حققت السودان طفرة غير مسبوقة في إنتاج الذهب خلال السنوات العشر الأخيرة. واحتلت المرتبة الثالثة في إنتاجه أفريقيًا بعد جنوب أفريقيا وغانا، وسط توقعات بوصولها للمرتبة الثانية بنهاية العام الجاري، وهو أمر جدير بالتنقيب حول حيثيات تحوّلها لـ”دولة ذهبية” خلال تلك الفترة.
يعود الفضل في تحقيق الطفرة إلى “الدهَابة”، وهم الأهالي الذين عملوا في التعدين، وتمكنوا من الوصول إلى الذهب في “بطن الصحراء” الممتدة، وتغلبوا على المصاعب التي واجهوها في سبيل الثراء، وحلم الوصول إلى الكنوز التي لمستها أيديهم.
من هنا كانت البداية
بنهاية عام 2006، عثر القاطنون في صحراء ولاية نهر النيل، عن طريقة الصدفة، على الذهب السطحي؛ وهو ما غير موازين الحياة ليست في الولاية فحسب بل وفي جميع أنحاء السودان.
وخلال عام 2008 عجت صحاري السودان بالباحثين عن الثراء وتوجه الكثير من الحالمين نحو التنقيب؛ ما غير ملامح العمل في الدولة.
وعام 2012 كان البداية الحقيقية للاستخراج المنظَّم، فاكتشفت كميات كبيرة من الذهب في تلال جبل عامر. وقدرت بعض التقارير الأمر بأن كل 50 كيلو جرام من التربة يحتوي على كيلو من الذهب الخالص، فأصبحت المنطقة جاذبة للجميع من دول الجوار والسكان المحليين.
ويقدر العاملون في القطاع والأنشطة المساندة له، وفقاً لإحصائيات عام 2015، بنحو 5 ملايين مواطن في أكثر من 80 موقعا تعدينيا، منتشر في 12 ولاية سودانية. وأسهمت عائدات الذهب آنذاك بنسبة 2% من إجمالي الناتج المحلي للبلاد.
وخلال السنوات الأخيرة لحق بهم رجال الأعمال وطوروا العمل في القطاع وأدخلوا الأجهزة الحديثة التي تساعد في الكشف عن المعادن السطحية، وتطور الأمر تمامًا بدخول الشركات الأجنبية أيضاً.
وفي عام 2017 وصل إنتاج الذهب لذروته بنحو 107 أطنان، وحافظت السودان على متوسط إنتاج سنوي من الذهب يقدر بنحو 100 طن، إلا أن عددا من المختصين أكدوا أن الإنتاج السنوي الفعلي يتجاوز 200 طن، ولكن أغلبه نتاج عمل الأهالي لا يخضع للإحصائيات الرسمية.
أصحاب النفوذ والسلاح
ظهور المعدن الأصفر ترتب عليه ظهور عدد من الشركات التي تعمل في التنقيب وتتبع بعض العسكريين ورجال الأمن وأصحاب النفوذ في البلاد.
وحيثما وجدت سبل الثراء السريع ظهر السلاح. ونشبت الصراعات بين القبائل، كما ساهمت حكومة الرئيس المعزول عمر البشير في تأجيج حروب الذهب تحت لافتة السيطرة على المتمردين، في حين أنها اتجهت للسيطرة على ذهب جبل عامر.
وللحد من الصراعات والحروب الطاحنة على الذهب، تدخلت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتمكنت من السيطرة على أغلب إنتاج المنطقة من الذهب.
خريطة الذهب في السودان
ينتشر الذهب بشكل كبير من الساحل الشرقي على البحر الأحمر لأقصى الغرب ومن أقصى الشمال إلى الخرطوم.
ويتوفر المعدن الأصفر الناتج من تحول الصخور البركانية والرسوبية في المنطقة الممتدة من وادي حلفا وحتى عطبرة. ويتوفر المعدن بتركيزات عالية في منطقة الأرباب وأبو صاري بولاية البحر الأحمر.
وأشارت تقارير إلى أن الذهب الرسوبي يتوفر في شمال شرق السودان وجنوب دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان وجبال النوبة.
