لستُ من المعجبين بآراء الكاتب والمفكر الراحل الدكتور مصطفى محمود، وعلى الرغم من ذلك فإنني أتذكر دائما عبارة وصف بها أحد جوانب الفطرة الطبيعية، قائلا: “حتى القطة حين تسرق طعاما من إحدى أواني المطبخ، فإنها تختبيء لتأكله بعيدا كأنها تدرك أنه ليس لها”.
لهذا فإنني لا أعبأ كثيرًا بالمحاولات المبذولة مثلا لشرح الفارق بين الغزل، وبين التحرش أو المطاردة الجنسية، لقناعتي بعدم صدق من يزعمون أن الأمر يختلط عليهم، وكأن المرء منهم يعيش حياته الطبيعية كشخص بالغ فيعمل ويلهو ويبيع ويشتري ويمشي في الأسواق، فإذا التقى امرأة تصرف فجأة كأنه ارتد طفلا صغيرا لا يعرف الفرق بين أبسط قواعد التصرف الإنساني.
مزاعم الجهل والغفلة اختفت فجأة، إذ لا ضرورة لها في هذه الحال، وحلت محلها حجج “الحقوق الشرعية”
مع ذلك فإننا حين ننتقل من التحرش وأكاذيب المتحرشين، إلى قضية الاغتصاب الزوجي التي خرجت إلى نقاش الرأي العام عدة مرات في الأشهر الأخيرة، فإننا نجد أن مزاعم الجهل والغفلة اختفت فجأة، إذ لا ضرورة لها في هذه الحال، وحلت محلها حجج “الحقوق الشرعية”، وإذا بالكثير جدا من الرجال، مقتنعين أشد الاقتناع بأن للزوج أن “يأخذ حقه” من زوجته، أي –في تلك الحالة – معاشرتها جنسيا، بالقوة والإكراه لو امتنعت عليه لأي سبب، وحين أستخدم لفظ “الرجال” بدلا من “المتزوجين” فذلك لأن الكثير ممن يؤمنون بذلك ليسوا متزوجين بعد، ومن نافلة القول أن من النساء من لديهن نفس القناعة ضد أنفسهن، وليس ذلك غريبا فالثقافة المهيمنة –الذكورية في تلك الحالة- من طبعها ألا تقتصر على المستفيدين منها.
لكن لماذا يؤمن هؤلاء الرجال بأن من حقهم مواقعة زوجاتهم كرها؟
تقول الحكمة الصينية “راقب كلماتك لأنها ستتحول إلى أفعال”. وربما تبدأ مشكلة الاغتصاب الزوجي من الكلمة التي نصف بها المعاشرة الزوجية، وهي عبارة “الحقوق الشرعية“، إن “الحق” وفق التعريف هو “قدرة أو سلطة إرادية يخولها القانون لشخص معين”، وفي حالة “الحق الشرعي” يحل الشرع محل القانون أو يكون هو مصدره. وحتى إذا أزحنا القانون جانبا، فإن مجرد إيمان الفرد بأن شيئا أو فعلا ما “من حقه” كفيل بأن يجعله يسلك كل السبل للوصول إليه، عملا بمقولة “إن الحقوق تُنتزع ولا تُمنح، أو تنتزع إن لم تمنح!”
القواعد الفقهية التي كرست، أو تجاهلت مسألة المواقعة الزوجية بالإكراه، هي قواعد تعود إلى أزمنة لم يكن للجسد فيها الحق في السلامة
لكن القواعد الفقهية التي كرست، أو تجاهلت مسألة المواقعة الزوجية بالإكراه، هي قواعد تعود إلى أزمنة لم يكن للجسد فيها الحق في السلامة، ذلك الحق الذي كرسته القوانين والمواثيق الحديثة، كان ذلك زمنا تطبق فيه عقوبات الجلد والضرب وقطع أجزاء من الجسد، كان ذلك زمن السبايا والجواري وعصر ما قبل معاهدة جنيف لحقوق الأسرى. أما الزمن الذي نعيشه، زمن القانون المدني والميثاق العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، فإنه زمن أسبغ على الجسد الحماية القانونية، وعرّف السلامة الجسدية بأنها “حُرمة الجسد المادي” و”حرية إرادة الأشخاص على أجسادهم”. كما قرر أن الاعتداءات الجنسية هي جزء من الاعتداءات العنيفة التي ينبغي حماية الإنسان منها تماما كالحماية من التعذيب والعبودية والسخرة. ولسنا بحاجة للقول أن تلك التعريفات لا تتغير في حالة كانت المرأة متزوجة أم لا، أو إن كان المعتدي هو زوجها وليس شخصا غريبا، في الواقع إنه من المثير للسخرية أن يكون زواج المرأة تبريرا لإتاحة إجبارها على الممارسة الجنسية، بدلا من أن يكون حماية لها من الاعتداءات الجسدية.
وباختصار، في الزمن الحديث، لا يمكن لأن يكون لأي شخص “حقًا” في جسد شخص آخر، مهما أسبغنا على تلك “الحقوق” من مسميات القداسة.