسلطة القضائية.
لقد أصدر المجتمع حكمه على حنين ومودة ومن تشبهنهن بالفعل قبل أكثر من عام، وليس الحكم القضائي إلا استجابة لإرادة مجتمعية قضت بضرورة أن تكون هاتان الفتاتان عبرة لمن يعتبر
ما السبب وراء هذا الاختلاف في تعامل المجتمع نفسه مع أفعال وسلوكيات متشابهة، لماذا يكتفي بالتعبير عن الرفض وبالوصم بالعهر في حالة بينما يسعى في الأخرى إلى توقيع أقسى عقوبة ممكنة؟ السبب هو ببساطة أن حنين ومودة فتاتان عاديتان، وما تفعله أي منهما يأتي في سياق حياتها اليومية العادية التي لا تختلف في خطوطها العامة عن حياة أي فتاة مصرية من الطبقة الوسطى الدنيا أو ما دونها. حنين ومودة تنتميان إلى هذا الجيل الذي فتحت تطبيقات التواصل الاجتماعي أمامه فرص الشهرة والنجومية وربما المكسب المادي دون الحاجة إلى أكثر من ممارسة حياته اليومية في الفراغ العام. لا يحتاج الأمر إلى أكثر من أداة اتصال بشبكة الإنترنت مزودة بكاميرا، أو بعبارة أخرى، أي هاتف ذكي قد لا يزيد ثمنه عن عدة مئات من الجنيهات.
ما يستفز المجتمع المصري فيما أقدمت عليه فتيات التيك توك لا يختلف عما يستفزه في سلوك الفنانات أو نساء الطبقات الأكثر ثراء، في جميع هذه الحالات ما يثير فزعه هو أن امرأة ما تجاهر بالتصرف في جسدها بإرادتها المستقلة عن إرادة الذكور في عائلتها أو إرادة المجتمع كذكر افتراضي له وحده حرية التصرف في أجساد نسائه. يقبل المجتمع مضطرا وعلى مضض انتهاك فئات بعينها من النساء لاحتكار الذكور الحق في التصرف في أجسادهن، وانتزاعهن هذا الحق لأنفسهن، وهو يعاقبهن بالوصم وتعقبهن بالإساءات اللفظية وما هو أكثر كلما سنحت الفرصة. ولكن انهيار الحدود الفاصلة بين هذه الفئات المحدودة وغيرها من السواد الأعظم لنساء المجتمع هو بالتأكيد أمر لا يطيق المجتع تصوره، وأي إشارة إليه ستثير فزعه وهلعه وستدفعه بالضرورة إلى محاولة القضاء على هذه الإمكانية في مهدها وباستخدام أقسى التدابير الممكنة.
ما يستفز المجتمع المصري فيما أقدمت عليه فتيات التيك توك لا يختلف عما يستفزه في سلوك الفنانات أو نساء الطبقات الأكثر ثراء، في جميع هذه الحالات ما يثير فزعه هو أن امرأة ما تجاهر بالتصرف في جسدها بإرادتها المستقلة عن إرادة الذكور
الجريمة التي ارتكبتها حنين ومودة هي قبل أي شيء آخر، أنهما فتاتان عاديتان تشبهان تماما ملايين الفتيات في مصر، ولكنهما باستخدام أدوات بسيطة تماما، متاحة لأي فتاة من عمرهما، تخطيتا دون أن تدري أي منهما حاجز امتلاكهما لجسديهما. لم تتبنى أي منهما أيديولوجيا نسوية، ولم يكن لأيهما أهداف تحررية، ولا حتى التحرر من الاعتماد المالي على أسرهن في حد ذاته. لقد تتبعتا بتلقائية كاملة تبلغ حد السذاجة الوعد البسيط بقدر من الشهرة وبعض المكسب المادي، وهو ما قد يتطلع إليه أي شخص، ولن يتردد في السعي للحصول عليه، خاصة إن كانت سبل تحقيقه بالغة السهولة وبلا أي تكلفة استثنائية. ومن ثم فالمثال الذي ضربته حنين ومودة لغيرهن بل وجرؤن على دعوة إخريات إلى أن يتمثلن به، هو في الحقيقة سهل ومتاح للجميع، وهو بذلك يقوض كافة التحصينات الطبيعية التي حالت حتى اليوم دون أن يكون انتزاع النساء الحق في التصرف في أجسادهن أمرا في متناول أيدي الغالبية العظمى منهن، ومعه أيضا فرصة الاستقلال المادي.
عقد البعض مقارنة بين عدم تقديم متهمين بالاغتصاب الجماعي إلى المحاكمة، وقدر التسامح الذي تعامل به المجتمع مع الأمر، وبين الحكم الأخير وعقوباته القاسية ضد فتيات التيك توك. التفسير الذي يزيل التناقض الظاهري، هو أن ما يثير فزع المجتمع التقليدي حقا هو أن تسترد امرأة سيطرتها على جسدها وأن تمارس هذه السيطرة بإرادتها الحرة، أما أي تداول للرجال لأجساد النساء، حتى وإن كان اغتصابا لها، فقد يتم توصيفه كجريمة، ولكنه يبقى جريمة اعتيادية، مجرد تعدي على ملكية الغير. بعبارة أخرى الاغتصاب، مهما بلغت بشاعته وقدر الأذى الذي يوقعه على جسد ونفس المرأة لا يخرج عن (طبائع الأمور)، لا يهدد (ثوابت المجتمع) والتي تتمثل تحديدا في أن أجساد النساء ملكية حصرية للذكور، يتبادلونها في أطر شرعية أو يتعدون على ملكية بعضهم البعض لها فيستحقون العقاب أحيانا، أو التغاضي عن فعلتهم أحيانا أخرى، خاصة إن أمكن إلقاء التهمة على المرأة نفسها، بتحميلها المسؤولية عن “التفريط في جسدها” بما يعد تلميحا للمعتدي بأنه متاح (بلا صاحب).
ربما ليست تهمة “الإتجار بالبشر” بعيدة تماما عن الكيفية التي يرى بها المجتمع جريمة حنين ومودة، حتى وإن كانت مجرد حيلة قانونية لرفع كلفة العقوبة الموقعة عليهما. لقد دعت الفتاتان غيرهما إلى أن تتمثلن بهن، أي أن تسترددن ملكية أجسادهن، ليس لبيعها وإنما ليستخدمنها كما يشأن على أي حال. ولكن المجتمع لا يرى في أجساد النساء إلا سلعة يتبادلها الذكور، وفي حال امتلكت أي امرأة جسدها فلا يمكن لخيال المجتمع أن يذهب إلى أبعد من أن يكون امتلاكها لجسدها هو بغرض بيعه إلى ذكر ما في النهاية. وربما لا تكون تهمة “التعدي على قيم الأسرة المصرية” بدروها بعيدة عما اقترفته حنين ومودة، مرة أخرى في أعين المجتمع، فهذه الأسرة لا زالت في صورتها التقليدية تقوم على ملكية ذكورها لأجساد نسائها. ما حدث إذن هو أن المجتمع هو من صاغ الاتهامات وترك لذراعه القضائي أن يضعها في صورة تشبه صياغات مواد القانون، ليوقع في النهاية العقوبة التي أرادها المجتمع منذ البداية.