العمل الموازي وتأثيره على عوائد الذهب
يستحوذ قطاع التعدين التقليدي الممثل في الأهالي “الدهَابة” على نحو 75% من إنتاج الذهب ما أدى إلى صعوبة الإحصاء الدقيق لحجم المستخرج منه محليا.
ونتيجة احتكار البنك المركزي لشراء الذهب بسعر ثابت وزهيد بحسب الأهالى، جرى فتح قنوات البيع غير الرسمي أو ما قيل إنه “تهريب” في محاولة لتحقيق آمال الطامحين في تحقيق الثراء السريع.
وكشفت الشركة السودانية للموارد المعدنية أن الإنتاج الرسمي من الذهب لا يتعدى الـ 25% من الإجمالي. وأن المتبقي يعود للأهالي الذين آثروا العمل في مجال استخراج الذهب لما يحققه من ربح سريع وثراء.
وتورط عدد من رجال الدولة والجيش والنافذين في تهريب الذهب بالتعاون مع مستخرجيه أو من خلال شرائه في السوق الموازي وتهريبه للخارج. ما دفع الحكومة للتعامل مع الأمر بتحرير صادرات الذهب في محاولة لضبط التعاملات وتقنينها وتوفير العائدات النقدية المهدرة.
تعاقدات جديدة
ومنحت الحكومة السودانية تسع تعاقدات جديدة تتيح امتياز التعدين في 17 يونيو الجاري، بعد التدفق الملحوظ الذي شهدته من الشركات الأجنبية التي أسرعت راغبة في العمل على الاستثمار بداخلها في الذهب والنحاس.
والتعاقدات الجديدة منها 8 خاصة بالذهب وواحد فقط لمعدن النحاس، بعد التحرر النسبي في إبرام العقود وفتح المجال الاستثماري في البلاد على إثر رفع العقوبات الأمريكية التي كانت مفروضة على الخرطوم ما أتاح للمستثمرين الأجانب العمل بداخلها.
وزير المعادن السوداني، محمد البشير، كشف عن تفاصيل الاتفاقيات التي وقعت في مجال التعدين قائلاً: حصلت ثلاث شركات من العراق والصين وجنوب أفريقيا على أربعة امتيازات لتعدين الذهب، بينما حصلت شركة أرمينية على امتياز النحاس، بالإضافة لحصول أربعة شركات محلية على امتياز تعدين الذهب.
ولفت البشير إلى أن المناطق التي اتفق على خضوعها لامتياز التعدين تتمثل في، ولاية البحر الأحمر، وغرب كردفان، والولاية الشمالية.
يذكر أن وزير المعادن أكد في بيان رسمي صادر بشأن مراسم توقيع الاتفاقيات التسع أكد فيه أن إجمالي ما تم بيعه من الذهب خلال الفترة من 2015 لـ 2020 تقدر بنحو 13 مليونا و327 ألفا و657 جراماً بقيمة 437.983.965 دولاراً، وأن المبيعات في الفترة من مارس حتى مايو من العام الجاري تقدر بنحو 36295.970 دولارا.
السودان تذلل عقبات التعدين
كما بدأت الحكومة الرفع التدريجي للقيود التي فرضت على بيع الذهب المحلي. فقررت إنهاء احتكار البنك المركزي لمشترياته للعمل على تعزيز نشاط المنتجين له وفتح المجال أمام الاستثمار الخارجي.
ولم تقتصر الخطوات التي نفذتها الحكومة السودانية على ذلك، بل اتخذت عددًا من القرارات لتطوير صناعة التعدين وتكثيف العتاد اللازم لها في ضوء عملها الذي يستهدف منح صناعة التعدين نطاق أوسع لتحقيق طفرة أكبر وتميز عالمي. مع الاحتفاظ بخصوصية مكانة الذهب باعتباره الأكثر أهمية خلال الفترة الأخيرة والأكثر جذباً للاستثمارات الخارجية والأهالي العاملين في التنقيب عنه.
وخلال العام الماضي، جرى فتح المجال أمام القطاع الخاص للعمل بعد احتكار البنك المركزي لشراء الذهب المحلي بسعر ثابت، ما كان له تأثير كبير في فتح المجال أمام التجارة غير المشروعة والتهريب. وتم السماح لهم بالتعامل مع جميع الصادرات ما أنعش العمل في مجال التعدين نسبياً.
كما تم تكثيف الجهود لمنع التهريب الذي أفقد السودان ملايين الدولارات في الآونة الأخيرة للحفاظ على مصدر ثابت وقوي لتدفق العملة الأجنبية والاستثمارات للبلاد. وتمت الموافقة أيضاً على إنشاء بورصات للذهب والمعادن والسلع الزراعية.
بعد انفصال الجنوب.. الذهب يعوِّض فقد النفط
تبخر جانب كبير من طموح السودان في المجال النفطي مع انفصال الجنوب عام 2011 الأمر الذي جعل من ظهور الذهب وتعدينه ملاذاً آمناً لتعويض النتائج المترتبة على أزمة النفط وفقدانها نحو 75% من عائدات إنتاجه.
وكان البترول قبل عام 2011 مصدر العائدات السودانية الوحيد بنسبة تجاوزت الـ90% من الدخل العام، قبل أن يحدث الانفصال وتتدخل الولايات المتحدة الأميركية بفرض العقوبات وإجراءات حظر على الاقتصاد بشكل عام وكلها أمور حرمتها من تلك الثروة وأفقدتها القدرة على الاعتماد على النفط بل كادت تقضي على عوائده تماماً إلى أن احتل مكانه المعدن الأصفر.
وهناك نحو 435 شركة تعمل في السودان على التنقيب منها الإماراتية والمصرية والسعودية والقطرية واستحوذت شركة “مناجم المغربية” على 65% من مشاريع توسعة “منجم قبقبة” بعد إتمامها اتفاق مع شركة “وانباو” الصينية..
وأكد وزير الطاقة والتعدين السوداني، عادل علي إبراهيم، أن عائدات الذهب السنوية أصبحت تقدر بنحو 5 مليار دولار، بإجمالي إنتاج يسجل نحو 120 لـ 200 طن.
اتهامات للإمارات بالاستحواذ على ذهب السودان
في وسط هذه الطفرات، مع وجود صراعات داخلية وحالة فوضى تخللت أعمال التعدين والتجارة غير المشروعة، توجهت أصابع الاتهام للإمارات للسيطرة على مستخرجات الذهب السوداني.
في هذا يقول تقرير صادر عن مؤسسة “غلوبال ويتنس”، إن الإمارات كانت تستورد الذهب السوداني الذي تسيطر عليه الميليشيات المسلحة من خلال شركة “كالوتي” التي تدير مصفاة الذهب.
والتقرير المنشور على موقع المؤسسة، أكد أن شركة “فالكامبي” السويسرية حصلت على كميات كبيرة من الذهب من “كالوتي” الإماراتية. وأرجع التقرير أصول الذهب إلى الجماعات المسلحة في دارفور.
وجاء في نص التقرير: أنه بين عامي 2012 و2019 ، حصل كالوتي على كميات كبيرة من الذهب من بنك السودان المركزي، الذي اشترى الذهب من مناجم جبل عامر في دارفور، التي تسيطر عليها الميليشيات العنيفة المسؤولة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الصراع الأهلي المستمر منذ فترة طويلة في دارفور.
مديرة الحملات في غلوبال ويتنس سيما جوشي قالت: “ما كشفناه عن احتمال حصول كالوتي على الذهب السوداني المرتبط بالصراع وانتهاكات حقوق الإنسان يضيف إلى سمعة الشركة التي تمثل إشكالية بالفعل، وهو ما يوضح بشكل صارخ نقاط الضعف النظامية في تجارة الذهب. ويسمح الموردين ذوي ممارسات التوريد المشكوك فيها بدخول سلاسل التوريد الدولية التي يُفترض أنها ذات سمعة طيبة”.
وأضافت مديرة الحملات في المؤسسة: “لقد حان الوقت لأن يتخطى أصحاب المصلحة الرئيسيين في قطاع الذهب الكلام والعلاقات العامة إلى العمل الحقيقي لضمان عدم استمرار الذهب في تأجيج وتمويل النزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان”.
وطالب التقرير حكومتي الإمارات وسويسرا بـ”إنفاذ تشريعات صارمة بشأن العناية الواجبة في سلسلة التوريد، وإجراء عمليات التدقيق بطريقة هادفة وفرض عقوبات مناسبة على المصافي التي تنتهك معاييرها”.